نبض أرقام
09:53 ص
توقيت مكة المكرمة

2025/12/21
2025/12/20

أصول الكفاءة .. كيف يفسِّر مهندسٌ انخفاض الأسعار؟

2025/12/20 أرقام

في كل مرة تشتري فيها هاتفاً أقوى من سابقه بسعر أقل، أو شاشة تلفاز أكبر مقابل نصف ما دفعته قبل سنوات، يبدو الأمر وكأنه قانون طبيعي لا يحتاج إلى تفسير. الأسعار تنخفض، الجودة ترتفع، والعالم يمضي قدماً. لكن ماذا لو كان هذا “البديهي” هو أكثر الأسئلة الاقتصادية تعقيداً؟ وماذا لو أن الاقتصاديين، رغم عقود من النماذج والمعادلات، لم يحاولوا أصلاً الإجابة عنه؟

 

هذا بالضبط ما يفعله الكاتب والمفكر الصناعي براين بوتر في كتابه "أصول الكفاءة" أو " The Origins of Efficiency" ، حين يطرح سؤالاً بسيطاً في صياغته، عميقاً في نتائجه: لماذا تصبح المنتجات أرخص مع مرور الوقت؟

 

بوتر يطلق على هذه الظاهرة اسماً يبدو عادياً لكنه يحمل شحنة تفسيرية كبيرة: “الكفاءة التي تجعل الأشياء أرخص”.

 

لكن ما يميّز الكتاب حقاً ليس السؤال، بل زاوية النظر. فبوتر لا يتعامل مع الكفاءة بعين اقتصادي تقليدي، بل بعين مهندس يفكك العمليات خطوة بخطوة.

 

والنتيجة هي مجموعة جديدة ومقنعة من الأدوات لفهم أحد أهم التحولات التي شهدها الاقتصاد العالمي خلال المئة عام الماضية.

 

 

ما لا يسأله الاقتصاديون عادة

 

الكفاءة مفهوم مركزي في الاقتصاد الجزئي، لكن بوتر يلفت النظر إلى مفارقة لافتة: الاقتصاديون يتحدثون عنها باستمرار، لكنهم نادراً ما يسألون كيف تتحقق فعلياً.

 

الإجابة الأكاديمية الجاهزة غالباً ما تكون من نوع: “المنافسة تفعل ذلك”، ثم يُطوى الملف.

 

غير أن هذا الافتراض يتجاهل تماماً ما يجري داخل المصانع وسلاسل الإنتاج، حيث تُصنع الكفاءة فعلياً.

 

يطرح بوتر سؤالين أساسيين يتجاهلهما التحليل الاقتصادي التقليدي. الأول: كيف يعرف المنتجون تكاليف إنتاجهم أصلاً؟

 

منحنى العرض، أحد أعمدة النظرية الاقتصادية، يفترض أن هذه المسألة محسومة. لكن الواقع، كما يوضح بوتر، مختلف تماماً. لا توجد إجابة واحدة، بل سلسلة من المحاولات والتجارب والتحسينات الهامشية المستمرة.

 

المنتجون لا يرسمون منحنيات، بل يتلمسون الطريق، خطوة بعد أخرى. ومن هذا المنظور، يصبح “منحنى العرض” مفهوماً أنيقاً نظرياً، لكنه عديم الفائدة تقريباً على مستوى اتخاذ القرار داخل الشركات.

 

السؤال الثاني أكثر إثارة: لماذا تنخفض تكاليف كثير من المنتجات مع مرور الوقت، رغم أن الشركات “الجشعة” – نظرياً – تسعى إلى رفع الأسعار؟

 

التاريخ الاقتصادي، كما يذكّرنا بوتر، هو تاريخ طويل لانخفاض التكاليف، ومن ثم الأسعار، حتى في السلع الأساسية. رهان بول إيرليش وجوليان سايمون الشهير حول الموارد الطبيعية مثال واضح على ذلك. ومع أخذ تحسن الجودة في الاعتبار، يصبح تراجع الأسعار سمة عامة لمعظم السلع الاستهلاكية.

 

الكفاءة ليست كلمة سحرية

 

يقدّم بوتر أطروحته الأساسية بوضوح: تحسين كفاءة الإنتاج – أي إنتاج السلع والخدمات في وقت أقل، وبعمالة أقل، وبموارد أقل – هو أحد المحركات الرئيسية لانخفاض التكاليف على المدى الطويل.

 

لكن تفسير هذا التحسن عبر عبارات فضفاضة مثل “التكنولوجيا” أو “رأس المال البشري” لا يكفي، بل قد يكون مضللاً.

 

بدلاً من ذلك، يحدد بوتر خمس “رافعات” ملموسة لخفض التكاليف:

 -تغيير أساليب الإنتاج

استغلال وفورات الحجم

خفض تكلفة المدخلات

إزالة الخطوات غير الضرورية
 

تحسين التحكم في العمليات والدقة

 

ويرى أن نجاح هذه الرافعات في بعض القطاعات (كالإلكترونيات والأدوية) وفشلها في أخرى (كالبناء والتعليم والرعاية الصحية) لا يعود فقط إلى السياسات أو المؤسسات، بل إلى حقائق فيزيائية وأساسية مرتبطة بطبيعة الإنتاج نفسه.

 

قصة البنسلين: المعجزة الحقيقية

 

يفتتح بوتر كتابه بقصة البنسلين، ولسبب وجيه. فالسردية الشائعة تحتفي بعبقرية فليمنغ والمصادفة، لكن المعجزة الحقيقية، كما يوضح، كانت في تصنيع البنسلين على نطاق واسع وبكلفة منخفضة.

 

لم يصبح الدواء مهماً إلا عندما جرى تطوير عملية إنتاج تسمح بإنتاجه بكميات ضخمة وبجودة ثابتة، من خلال وسائل مثل استخدام سوائل نقع الذرة، والتخمير الغاطس، وتحسين السلالات، وضبط العمليات بدقة.

 

هذه الابتكارات حوّلت اكتشافاً مخبرياً إلى دواء أنقذ ملايين الأرواح وخفّض وفيات العدوى في ساحات القتال بنحو 75%.

 

 

انحياز البقاء وخرافة الحتمية

 

يشير بوتر إلى نقطة بالغة الأهمية: انخفاض التكاليف ليس حتمياً. نحن نميل إلى رؤية المنتجات التي نجحت فقط، ونتجاهل تلك التي اختفت لأنها لم تستطع تحقيق الجدوى التجارية. هذا ما يُعرف بـ”انحياز البقاء”.

 

فالرافعات لا تعمل إلا إذا استمر المنتج في السوق لفترة كافية، ولم يظهر بديل أفضل أو أرخص يقضي عليه.

 

من هنا، يعرّف بوتر عملية الإنتاج بأنها سلسلة خطوات تحوّل المدخلات إلى مخرجات عبر الزمن، مستهلكة العمالة والطاقة والمواد ورأس المال.

 

والكفاءة، وفق هذا التعريف، ليست قفزة تقنية مفاجئة، بل عملية تراكمية من التعديلات الصغيرة المستمرة.

 

الصلب، السيارات، وحدود وفورات الحجم

 

يعجّ الكتاب بأمثلة توضيحية. في رافعة “العمليات الجديدة”، يستعرض بوتر التحول من طرق صناعة الحديد القديمة إلى عملية بيسمر، ثم إلى تحسينات لاحقة قلّصت الزمن والطاقة اللازمين لإنتاج طن من الصلب.

 

وبما أن الصلب يدخل في عدد هائل من الصناعات، فقد كان لانخفاض تكلفته أثر مضاعف على الاقتصاد ككل.

 

أما وفورات الحجم، فيتعامل معها بوتر بحذر. فاستثماراتها الضخمة قد تصبح عبئاً قاتلاً إذا تطلّب السوق مرونة وسرعة تغيير.

 

مثال “فورد موديل T” كاشف: فقد انخفض سعر السيارة من 680 دولاراً عام 1911 إلى 260 دولاراً عام 1924. لكن عندما قررت فورد التحول إلى موديل A، اضطرت لإغلاق المصنع لأكثر من ستة أشهر، بتكلفة تعادل اليوم ملياري دولار.

 

النتيجة: وفورات الحجم مناسبة للصناعات السلعية، لكنها مخاطرة عالية في المنتجات الاستهلاكية المعقدة اليوم.

 

لماذا لا تنخفض تكاليف السكن والتعليم والصحة؟

 

في خاتمة الكتاب، يسلط بوتر الضوء على ثلاثة قطاعات استعصت على هذا الاتجاه العام: البناء، الرعاية الصحية، والتعليم. تكاليف هذه القطاعات لم تنخفض، بل ارتفعت في كثير من الأحيان.

 

ويتأمل بوتر في تجربته الشخصية مع فشل شركة “كاتيرا” للبناء المعياري، التي حاولت ببساطة نقل تقنيات البناء التقليدي إلى المصنع. التجربة أثبتت أن الأمر أعقد من ذلك بكثير، وربما كانت الشرارة التي دفعته لكتابة هذا الكتاب.

 

في المحصلة، يقدم بوتر رؤية دقيقة للكفاءة، لا بوصفها شعاراً أو وصفة جاهزة، بل كمجموعة آليات ملموسة، مدعومة بدراسات حالة عميقة وسهلة القراءة. قد لا يتفق الجميع مع نبرته المتفائلة، خصوصاً في زمن التضخم، لكن تركيزه على الاتجاهات طويلة الأمد يمنح الكتاب قيمة تحليلية استثنائية.

 

المصدر: "سيفيتاس أوت لوك"

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.