نبض أرقام
01:59
توقيت مكة المكرمة

2024/05/20
2024/05/19
15:21
14:03
13:49
12:21

كيف "أفسدنا" الاقتصاد وجعل الخطأ مقبولًا؟

2019/10/19 أرقام - خاص

على مدى السنوات الخمسين الماضية، تغيرت الطريقة التي نقدر بها ما هو "جيد" و"صحيح" مقارنة بما هو "سيئ" و"خاطئ" بشكل كبير، وبناء على ذلك فإن السلوك الذي بدا لأجيال سابقة غبيًا أو ضارًا يبدو الآن عقلانيًا وطبيعيًا ومنسجمًا في منطق الأشياء.

 

 

الأنانية

 

وفي كتابه "رخصة لتصبح سيئًا: كيف أفسدنا الاقتصاد" يؤكد "جوناثان ألدريد" أستاذ الاقتصاد في جامعة "كامبريدج" أن ما حدث من تغييرات عنيفة يرجع بشكل كبير إلى الأفكار التي صبها علم الاقتصاد في عقول الكثير من المعاصرين لا سيما المسؤولون والمفكرون.

 

ويقول "ألدريد" إن أول نقاط "الإفساد" كانت في اعتبار الرعيل الأول من المفكرين الاقتصاديين أن الأنانية هي المحدد الطبيعي السائد للسلوك الإنساني، واعتبارها بمثابة "غريزة" لا يجب التعامل معها أو علاجها، ولكن قبولها كأمر واقع يتم التعامل معه.

 

وعلى الرغم مما أورده "آدم سميث" في كتابه الشهير "ثروة الأمم" من ضرورة "ترسيخ تعاطفنا الإنساني مع بعضنا البعض" على سبيل المثال، إلا أن "سميث" نفسه يعتبر أنه لا يجب الوثوق تمامًا بنوازع البشر الساعية دومًا للاحتكار، وأن المنافسة الكاملة هي الوسيلة الوحيدة لقمع "الرغبة الطبيعية" في الاستحواذ.

 

ولذلك يبدو الكتاب في هذه الجزئية بمثابة دليل أخلاقي يعترف بوجود سلوك إنساني معيب، ويدعو "نظريًا" لتغييره، لكنه يقبل واقعيًا باستمراره بل ويبحث له عن "حل غير أخلاقي" يتمثل في آليات السوق الحر، فبدلًا من البحث عن حل أخلاقي أو حتى قانوني لمشكلة متعلقة بسلوك الأفراد، يوجد "سميث" حلًا اقتصاديًا (اتضح أنه غير ناجع).

 

الاحتكار "أخلاقيًا"

 

وفي الدول الرأسمالية نفسها، تحولت جريمة الاحتكار من جريمة أخلاقية إلى أخرى سياسية وفقًا للقوانين الغربية، فحتى عام 1850 كانت عقوبة الاحتكار السجن في الولايات المتحدة، ولكنها تغيرت بعد ذلك لتصبح غرامة مالية، بما أفقد التهمة الكثير من أبعادها الأخلاقية من ناحية، وجعل كُلفة ارتكابها أقل من ناحية أخرى.

 

وعلى الرغم من أن التغير في الأفكار الاقتصادية بدأ قبل قرنين من الزمان تقريبًا إلا أن الأمر تفاقم مع إقناع مجموعة من الاقتصاديين اليمينيين صناع السياسة، وخاصة في حكومات "مارجريت تاتشر" في المملكة المتحدة و"رونالد ريغان" في الولايات المتحدة، بتبني أفكارهم.

 

فتلك الأفكار قامت أول الأمر على منع أي تحرك اقتصادي يعرقل النمو، بما في ذلك إقامة "شبكة الأمان" للرأسمالية بتوفير الاحتياجات الرئيسية للمعوزين، ليعمل الاقتصاد بمبدأ يقر تمييزًا بين المواطنين في الدولة الواحدة وفقًا لإسهامهم الاقتصادي، ولا يدع مجالًا لهؤلاء العاجزين عن المساهمة في الإنتاج لسبب أو لآخر.

 

 

ويشير "ألدريد" إلى أن هيمنة نظريات الاقتصاد الجزئي في عالم الاقتصاد الكلي كان لها أثر سلبي للغاية، ومن ذلك تأثير "ميلتون فريدمان" الذي اعتبر الشركات ملزمة بزيادة الأرباح، معتبرًا الحديث عن مسؤولية اجتماعية للشركات بمثابة "غياب للنضج الاقتصادي".

 

وعلى الرغم من أهمية نظرية الألعاب لـ"جون ناش" في عمل تحليلات إحصائية للاقتصاد إلا أن الإسراف في اعتماد نظريات الخيار المنطقي كثيرًا ما جعلت الاقتصاد يبدو علمًا معمليًا وليس أحد العلوم الاجتماعية والإنسانية.

 

"تاتشر" نموذجًا

 

ويضرب الكتاب مثلًا بـ"فريدريك هايك" الاقتصادي النمساوي ذي التأثير الكبير على رئيسة الوزراء البريطانية السابقة "مارجرت تاتشر" والذي دعاها لتبني مبادئ اقتصادية أسهمت في اتساع الفجوات الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء بعدها.

 

فبعد أن كان الـ40% الأفقر من البريطانيين يحصلون على دخل مواز لـ0.5% الأغنى، أصبحت النسبة 48% بعد نهاية عهد "تاتشر" بما يؤشر لاتساع رقعة الفقر والتمييز الاقتصادي.

 

والشاهد وجود تأثير من المؤسسات الاقتصادية العالمية، والشركات الكبرى على مراكز الأبحاث الاقتصادية، لدفع مفكريها لتبني مجموعة من المبادئ الاقتصادية النظرية، مثل إقرار خفض الضرائب كمحفز رئيسي للنمو، بما يسهم في زيادة حصيلة الشركات.

 

ويأتي ذلك بجانب ما تمارسه الشركات من ضغوط على الحكومات بشكل مباشر ليحققوا مصالحهم بشكل جماعي من خلال "فكر اقتصادي" داعم لمصالحهم من جهة، وبشكل فردي من خلال قدرة كل شركة على الضغط منفصلة عن بقية الشركات.

 

 

ويلفت الكتاب النظر إلى ما سمّاه "الحل الناجع" الذي قدمه الاقتصادي النمساوي "كارل بولاني" في بداية القرن الماضي، ويقر وجود نظام حر اقتصاديًا، ولكنه وفي الوقت ذاته يشدد على دور اقتصادي وأخلاقي وقانوني موازٍ يعمل على تدارك سلبيات النظام الاقتصادي.

 

ويرى الكاتب ختامًا أنه ما بقي الاقتصاد والاقتصاديون متناسين لطبيعة الاقتصاد كعلم اجتماعي يهتم أول ما يهتم بالإنسان وليس بتعظيم الموارد أو الأرباح فحسب، فإنه سيبقى هادمًا للأخلاقيات التي يشكو الجميع من تدهورها المستمر دون أن يدركوا لذلك سببًا.

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة