كبار السن بين الحذر والتأثير .. كيف يوجه المستثمر الفضي حركة الأسواق؟

في العقود الأخيرة، ومع تحولات الأسواق المالية وازدياد الاعتماد على الاستثمار الفردي وصناديق التقاعد، برزت شريحة كبار السن أو ما يُطلق عليهم أحيانًا "أصحاب الشعر الفضي" كأحد أكثر الفاعلين حضورًا في الأسواق العالمية.

فهذه الفئة العمرية، التي قضت سنوات طويلة في الادخار والتراكم، أصبحت اليوم صاحبة النصيب الأكبر من الثروة المالية في العالم، ولا سيما في أسواق الأسهم وصناديق الاستثمار المشتركة.

هذا التواجد القوي يمنحهم قوة لا يستهان بها في توجيه حركة الأسواق وقرارات الشركات، سواء عبر التصويت في الجمعيات العمومية أو من خلال توجهاتهم الاستثمارية.

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

لكن ما يثير الجدل ليس فقط حجم ما يملكونه، بل كيفية تعاملهم مع هذه الثروة، فهل يتسم كبار السن بالمزيد من الحذر بسبب قربهم من سن التقاعد وحاجتهم إلى دخل مستقر؟ أم أن خبرتهم الطويلة في الأسواق تجعلهم أكثر قدرة على اغتنام الفرص وتوجيه بوصلة الاستثمار؟

ومع دخول العالم مرحلة يتجه فيها الثقل الديموغرافي نحو الفئات الأكبر عمرًا، أصبحت الأسئلة لا تقتصر على سوق بعينه مع تسارع معدلات الشيخوخة السكانية، ليصبح فهم سلوك "المستثمر الفضي" ضرورة لمحاولة توقع مستقبل الأسواق العالمية.

لمحة عامة.. ماذا تقول الأرقام؟

تُظهر بيانات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن الأسر التي يتجاوز عمر أفرادها 55 عامًا تملك ما يقارب ثلاثة أرباع الثروة الاستثمارية في الأسهم وصناديق الاستثمار المشتركة، وهو ما يؤكد أنهم اللاعب الأكثر وزنًا في سوق الأسهم، مقارنة بنحو 68% في عام 2010.

 وفي المقابل، تشير بيانات مسح الشؤون المالية للأسر الأمريكية إلى أن نسبة المشاركة في أسواق الأسهم ترتفع مع التقدم في العمر لتبلغ ذروتها في سنوات ما قبل التقاعد.

كما توضح دراسات الهيئة التنظيمية للصناعة المالية في الولايات المتحدة أن كبار السن أقل ميلًا لاستخدام المنتجات الاستثمارية المعقدة أو عالية المخاطر مثل المشتقات والخيارات، ويميلون للاحتفاظ بمحافظ استثمارية طويلة الأجل وأكثر تنويعًا.

وفي دول أوروبا مثل إيطاليا وألمانيا، تؤيد البيانات الإحصائية نفس الاتجاه العام بشأن امتلاك كبار السن لحصص كبيرة من الثروات، خصوصًا في الأصول الثابتة والادّخار، بينما يختلف تخصيصهم للأسهم بحسب البلد.

على سبيل المثال، تعكس بيانات البنوك المركزية هناك مثل بنك إيطاليا والبوندسبانك الألماني رؤى واضحة عن تركّز الملكية لدى الفئات الأكبر سنًا.

كما أشارت بيانات بنك فرنسا إلى أن الملكية المباشرة للأسهم قد تكون أقل انتشارًا لدى الأسر الفرنسية مقارنة بالولايات المتحدة، لكن محافظ الأصول لدى كبار السن لا تزال مرتفعة.

ماذا يعني ذلك؟

امتلاك كبار السن للحصة الأكبر من الأصول المالية والأسهم لا يقتصر على كونه مؤشرًا على تراكم الثروة عبر السنوات، بل يعكس أيضًا ثقلهم في تحديد ملامح الأسواق المالية.

فحين يتحكم جيل ما بعد التقاعد في النسبة الأكبر من الاستثمارات، تصبح استراتيجيات الشركات وتوجهات مديري الصناديق أكثر حساسية لتفضيلاتهم.

على سبيل المثال، تركيز هذه الفئة على العوائد المنتظمة مثل التوزيعات النقدية أو الصناديق المدرة للدخل يدفع العديد من الشركات إلى تبني سياسات توزيعات أكثر سخاء، ليس فقط لاسترضاء المساهمين الحاليين، بل أيضًا لاستقطاب هذه الشريحة الوازنة من المستثمرين.

أما من ناحية السلوك الاستثماري، فإن الحذر يعد السمة الأبرز لدى كبار السن.

 فبينما تميل الأجيال الأصغر إلى الانخراط في تداولات أكثر نشاطًا وتجريب أدوات استثمارية عالية المخاطر مثل المشتقات أو العملات الرقمية، نجد أن كبار السن يفضلون الاستثمار في أدوات أكثر بساطة واستقرارًا مثل السندات الحكومية أو الأسهم الكبرى ذات التاريخ المستقر.

غير أن هذا الحذر لا يقلل من أثرهم في الأسواق، إذ إن حجم محافظهم الضخم يجعل قراراتهم الاستثمارية قادرة على إعادة توجيه مسارات السيولة وتحديد اتجاهات السوق على المدى الطويل.

ومن هنا يتضح أن العلاقة بين الحذر والتأثير ليست متناقضة كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل متكاملة؛ فكلما ازدادت نزعة هذه الفئة نحو الاستقرار، ازدادت قدرة السوق على الالتزام باستراتيجيات أكثر تحفظًا واستدامة، وهو ما يعكس دورهم في صياغة بيئة مالية متوازنة.

كبار المستثمرين من أصحاب الشعر الفضي

يُنظر إلى كبار السن باعتبارهم مستثمرين محافظين يفضلون الاستقرار على المغامرة، إلا أن الواقع يوضح أنهم ليسوا فقط الأكثر حضورًا في ملكية الأسهم، بل أيضًا بين أبرز المؤثرين في توجيه أسواق المال العالمية.

فعدد كبير من الصناديق الاستثمارية ومديري الأصول يقودها أشخاص تجاوزوا سن الخامسة والخمسين، مستفيدين من خبرة طويلة وشبكات علاقات متينة.

على سبيل المثال، حتى وقت قريب كان "وارن بافيت" (94 عامًا) يمتلك أحد أكثر الأصوات تأثيرًا في "وول ستريت"، إذ تتحرك الأسواق أحيانًا صعودًا أو هبوطًا تبعًا لتصريحاته أو تحركات شركته "بيركشاير هاثاواي".

وبالمثل، يواصل "جيمي ديمون" (68 عامًا) رئيس "جي بي مورغان تشيس" لعب دور محوري في القطاع المصرفي والاستثماري الأمريكي.

وعلاوة على ذلك، تمتلك جي بي مورغان لإدارة الأصول – الذراع الاستثمارية للبنك– ما يقارب 3.7 تريليون دولار أمريكي من الأصول تحت الإدارة حتى مارس 2025، ما يرسخ مكانتها بين كبرى شركات إدارة الأصول عالميًا.

وفي أوروبا، تُعد شركة أماندي الفرنسية -التي تديرها قيادات فوق سن الـ55- أكبر صندوق أوروبي لإدارة الأصول، حيث أدارت أصولاً بقيمة 2.27 تريليون يورو خلال الربع الثاني من 2025.

هذه الأمثلة تؤكد أن النفوذ في الأسواق لا يتوقف عند حجم الثروة الفردية، بل يمتد إلى إدارة مئات المليارات من الدولارات عبر مؤسسات وصناديق يقودها جيل الخبرة.

بين الحضور والوزن الحقيقي

ومع كل هذه المؤشرات التي تعكس حضور كبار السن في قيادة الأسواق وإدارة الصناديق، يظل السؤال الأهم: هل يعكس هذا الحضور وزنًا حقيقيًا في حركة السوق اليومية، أم أن تأثيرهم يقتصر على امتلاك الثروة فقط؟

الإجابة تحمل شقين متكاملين، وهما من حيث الثروة والملكية، يمتلك بالفعل كبار السن النصيب الأكبر من الأصول المالية والاستثمارات، ما يمنحهم ثقلًا واضحًا في تحديد ملامح الأسواق.

أما من حيث التداول النشط تشير البيانات إلى أن كبار السن أقل ميلاً لاستخدام الأدوات المعقدة أو عالية المخاطر، وأقل انخراطًا في التداول اليومي مقارنة بالأجيال الأصغر.

ورغم ميلهم الطبيعي إلى الاستثمار طويل الأمد وتفضيلهم الأدوات المستقرة على تلك عالية المخاطر، فإن امتلاكهم للنصيب الأكبر من الثروة يجعلهم قوة لا يمكن تجاهلها في رسم ملامح السوق، سواء على مستوى توجهات الاستثمار أو في توجيه سياسات الشركات.

نسبة المستثمرين النشطين في الأسهم حسب الجيل – بريطانيا (2025)

ومع تزايد معدلات الشيخوخة عالميًا، من المتوقع أن يتضاعف تأثيرهم خلال العقود المقبلة، فالأموال التي يديرها المستثمرون كبار السن ليست مجرد أرقام في تقارير البنوك المركزية أو الهيئات المالية، بل هي عنصر فاعل في تحديد اتجاهات رأس المال نحو قطاعات بعينها.

لذلك، فإن فهم سلوكيات هذه الفئة لم يعد خيارًا ثانويًا، بل أصبح ضرورة استراتيجية لكل من صناع القرار في الشركات والمستثمرين الأصغر سنًا الذين يتطلعون لقراءة خريطة الأسواق برؤية أوضح.

المصادر: أرقام- رويترز- مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي- الهيئة التنظيمية للصناعة المالية في الولايات المتحدة- أسوشيتدبرس- بنك إيطاليا- البوندسبانك