إن من مظاهر النظام الاقتصادي العالمي القائم أن تغدو محاربة الجوع والفقر عنوانا يدخل في الترويج لكل الخطط والبرامج التي يعلن عنها النظام تحقيقاً لمصالحه، فمن ذلك مثلا: أن يُدعى العالم إلى المزيد من الاستهلاك وإلى التوسع في الائتمان الاستهلاكي بهدف معالجة الفقر! وأن تُدفع المجتمعات دفعاً للتوقيع على اتفاقيات التجارة الحرة لأن ذلك أنجع وسيلة لمحاربة الفقر، وتنشأ أحدث هيئة لتمويل “التجارة البينية” ومن أهم أهدافها: محاربة الفقر! وتوقف المساعدات لبعض الدول الفقيرة ويشترط لمنحها (تطبيق الحوكمة ومحاربة الفساد في حكوماتها) وذلك لرفع فعالية برامج القضاء على الفقر، ويقام من الهيئات الدولية ومن البرامج لمحاربة الفقر ويوظف فيها من كبار الموظفين وغلاة المستشارين والخبراء ما تكفي تكلفته للقضاء على الفقر حتى قيام الساعة.. ولكن يبقى الجوع والفقر وينتشر حتى يكاد يشمل المتقدم والمتأخر من الأمم.
وباسم محاربة الفقر تقام الحفلات الفارهة المزدانة بالحسناوات، وتدبج الاعلانات الملونة، وتطبع الملصقات بالألوان حيناً، وبالأبيض والأسود في أغلب الأحيان، لا من قبيل الاقتصاد والتوفير ولكن لتكون الصور فيها أشد إيحاء وتعبيراً عما تعرضه من مآس: أقفاص صدرية لأطفال جياع، وهياكل عظمية لنساء مرضعات، وعاهات سببها الفقر والجوع، صور وملصقات تنافس، في تسولها الدولي من أجل محاربة الفقر، خيال عتاة مافيا التسول وعصاباته، ومع كل ذلك يبقى الفقر والجوع ويضاف إليهما الأمراض الوبائية التي يصيب معظمها فقراء العالم خاصة، بينما يصر صناع وتجار الدواء (الأغنياء المتقدمون) على استمرار تقاضي أرباحهم أضعافا مضاعفة ويشنون أبشع الحروب الاقتصادية تحت شعار حماية الملكية الفكرية على من يحاول انتاج الدواء في الدول الفقيرة مستقلا، أو خارجا من نطاق الاحتكار وامتيازاته الصارمة!
بل ومن أجل محاربة الجوع والفقر قد تنهار دول وتُزال حكومات لتنبت في تربتها الجديدة، بسرعة مذهلة، طبقة أصحاب المليارات (تجاوز عددهم في انهيار الاتحاد السوفييتي وحده تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان وفوقهما محاربة الجوع والفقر، 53 مليارديراً روسياً يمتلكون 282 مليار دولار)! يتم كل ذلك ويبقى الفقر بعيدا كل البعد عن أن يتراجع أمام كل أشكال المعارك التي تشن ضده، والحروب التي تعلن عليه، والأسلحة التي تستخدم لقتاله.
وحدها كانت صادقة في حينها، إلى حد كبير، تلك التمنيات أو أحلام معالجة الفقر التي تم اقتراحها إبان الحوار بين الشمال والجنوب، والتي انتهت مع ثمانينات القرن الماضي لتسلم زمام اقتصاد العالم لنظام النهب المنظم ومعادلة الجدوى المادية وحدها، أو ما يعرف بهدف تعظيم الربح، كائنة ما كانت الوسائل التي تستخدم في ذلك.
ضاع، في زخم وزحام الدعوة إلى حاضنة العولمة التي تفرخ نموا وثراء يحرق كبد الأرض ويجفف عروق بشرها، تطلع أمثال محمد بدجاوي (المفكر والدبلوماسي العربي) إلى نظام اقتصادي عالمي أقرب إلى العدالة وأقدر على الحد من الفقر، (وذلك في مؤلفه باللغة الفرنسية بعنوان نحو نظام اقتصادي عالمي جديد والمنشور من قبل اليونسكوفي نهاية السبعينات من القرن الماضي).
ولم يعد يذكر الناس التحذيرالصريح الذي تضمنه تقرير الحوار بين الشمال والجنوب في ذلك الحين من ان استمرار وتفاقم الظلم واتساع الفقر والجوع ستقود العالم إلى الفوضى، بل نادرا ما نجد من يربط ما يعانيه عالم اليوم من فوضى اقتصادية وسياسية باستمرار واتساع الظلم والجوع والفقر، ويبدو أن الناس قد ملوا متابعة المنحى المتصاعد لاحصاءات حجوم الفقر ومعدلات التباين في العالم واستسلموا لقدر العولمة وفيها احصاءات الثروات النقدية والحسابية تقفز بتسارع عجيب من أكمات الملايين إلى قمم المليارات. ونسي الناس، أو كادوا، الصورة الأدبية الأشد تعبيرا من أرقام الاحصاء والتي قدمت فيها في السبعينات من القرن الماضي “سوزان جورج” لكتابها “كيف يموت النصف الآخر من العالم؟” مخاطبة قارئ الكتاب، قارعة على سمة الإنسان فيه،
مذكرة إياه بأنه ما أن يصل إلى خاتمة كتابها الذي تستغرق قراءته ست ساعات حتى يكون قد مات 2500 شخص في العالم النامي بسبب الجوع وسوء التغذية. وربما جاز لنا مع تفاقم أعداد الفقراء الجائعين منذ ذلك الحين أن نستعير تلك الخاطرة نطرحها مجددا ونتساءل: ترى ما عدد موتى الفقر والجوع وسوء التغذية في العالم في يومنا هذا وذلك خلال الزمن الذي تستغرقه قراءة هذه الزاوية؟
وما زال العالم يسعى لمعالجة الفقر بالمساعدات، وهي مساعدات يخرج متتبعها بانطباع يوحي بأنها تساهم في زيادة الاستهلاك والطلب على السلع شبه الكاسدة في الدول المتقدمة أكثر من مساهمتها في اطعام الجوعى أو معالجة الفقر والمرض، انها مساعدات هدفها التوسع في شراء الغذاء والدواء من الدول الغنية لإطعام وعلاج الفقراء، ومع ذلك تعترف معظم تقارير الهيئات الدولية والاقليمية (ومنها تقرير الأسكوا الأخير عن العام المنصرم 2006) بأن المساعدات الدولية التي تخصص لمعالجة الفقر غير كافية إن لم توصف بالشحيحة، هي مساعدات يُضاف إلى شحها وعدم كفايتها شروط البنك الدولي لمنح المساعدات والتي جعلت إدارته الجديدة منها شرط القضاء على الفساد في المجتمعات الفقيرة حتى يحظى الفقراء في تلك المجتمعات بالمساعدات من البنك.
ومن التعقيدات التي دخلت على مفهوم محاربة الفقر والجوع في العالم، الخلط بين مسألة معالجة الفقر والجوع بشكل مباشر على الأمد القصير، وبين مسألة التنمية في المجتمعات الفقيرة، فإن كانت المساعدات هي وسيلة العلاج المباشر، يبدو أن التنمية وفق مسارات النظام الاقتصادي العالمي القائم من: خصخصة وحرية الأسواق المالية والنقدية وتحديث القطاع المصرفي باعتماد التجارة المصرفية وتكنولوجيا المعلومات.. والمزيد من استقطاب الاستثمار الأجنبي المباشر باعتباره مصدرا للأموال وناقلا للتقنية على نحو يرفع الانتاجية والقدرة على المنافسة وتحرير التجارة وزيادة حجم التجارة الخارجية من خلال اتفاقات التجارة الحرة.. هي في تصور النظام القائم وهيئاته الدولية والاقليمية وسيلة معالجة الفقر على الأمد الطويل.
ولعل منصفاً يتقدم متسائلاً يقول: أليس من الأجدى للفقراء أن ينتجوا غذاءهم وكساءهم قبل أن يتنافسوا أو ينافسوا الأغنياء وقبل أن يدخلوا في خضم تحرير التجارة الخارجية وزيادة حجومها؟ الا يعد الاكتفاء مطلبا وهدفا أساسيا في محاربة الفقر والجوع؟ أليس من الأجدى هنا، في معالجة الفقر والجوع إعمال مبدأ “دعه يعمل وأعطه ما يكفيه ليعمل ويعيل نفسه” لمن يقدر على العمل والانتاج؟
إن المعالجة المباشرة للفقر قد لا تتم إلا من خلال الجهود الذاتية وبامكانيات متواضعة لا تغري بشر اليوم المهيأ للفساد بالفساد، لذلك فإنه من الأجدى أن تعالج من خلال مشاريع كبنك القرية وبنوك الادخار.
أما التنمية الشاملة لدرء الفقر على الأمد الطويل فربما من الأجدى أن تبنى على اكتشاف معادلة الاستثمار الجماعي التي اشار إليها يوما المفكر العربي الإسلامي “مالك بن نبي”.
وحتى يأتي ذلك الحين، فإن أصدق ما يمكن أن يقال عن الفقر والجوع في العالم: أيها الفقر والجوع، كم من الحروب تشن باسمك!
تحليل التعليقات: