نبض أرقام
02:14
توقيت مكة المكرمة

2024/05/20
2024/05/19
15:21
14:03
13:49
12:21

الغذاء كسلاح .. أقوى من الصواريخ؟

2020/06/20 أرقام - خاص

عندما خطا "ريتشارد نيكسون" خطواته الأولى إلى البيت الأبيض كرئيس للبلاد في يناير 1969 كانت الولايات المتحدة تمر بأزمة عصيبة أمل الأمريكيون أن يستطيع الرئيس الجمهوري إخراجهم منها، ولكن في غضون 6 سنوات من ترؤسه للبلاد أصبح "نيكسون" مسؤولاً عن أول هزيمة عسكرية تتعرض لها الولايات المتحدة في تاريخها بعد خسارتها لحرب فيتنام.
 

مئات الآلاف من الطلاب الأمريكيين ساروا في شوارع واشنطن احتجاجًا على حرب كانوا يرونها غير منطقية تمامًا ولا مبرر لها، وفي ميدان المعركة بفيتنام انهارت معنويات الجنود الأمريكيين الشباب إلى أدنى مستوياتها مع انتشار إدمان المخدرات بينهم وازدياد حالات التمرد على الأوامر وهو ما دفع بعض الغاضبين منهم إلى قتل قادتهم.
 

   

كان الشبان الأمريكيون يعودون إلى بلادهم قادمين من فيتنام في أكياس الجثث بالآلاف، في تلك الأيام كانت وزارة الدفاع الأمريكية لا تزال تسمح للصحافة بتصوير الموتى العائدين.
 

وبعيداً عن السياسة والأوضاع العسكرية كان الاقتصاد الأمريكي هو الآخر يعاني، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتفوق فيها الأوروبيون واليابانيون صناعيًا على الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال تشييدهم لقطاعات صناعية أحدث وأكثر كفاءة مقارنة مع نظيرتها الأمريكية.
 

أمريكا فوق صفيح ساخن
 

عندما تولى "نيكسون" منصبه في 1969 كان الدولار الأمريكي يستعد للدخول في أزمة حادة، وذلك على خلفية مطالبة الكثير من البنوك المركزية الكبرى حول العالم بمبادلة حيازاتها الدولارية بالذهب مستفيدة من فوائضها التجارية المتزايدة مع الولايات المتحدة في ذلك الوقت.
 

بدأ التفوق الصناعي الأمريكي المستمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في التلاشي بسرعة لأن المصانع التي بني معظمها قبل الحرب وأثناءها أصبحت متقادمة مقارنة مع المصانع المشيدة حديثًا بعد الحرب في أوروبا واليابان.
 

   

وما زاد الأمور سوءًا هو ارتفاع حجم الديون الأمريكية بوتيرة شديد التسارع. ففي الفترة ما بين عامي 1960 و1974 ارتفعت ديون الشركات وديون الرهن العقاري والديون الاستهلاكية وديون الحكومات المحلية مجتمعين بنسبة بلغت 300%. وخلال نفس الفترة ارتفعت ديون الحكومة الأمريكية بأكثر من 1000%.
 

بحلول أوائل السبعينيات كانت الولايات المتحدة بكل المقاييس التقليدية في أزمة اقتصادية وسياسية عميقة، أزمة حجمت من تأثيرها وهيمنتها على الشئون العالمية وأثرت على أدوات نفوذها كأحد قطبي العالم في ذلك الوقت إلى جانب الاتحاد السوفيتي.
 

لذلك أصبح لزامًا على الساسة الأمريكيين إيجاد وتطوير أدوات نفوذ جديدة من شأنها تمكين واشنطن من الحفاظ على هيمنتها ودعم مصالحها وحلفائها حول العالم.
 

ومن هنا برز الغذاء كركيزة حيوية لهيمنة اقتصادية أمريكية جديدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عبر تحويله إلى سلاح يمكن من خلاله معاقبة الأعداء ومكافأة الحلفاء، وذلك من خلال استغلال القوة الجيوسياسية للولايات المتحدة باعتبارها أكبر منتج للفائض الغذائي في العالم في ذلك الوقت.
 

وكان الداعم الأبرز لهذه السياسة وعرابها إن جاز التعبير هو وزير الخارجية الأمريكي الأشهر على الإطلاق "هنري كسينجر" والذي بدأ بدعم من كبرى شركات تجارة الحبوب الأمريكية دبلوماسية عدوانية أطلق عليها اسم "Food as a Weapon" أو "الغذاء كسلاح".
 

 
مع تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة في 20 يناير 1969 عين "نيكسون" "كسينجر" مستشارًا للأمن القومي وهو المنصب الذي ساعده على لعب دور حيوي في توجيه دفة السياسة الخارجية الأمريكية، وبحلول عام 1973 ومع تعيينه وزيرًا للخارجية أصبح "كسينجر" يسيطر بشكل كامل تقريبًا على كل أدوات السياسة الخارجية الأمريكية.

 

فبصفته وزيرًا للخارجية ومستشارًا للرئيس لشئون الأمن القومي جعل "كسينجر" الغذاء أحد المحاور الرئيسية لدبلوماسيته إلى جانب النفط، وربما لا يوجد أفضل من يوضح فلسفة "كسينجر" من "كسينجر" نفسه الذي قال في تصريح شهير له: "إذا كنت تتحكم في النفط فأنت تتحكم في الأمم. وإذا كنت تتحكم في الغذاء فأنت تتحكم في الناس".
 

ومن أبرز ضحايا دبلوماسية "كسينجر" العدوانية كانت "تشيلي" التي توضح قصتها المستوى الأخلاقي للدبلوماسية الأمريكية التي ساهمت في نهاية المطاف في قتل "سلفادور أليندي" أول رئيس منتخب في تاريخ البلاد.
 

كيف أثار الأمريكان الاحتجاجات ضد "أليندي"؟
 

بعد انتخاب الشعب التشيلي للطبيب والسياسي "سلفادور أليندي" في نوفمبر 1970 ليصبح أول رئيس منتخب في تاريخ البلاد، سعى الرجل لتنفييذ إصلاحات اقتصادية من شأنها مساعدة البلاد في الخروج من فلك الهيمنة الأمريكية، وهو ما لم يعجب واشنطن التي دبرت من خلال "كسينجر" حصارًا اقتصاديًا ضد حكومة "أليندي" بدأ بتعليق الخطوط الائتمانية التي تستخدمها البلاد في شراء حاجاتها من الغذاء.
 

في الوقت نفسه، حرّض مسؤولون في وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة الاستخبارات "سي آي إيه" سرًا كبار مالكي الأراضي الأثرياء في تشيلي على تخريب إنتاجهم الزراعي من أجل تضييق الخناق على حكومة "أليندي" التي ستجد نفسها مطالبة بإطعام الناس وهو ما سيدفعها إلى مضاعفة وارداتها من الغذاء وبالتالي استنزاف احتياطيات البلاد من العملة الأجنبية.
 

  
خوفًا من سياسات اليساري "أليندي" التي ستنحاز للفقراء على حسابهم قام كبار ملاك الأراضي التشيليين بتنفيذ التعليمات الأمريكية، لتضاعف واردات تشيلي الغذائية في غضون عام وتصل إلى 271 مليون دولار في 1971 قبل أن تقفز إلى ما يقدر بنحو 383 مليون دولار في عام 1972.

 

مع استنزاف احتياطات البلاد من النقد الأجنبي وتعليق الولايات المتحدة لخطوط الائتمان وتآمر كبار مالكي الأراضي المحليين واجهت تشيلي صعوبة كبيرة في تلبية احتياجاتها الغذائية.
 

كان النقص الحاصل في المعروض الغذائي عاملاً مهمًا في خلق وإثارة حالة من الاستياء من حكومة "أليندي" بين الطبقة الوسطى. ولتعزيز هذا الاستياء وتوسعة نطاقه لم تكتف الولايات المتحدة بتعليق الخطوط الائتمانية لتشيلي، بل قامت قبل الانقلاب بفترة وجيزة برفض طلب من حكومة "أليندي" لشراء القمح نقداً بسبب ما قيل إنه "قرار سياسي من البيت الأبيض".
 

كيف تحول العدو إلى حليف؟
 

في الحادي عشر من سبتمبر 1973 تحولت تشيلي فجأة من عدو إلى أقرب حلفاء الولايات المتحدة مع تنفيذ الجيش التشيلي بزعامة "أوجوستو بينوشيه" لواحد من أكثر الانقلابات العسكرية دموية في التاريخ. انقلاب بدت فيه عاصمة البلاد سانتياجو كساحة حرب، حيث كانت الدبابات والمقاتلات النفاثة تطلق الصواريخ على المباني الحكومية.
 

بمجرد أن قتل الجيش "أليندي" حاولت الولايات المتحدة بشتى الطرق مساعدة المجلس العسكري الحاكم غير أن جهودها واجهت في البداية مقاومة شديدة من داخل الكونجرس، وهو ما اضطر البيت الأبيض إلى الاعتماد بشدة على برنامج "غذاء من أجل السلام" الذي أطلقه "أيزنهاور" في يوليو 1954.
 

 

احتجاجًا على السياسات القمعية التي فرضها المجلس العسكري وضع الكونجرس حدًا أقصى قدره 26 مليون دولار للمساعدات الأمريكية لتشيلي للعام المالي 1975. ورغم ذلك كان ذلك المبلغ هو ثاني أعلى المساعدات الأمريكية لدول أمريكا اللاتينية.
 

لكن البيت الأبيض الذي لم يعدم الطرق والأساليب التي تمكنه من مساعدة "بيونشيه" ورفاقه تحايل على الأمر من خلال رفع حصة تشيلي من المعونة الغذائية إلى 65.2 مليون دولار تحت غطاء برنامج "غذاء من أجل السلام".
 

ورغم ذلك لم تخفف المساعدات الأمريكية كثيرًا من معاناة الشعب التشيلي الذي تآكلت قوته الشرائية بسبب معدل التضخم الذي بلغ في ذلك الوقت نحو 600%. وربما كانت الطغمة العسكرية التي تحكم البلاد هي المستفيد الرئيسي من تلك المساعدات، حيث قللت المساعدات الأمريكية من الضغوط الواقعة على ميزان المدفوعات وهو ما وفر الأموال اللازمة لشراء سلع أخرى مثل الأسلحة.
 

في عام 1974 كانت تشيلي هي تاسع أكبر مشتر للأسلحة الأمريكية في العالم.
 


 

في تحول دراماتيكي آخر فاضح وكاشف أيضاً لازدواجية السياسة الخارجية الأمريكية تجاه تشيلي في ذلك الوقت، أمر البيت الأبيض – الذي كان قد رفض قبل أسابيع فقط بيع القمح ولو نقداً لحكومة "أليندي" – مؤسسة الائتمان السلعي التابعة لوزراة الزراعة بعد أيام قليلة من الانقلاب بتقديم قرض بقيمة 26 مليون دولار لتشيلي من أجل شراء القمح، تبعه قرض آخر بقيمة 28 مليون دولار في الأسابيع اللاحقة.
 

ما حدث مع تشيلي كان نموذجًا عمليًا لدبلوماسية "كسينجر" الذي سعى لاستخدام الغذاء كسلاح يكافئ به الحليف ويعاقب به العدو، الدبلوماسية التي ساهمت بشكل أو بآخر في مقتل "سلفادور أليندي" مع 36 من حراسه الشخصيين في قصره الرئاسي الذي قصفه الجيش بأربعة وعشرين صاروخًا ليلقى الجميع حتفه.
 

المصادر: أرقام - THE FOOD WEAPON - Seeds of Destruction- The World's Story

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة