هذا الاقتصادي يرى أن التجارة ليست دائماً حرة

وصف "ديفيد أوتور" الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نفسه ذات مرة بأنه "سيارة إسعاف مطاردة"، في الحقيقة كانت هذه طريقته في الاعتراف بأن عمله يميل إلى التركيز على القضايا الكبرى والملحة التي تواجه الاقتصاد الحديث.

يعتبر "أوتور" واحداً من قادة الثورة التجريبية في الاقتصاد، جنباً إلى جنب مع آخرين مثل أستاذ جامعة ستانفورد "راج شيتي" و"لورانس كاتز" الأستاذ بهارفاد.

تناولت دراسات "أوتور" موضوعات مثل احتكار السلطة والاستقطاب في سوق العمل، ولكن ربما يكون عمله البحثي الأكثر الأهمية على الإطلاق، والذي اشترك فيه مع " ديفيد دورن" و"جوردون هانسون"، هو ذلك الذي أوصله إلى الاستنتاج بأن فتح اقتصاد الولايات المتحدة أمام التجارة مع الصين يضر بالعمال الأمريكيين أكثر بكثير مما كان يعتقد في السابق.

على الرغم من أن هذا الاستنتاج تم الطعن فيه من قبل آخرين مثل "جوناثان روثويل" من جامعة جورج واشنطن، إلا أنه نجح بالفعل في تغيير طريقة تفكير وحديث الاقتصاديين حول تكاليف وفوائد التجارة الحرة.

منذ وقت ليس ببعيد كانت التجارة الحرة هي الشيء الوحيد الذي اتفق عليه جميع الاقتصاديين تقريباً، وربما لا تزال تدور بينهم نقاشات إلى اليوم حول الحوافز المالية أو المعدل الصحيح لضريبة الشركات، ولكن عندما يتعلق الأمر بالتجارة، الجميع يتخذ نفس الموقف تقريباً.

المنظر التجاري "بول كروجمان" كتب ذات مرة:

"التنظير الاقتصادي للتجارة الحرة هو في جوهره تنظير من جانب واحد، حيث إن هناك دائماً بلداً يخدم مصالحه الخاصة من خلال السعي للتجارة الحرة، بغض النظر عما قد تفعله البلدان الأخرى".

إذا كانت الدراسات التجريبية يمكنها أن تدفع كبار الاقتصاديين التقليديين إلى التشكيك في هذ الاعتقاد الذي اعتبر يوماً ما اعتقاداً عالمياً، فإن المهنة تتحول بالفعل من النظرية إلى الأدلة.

مع وضع كل ذلك في الاعتبار، تواصل مؤخراً "نوح سميث" الكاتب بـ"بلومبيرج" مع "ديفيد أوتور" ليتعرف منه، كيف أن أبحاثه على الصين قد غيرت تفكيره حول تكاليف وفوائد التجارة الحرة.

قال "أوتر" إنه اندهش من استنتاجاته الخاصة، وإنه توقع تمكن العمال الأمريكيين من النجاة من صدمة الواردات الصينية، وإيجاد وظائف أخرى بأجور مماثلة بعد فترة قصيرة من التفكك، وكان ذلك هو ما حدث إلى حد كبير في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في استجابة للمنافسة اليابانية والأوروبية.

وجد "أوتور" أن التجارة مع الصين في الألفينيات تركت نسبة كبيرة من القوى العاملة في الولايات المتحدة دون وظائف جيدة بشكل دائم تقريباً، وفي كثير من الأحيان دون وظائف على الإطلاق.

هذا النوع من الدمار الاقتصاي المركز، يبدو أنه لا يضر بأموال الموطنين الأمريكيين فقط، ولكن يضر أيضاً بالنسيج الاجتماعي في البلاد، حيث تربط أبحاث "أوتور" بين منافسة الواردات الصينية وبين تراجع معدلات الزواج والاستقطاب السياسي.

يرى "أوتور" أن هذه العلل الاجتماعية تجعل الحاجة إلى إعادة التفكير حول السياسة التجارية هي الأمر الأكثر إلحاحاً، مشيراً إلى أن وجود عدد كبير من الأناس الغاضبين غير المتزوجين، مع تدهور آفاق التطور الوظيفي، هو شيء خطير يهدد استقرار أي نظام ديمقراطي.

وبسؤاله حول كيف ينبغي أن تتغير السياسة التجارية، رد "أوتور" بإجابة مفاجئة، حيث قال إن عملية قبول الصين في منظمة التجارة العالمية في عام 2000 كان ينبغي أن تتم بشكل أبطأ مما تمت به، لأن هذا كان من شأنه أن يعطي العمال والصناعات الأمريكية وقتاً كافياً للاستعداد للتنافسية "الهجومية" مع الصين.

واستند "أتورو" على كل هذا في إعلانه لدعمه لمشروع قانون ضريبة الحدود الذي يناقشه الكونجرس حالياً، مشيراً إلى أن ذلك المشروع من شأنه أن يفيد المصدرين على حساب المستوردين.

وعلى خلاف نظرة أغلب الاقتصاديين لقطاع الصناعات التحويلية، يعتقد "أوتور" أن الحكومة الأمريكية يجب عليها أن تركز بشكل كبير على هذا القطاع، واستخدام كل الوسائل المتاحة لدعمه، مشيراً إلى أن هذا القطاع ظل مقللا تقديره لوقت كبير.

واقترح أيضاً أن تقوم الحكومة الأمريكية باستخدام الأموال المخصصة للبحوث العسكرية لصالح تمويل أبحاث في مجال الأتمتة، مستشهداً بأحد استنتاجاته البحثية التي أظهرت تسبب الواردات الصينية في اتجاه المنتجين الأمريكين إلى السلع الأقل ابتكاراً.

ربما يكون هذا النوع من الحديث غير مريح بالنسبة للعديد من الاقتصاديين، حيث إن مسألة الدعم الواضح لقطاع الصناعات التحويلية تأتي في اتجاه مضاد تماماً لما تم تدريسه في علم الاقتصاد على مدار عقود، وفي الوقت نفسه قد يكون المطالبة بالتحول من الشكل الحالي للتجارة الحرة الذي يحظى بدعم وشعبية كبيرين إلى تجارة رصينة توازن بين التكاليف والفوائد، مقترح مخيف بالنسبة لكثيرين.

ولكن إذا حدث بالفعل هذا التغير في النظرة تجاه التجارة الحرة، حتى لو هامشياً، فإن ذلك سيكون شاهداً على قوة الاقتصاد التجريبي، حيث إن تمكن الوقائع والأدلة من إقناع باحث اقتصادي مثل "ديفيد أوتور" لتغيير معتقداته الأساسية حول السياسة الاقتصادية الوطنية، يعني أن هناك تحولاً كبيراً في مهنة البحث الاقتصادي.