ارتفاعات قياسية وانحدارات عنيفة .. كيف يقود عدم اليقين الاقتصاد العالمي والأسواق؟
"ما زلتُ أفكر في الوصف الذكي لـ "جاستن فوكس" -محلل اقتصادي في بلومبرغ- لهذه اللحظة في الاقتصاد العالمي بأنها "لحظة لم يسبق فيها أن شُعِرَ عدم اليقين بهذا القدر من عدم اليقين"، هكذا وصف الاقتصادي الشهير محمد العريان الوضع الاقتصادي العالمي حاليًا.
وأضاف "العريان" على صفحته في فيسبوك أن الاقتصاد العالمي يتأثر حاليًا بعدد قياسي من المتغيرات في وقت واحد:
- قضايا السياسة الرئيسية في الولايات المتحدة - الرسوم الجمركية، والاحتياطي الفيدرالي، والضرائب، وإصلاح القطاع العام، وغيرها.
- ردود الفعل الداخلية والخارجية للدول الأخرى على السياسات الأمريكية.
- الابتكارات المعززة للإنتاجية - الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وعلوم الحياة، إلخ...
- أداء السوق المالية وتقلب قطاع سندات الحكومة الأمريكية.
- إعادة هيكلة نظام التجارة الدولية الجارية مع تداعيات محتملة على هيكل المدفوعات العالمي.
واختتم العريان حديثه بأن "القائمة تطول".
فالاقتصاد العالمي شهد العديد من الأزمات والفترات التي اتسمت بـ"عدم اليقين" على مر العصور، وفي زمننا الحديث بدأ الأمر بالكساد الكبير ثم اضطرابات الحرب العالمية الثانية ثم مواجهات السياسات الحمائية لفترة، وفترات حروب العملات، وتقلبات أسواق الدول الناشئة وغيرها، إلا أن الوضع يبدو مختلفًا هذه المرة، ليس وفقًا لـ"العريان" فحسب ولكن للعديد من المراقبين.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
هل بدأت سلاسل التوريد في التغير بالفعل؟
فمثلًا، عندما كثر الحديث عن تغيير سلاسل التوريد كان الأمر يبدو نظريًا في بادئ الأمر، غير أن الشواهد بدأت تظهر، وعلى سبيل المثال نقل "هيونداي" لمصانع "توسان" من المكسيك إلى أمريكا، وقرار "أبل" بنقل إنتاجها لـ"أيفون"، الذي يشكل أكثر من 50% من إيرادات الشركة، من الصين إلى الهند.
لذلك يبدو أن بعض الشركات بدأت التحرك بالفعل، تجاه الولايات المتحدة، بينما تشير تقارير مقابلة لـ"وول ستريت جورنال" إلى نأي شركات أخرى بنفسها عن شركة "إنفيديا" لصالح الشراء من "هواوي" الصينية، في ظل مخاوف من تزايد القيود الأمريكية على صادرات الرقائق الإلكترونية، أي أن البعض بدأوا يتحركون تجاه الصين.
ويصعب القول إن قرارات شبيهة تم اتخاذها بعد دراسة وافية، خاصة أن التحذيرات التي أطلقها العديد من الخبراء حول رغبة ترامب في نقل التصنيع إلى الولايات المتحدة أن الأخيرة غير قادرة على القيام بما تقوم به الصين، ودول أوروبا ومجموعة أسيان.
فأكثر من 70% من الناتج المحلي الأمريكي يتم توليده من صناعة الخدمات، وقرابة 80% يعملون بهذا القطاع أي أن أقل من 20% فحسب يعملون في التصنيع، فمن أصل 170 مليون شخص يعمل أقل من 34 مليون شخص في الصناعة، بينما يبلغ عدد العاملين في الصناعة في الصين مثلًا أكثر من إجمالي القوة العاملة الأمريكية "حوالي 215 مليون شخص" من أصل 740 مليون صيني يشكلون القوة العاملة في الصين.
تشاؤم أمريكي ومخاوف صينية
لذلك تأتي التخوفات من عرقلة الإنتاج الأمريكي بشكل عام مع غياب البديل المستورد الجيد، وكشفت تقارير إخبارية أن أكبر صندوق تحوط في العالم "بيردج ووتر" شدد في نشرة داخلية للعاملين على "مخاطر استثنائية" تهدد الأصول الأمريكية، في ظل إعطاء إدارة ترامب الأولوية "للتحول السريع نحو المذهب التجاري"، وكتب مدير الصندوق ونائباه في النشرة: "نتوقع تباطؤًا ناتجًا عن السياسات، مع تزايد احتمالية حدوث ركود".
ومما يثير المزيد من التكهنات حول مستقبل الاقتصاد الأمريكي هو التشاؤم الظاهر على المستهلكين والمستثمرين على حد سواء، والذي بلغ نسبًا قياسية منذ أزمة كورونا، وعلى الرغم من حملات الاستهلاك المكثف أمريكيًا إلا أنها جاءت تحسبًا فقط لأثر الرسوم الجمركية على الأسعار وليس ثقة في الاقتصاد، بما يزيد الضبابية حول الاقتصاد الأمريكي.
والمختصر المفيد هنا أنه حتى مع التوصل لاتفاقيات جمركية بين واشنطن وبعض أو غالبية أو كل الدول، فإن مستقبل الاقتصاد الأمريكي يبقى محل تساؤل ويضيف لصورة عدم اليقين العالمية.
وكذلك فإن الاقتصاد الثاني في العالم كان مهددًا بتباطؤ كبير، ومع الرسوم الجمركية الأمريكية تزداد هذه الاحتمالية، حيث كان الكثير من المراقبين يشككون في تحقيق الصين لمستهدف النمو عند 5% ومع الحروب التجارية تفاقمت تلك الشكوك رغم "صلابة" الموقف الصيني في مواجهة واشنطن، ومحاولات التيسير الكمي للبنوك وتشجيع أكثر من 700 مليون صيني يشكلون الطبقة الوسطى في الصين على زيادة الاستهلاك.
فعلى الرغم من قوة الأوراق الصينية في المواجهة مع الولايات المتحدة، والتي تبدأ من حيازة مئات مليارات الدولارات من السندات الأمريكية وتنتهي عند احتكار 90% من تصنيع المعادن النادرة في العالم، بما يمنح بكين ميزة نسبية وتنافسية كبيرة للغاية في سوق المستقبل، الذكاء الاصطناعي، إلا أن تأثير الحروب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم لا يمكن الاستهانة به على نمو الصين.
المحصلة: المزيد من عدم اليقين.
ومع الاضطرابات المحتملة في الاقتصادين الأمريكي والصيني، فالاقتصاد الألماني دخل في الركود بالفعل، وقد يتعمق هذا الركود بسبب مشاكل هيكلية في قطاع التصنيع وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي، ولا شك أن هذا يهدد القوة الاقتصادية الثالثة عالميا، الاتحاد الأوروبي، بخسارة ما يوصف دائمًا بقاطرة النمو.
التهديد الأهم
ويثير حديث كثيرين، وأبرزهم "لاري فينك" مدير أكبر صندوق لإدارة الأصول في العالم "بلاك روك"، ما هو أكثر خطوة وإثارة لعدم اليقين في المشهد الاقتصادي، حول تهديد الوضع الحالي لمكانة الدولار التي اعتبر أنها في خطر.
وقال "فينك" إن الدولار قد يفقد مركزه بوصفه عملة الاحتياطي الرئيسية على مستوى العالم. وأرجع هذا التحذير إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى الاهتمام المتزايد بالعملات الرقمية، فضلًا عن الميل الحديث لتنويع الأصول والعملات، والارتفاع اللافت لسعر الذهب والإقبال عليه.
وفي سياق خطابه السنوي الذي يوجهه لمستثمري شركة "بلاك روك"، والذي جاء عنوانه لهذا العام "دمقرطة الاستثمار"، شدد "فينك" على أن المكانة التي يتمتع بها الدولار الأمريكي كعملة عالمية ليست مضمونة واستمراريتها ليست أبدية.
وأشار إلى أن حجم الديون الأمريكية المتزايد باستمرار، والذي تجاوز بالفعل حاجز 35 تريليون دولار، بالإضافة إلى حجم الإنفاق الحكومي الضخم، من شأنهما أن يؤديا إلى إضعاف الثقة في قوة واستقرار الدولار، وأن استمرار ارتفاع الديون قد يفضي إلى حدوث عجز دائم في الميزانية الأمريكية بحلول عام 2030 (بعد 5 سنوات فحسب)، وهو الأمر الذي يمثل تهديداً حقيقياً لاستقرار الاقتصاد الأمريكي بشكل عام.
والشاهد أن تصريحات "فينك" تتفق مع حقيقة أن 57.8% من الاحتياطات العالمية الآن هي من الدولار، بينما كانت هذه النسبة أكثر من 62% عام 2017، أي أنها فقدت 5% في 8 سنوات في معدل انحدار هو الأسرع في تاريخ العملة الأمريكية التي تتآكل سيطرتها على الاحتياطات منذ الأزمة المالية العالمية.
علاقات أساسية تتغير
وكذلك فإن نسبة التداولات التي تجري بالدولار تبلغ 49-52% من المعاملات التجارية، ولأول مرة تقل النسبة عن 50% في أي من التقديرات في آخر 40 عامًا على الأقل، بينما تزيد التداولات باستخدام اليورو والين واليوان والفرنك السويسري والجنيه الإسترليني، مع محاولات طموحة لاستبدال الدولار في التجارة وأبرزها اليوان الرقمي.
ولا شك أن محصلة هذا المزيد من عدم اليقين، نظرًا لاستقرار الدولار في مركزه الاستثنائي لعقود، ولعدم عدم الاطمئنان لنسبة لا بأس بها من الأصول العالمية، ولعل هذا ما يبرر تحركات المزيد من البنوك المركزية لشراء الذهب.
ومما يزيد من حالة عدم اليقين والتقلب في الأسواق أن بعض الارتباطات الدائمة في الاقتصاد بدت كما لو كانت تتفكك ومنها انخفاض الذهب إذا ارتفع الدولار، وانخفاض سوق السندات إذا ارتفع سوق الأسهم، وانخفاض سعر الذهب إذا ارتفع سوق الأسهم، ففي كثير من الأيام الماضية، لا سيما بعد بداية الحرب التجارية لم تكن هذه "الثوابت" قائمة بالمرة.
ويمكن تفسير ذلك أن الكثير من الأموال تخرج من الأسواق وتبقى خارجها لفترة زمنية، أي أن من يبيع الأسهم مثلًا لا يشتري الذهب، ولكنه يحتفظ بالكاش، ومع انخفاض الذهب والأسهم يشجع ذلك المضاربين على الدخول للسوق للشراء في القيعان فيرتفع كليهما وهكذا، وبالطبع شهدت بعض الأيام وجود العلاقة التقليدية بين المتغيرات السابقة لكن "كسر" تلك القواعد أصبح متكررًا بدرجة تضيف المزيد من عدم اليقين.
نمو غير متوازن
وأيضا يأتي عدم اليقين حول مستقبل الاقتصاد في ظل الذكاء الاصطناعي، فعلى الرغم مما يقدمه من فرص إلا أن هناك عشرات التحديات حوله، ومنها التقديرات بإطاحته بـ300 مليون وظيفة، وتصل هذه التقديرات إلى 700 مليون وظيفة، فعلى الرغم من أنه سيوفر وظائف مقابلة ولكن غالبًا ستكون المحصلة على العمالة -عالميًا- بالسالب، وستحتاج لإعادة تأهيل وإدماج نسبة معتبرة من العمالة عالميًا.
كما أن سرعة توغل الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات ستختلف، فمن المنتظر مثلًا أن يكون دوره في الطب فاصلًا لكن تقدمه سيكون بطيئًا لاعتبارات عملية وأخلاقية، بينما قد يكون توغله في قطاع مثل الاتصالات وخلق المحتوى أسرع كثيرًا عما هو ظاهر الآن، وهذا النمو "غير المتوازي" يخلق عقبات وتحديات واختلالات هيكلية في الاقتصاد أيضا.
نتيجة كل هذا التراكمات من عدم اليقين خفضت "اونتكاد" توقعات نمو الناتج العالمي إلى 2.3% وخفض صندوق النقد توقعاته للنسبة نفسها إلى 2.8% مع تحذير الخبراء من انخفاض جديد لا سيما مع معاناة الاقتصادات المتقدمة أكثر من غيرها، ولتبيان فداحة هذا الأمر يكفي ذكر أن متوسط نمو الاقتصاد العالمي كان 3.7% سنويًا بين عام 2000-2019.
المحصلة؟
وما كان نتيجة هذا كله؟ العديد من الأرقام القياسية المتناقضة ومنها تسجيل الأسواق الأمريكية للأسهم لأكبر سوق صاعدة في يوم واحد قبل انكسار هذه السوق، ووصول الذهب لأعلى أسعاره قبل انكفائه سعريًا عن القمة بنسبة أكثر من 7% في أيام معدودة، وكذلك الأمر مع تقلب السندات، والضغوط على البنوك المركزية، والتصريحات الاقتصادية المتناقضة.
والتخوف الحالي أنه كلما زادت درجة عدم اليقين ازداد قرار التوسع في الاستثمار صعوبة، فأي منتج سيتوسع حاليًا وهو لا يعلم تركيبة السوق المستقبلية المستهدفة مع الجمارك المتغيرة، والتي قد تعود في أي وقت حتى لو تم إلغاؤها، وأيضا احتمال تراجع النمو المدفوع بالإنفاق في ظل إحجام بعض المستهلكين عن شراء السلع والخدمات وتفضيلهم للادخار بسبب عدم اليقين أيضا.
وعلى الرغم من هذا الوضع الذي يبدو بالتأكيد "قاتمًا" وملبدًا بالغيوم، إلا أن أي مستثمر أو مستهلك عليه تذكر مقولة الرئيس الأمريكي الراحل "جون كينيدي": "عند كتابتها بالصينية، تتكون كلمة "أزمة" من حرفين: أحدهما يرمز إلى الخطر والآخر إلى الفرصة".
المصادر: أرقام- فورتشن- بيانات صندوق النقد الدولي عن الاحتياطات النقدية- رويترز- فوربس- وول ستريت جورنال- واشنطن بوست- سي.إن.إن
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}

تحليل التعليقات: