مع حلول خريف عام 1873، كانت الولايات المتحدة لا تزال تلعق جراحها من الحرب الأهلية الطاحنة، ففي حين كان الشمال يعلي رايات النصر، تجرع الجنوب مرارة الهزيمة، وكانت الأمة بأسرها تحاول إعادة بناء نفسها فوق أنقاض الصراع الذي مزقها لأربعة أعوام.
المدن تتوسع، والسكك الحديدية تشق طريقها عبر القارة، والمصانع تدخن في سباق محموم نحو العصر الصناعي الجديد، بدا كل شيء وكأن أمريكا تُولد من جديد، لكن خلف هذا النمو المحموم، كانت الأزمة الاقتصادية تشتعل تحت الرماد، تنتظر هبة ريح واحدة لتتحول إلى حريق هائل.
تمامًا كما تركت الحرب ساحة معركة مليئة بالخراب، كان الاقتصاد الأمريكي يعيش حربًا مالية صامتة، وقودها المضاربة، وضحاياها المستثمرون الصغار، وساحتها البنوك والأسواق.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
في 18 سبتمبر 1873، وقع الانفجار المالي المدوي، حيث انهار "جي كوك وشركاه"، أكبر مصرف استثماري في البلاد، وسقط معه ثقة المستثمرين مثل أحجار الدومينو.
في غضون أيام، سيطر الذعر على وول ستريت، حيث أغلقت البنوك أبوابها، وانهارت الأسواق، وطُرد العمال من وظائفهم، وبدا الأمر برمته وكأن أمريكا تخوض حربًا جديدة، لكن هذه المرة، ضد شبح الإفلاس والفقر.
لكن كما أن للحروب أبطالها، كان لهذه الأزمة سادة المال الجريئين، النسور الذين لم يروا في الفوضى سوى فرصة ذهبية، فحولوا ركام الأسواق المنهارة إلى إمبراطوريات مالية خالدة.
فهل كانت هذه الأزمة مجرد لعنة أخرى خلفتها الحرب الأهلية؟ أم أنها كانت بداية لعصر جديد من القوة المالية المطلقة؟
أول بنك استثماري أمريكي
- في عام 1861، أسس "جاي كوك" بنكه في نيويورك، والذي يعتبر أول مصرف استثماري في الولايات المتحدة، وتركزت أعماله على معاملات الأوراق المالية عبر التلغراف، وتمويل قوات الاتحاد (الطرف المنتصر) خلال الحرب الأهلية، وتمويل مشروعات السكك الحديدية.
- توصف شركات السكك الحديدية آنذاك بأنها كانت أول "يونيكرون" (شركة ناشئة تتجاوز قيمتها مليار دولار) في الولايات المتحدة، ووصف المؤرخون هذه الأعمال بأنها "من عجائب ذلك العصر"، لكن يبدو أن صدى الفقاعة التي كادت تدمر اقتصاد بريطانيا لم يكن وصل إلى أمريكا بعد.
- رغم أن مشروعات السكك الحديدية، كانت مربحة للغاية وتنبئ بطفرة اقتصادية وازدهار المجتمع مع جعل السفر متاحًا وسريعًا لكافة الطبقات الاجتماعية، وتسهيل حركة الشحن، لكن (كما حدث في بريطانيا) ترتب عليها فقاعة ضخمة بسبب التمويل المفرط وعمليات واسعة من الاحتيال والخداع.
- في ديسمبر 1872، كتب "جيمس ليز"، مالك مصرف "ليز آند وولر"، رسالةً حذّر فيها من انهيارٍ وشيكٍ في استثمارات السكك الحديدية، مشيرًا إلى رأس المال الضخم المُستثمَر، والذي بُدّد جزءٌ كبيرٌ منه في "مشاريعَ عشوائيةٍ" مثل السكك الحديدية عبر الصحاري.
- في 15 سبتمبر عام 1873، التقى "كوك" بالرئيس "يوليسيس جرانت"، ويفترض مؤرخون أن رجل الأعمال (الذي مول الحملة الانتخابية للرئيس) طلب دعمًا لمصرفه الذي أوشك على الإفلاس، بسبب الأزمة المالية في أوروبا التي حرمته من جمع التمويل، وتخلي كبار المستثمرين الأمريكيين عنه.
- لكن بعد سلسلة من فضائح كبار رجال الأعمال، من محاولة احتكار سوق الذهب إلى فضيحة رشوة "كريدي موبيليه" التي أدت إلى التحقيق مع العديد من أعضاء الكونغرس، لم يكن "جرانت" مستعدًا لمساعدة بارون السكك الحديدية.
أول كساد عظيم
- بعد 3 أيام من لقاء "كوك" و"جرانت"، أعلن البنك الذي كان يلعب دورًا حيويًا في النظام المالي (على غرار دور "جولدمان ساكس" اليوم) إفلاسه، وخسر المودعون والمستثمرون في السندات وأسهم السكك الحديدية، أموالهم.
- حاول العملاء والسماسرة، يائسين، الوصول إلى البنك لكن الشرطة منعتهم، وانتشرت الفوضى في وول ستريت، حيث اندفع المتداولون خارج البورصة، وسارع المودعون لسحب أموالهم من المصارف، وارتسمت ملامح الذعر على وجوه الرجال، حتى أن بعضهم لم يتمالك نفسه وانفجر بالبكاء في الشوارع.
- كان إفلاس "جاي كوك" أشبه بصاعقة ضربت وول ستريت، ففجرت كل مخاوف المستثمرين دفعة واحدة، لأنه كان غير متوقع تمامًا، ومعه سيطر الخوف على المشهد، وعلّقت بورصة نيويورك التداول لأول مرة في تاريخها، وظلت مغلقة لمدة 10 أيام لكبح جماح الذعر.
- تسبب هذا الانهيار السريع في أزمة اقتصادية طاحنة، والتي تُعرف بأنها "أول حالة كساد عظيم" (في أمريكا والعالم)، حيث استمرت أكثر من 5 سنوات، وتسببت في انهيار 121 مشروعًا للسكك الحديدية، ومحت 15 مليار دولار من قيمة القطاع السوقية، كما أفلست 18 ألف شركة و100 بنك وعدد لا يحصى من صغار المستثمرين.
- خلال الكساد الذي امتد إلى خارج البلاد، ارتفعت معدلات البطالة في أمريكا إلى 14%، ووصلت إلى 25% في مدينة نيويورك، وأصبح العديد من قدامى المحاربين في الحرب الأهلية مشردين، وعلى عكس هؤلاء، استعاد "كوك" ثروته بالاستثمار في منجم فضة، وتوفي عام 1905، ثريًا.
النسور الذهبية: كيف تبنى الثروات؟
- عندما استأنفت البورصة تداولاتها، انخفضت أسهم شركات السكك الحديدية (أسهم التكنولوجيا في عصرها) بأكثر من 50%، ولم يكن وضع الشركات الصناعية أفضل حالاً.
- كتب أحد الصحفيين في تلك الفترة: "كان الأمر كما لو أن آلة هائلة تعطلت فجأة، توقفت عجلة التجارة، ووجد رجالٌ كانوا قادةً للصناعة في شهرٍ ما أنفسهم مُتسولين في الشهر التالي".
- وسط الانهيار والفوضى، برزت قلة من المستثمرين، الذين يمكن وصفهم بـ "النسور الذهبية"، يحلقون فوق السوق المنهار بحثًا عن الفرص النادرة، التي لا تأتي سوى مرة واحدة في العمر، وهم رجال أعمال خلدوا أسمائهم في التاريخ مثل "جون روكفلر" و"أندرو كارنيجي" و"جيه بي مورجان".
- "روكفلر"، الناجح بالفعل في قطاع النفط والذي يعتبر أول ملياردير في العالم، اتخذ خطوة حاسمة قبل الانهيار، وهي بناء احتياطيات نقدية ضخمة.
- عندما بدأت الشركات المنافسة بالانهيار، استخدم "روكفلر" أصوله السائلة بدقة متناهية، واستحوذ على 22 من أكبر منافسيه بأسعار زهيدة، محولًا شركته "ستاندرد أويل" من لاعب إقليمي إلى عملاق احتكاري، والذي سيطر على 90% من طاقة التكرير في البلاد بحلول عام 1879.
- أما "كارنيجي"، والذي تقترب ثروته من حجم ثروة "روكفلر"، فاغتنم الفرصة أيضًا مع انهيار أسهم الصلب، واستغل كل دولار يمتلكه لشراء المصانع والمسابك، واستحوذت "كارنيجي ستيل" على نحو 75% من إمدادات الصلب عند مرحلة ما.
- فيما سلك "مورجان" نهجًا مختلفًا، وبدلًا من الاستحواذ على المنافسين، ركز على السندات الحكومية وسندات السكك الحديدية المتعثرة، فمع اضطراب السوق، جرى تداول هذه الأوراق المالية، التي كانت ذات قيمة عالية، بخصومات كبيرة على الرغم من بقاء قيمتها الأساسية كما هي.
- خلال عاصفة الأسواق، تمكن بنك "جيه بي مورجان" من بناء مراكز ضخمة في سوق السندات، ودفع مبالغ زهيدة (عشرات السنتات لكل دولار من السندات)، حيث راهن على عودة هذه الديون إلى قيمتها الاسمية في النهاية.
مخاطرة مثمرة.. وتحركات مدروسة
- تشارك هؤلاء "المغامرون" في استراتيجيات رئيسية، مثل دخول السوق تدريجيًا، فبدلًا من محاولة الإمساك بـ "السكين الساقط"، انتظروا حتى تبتعد الأسعار بوضوح عن القيم الأساسية، كما ركزوا على الأصول عالية الجودة ذات القيمة المستدامة.
- كما خاضوا مفاوضات شرسة، ففي حين ضغط البائعون للحصول على السيولة، تمكنوا من انتزاع تنازلات لم تكن لتخطر على بال في الأوقات العادية.
- أخيرًا، حافظوا على رؤيتهم طويلة الأجل، فبينما انتاب الذعر آخرون من الخسائر الفورية، ركز هؤلاء المستثمرون على آفاق استثمارية تمتد لعقد من الزمان، ولم يكونوا يشترون للشهر المقبل، وإنما للجيل القادم.
- عندما انقشع جليد الشتاء الاقتصادي أخيرًا عام 1879، لم يخرج هؤلاء المستثمرون من الأزمة أثرياء فحسب، بل تحولوا جذريًا، وأعادوا تشكيل صناعات بأكملها، ووضعوا أسس ما سيصبح لاحقًا العصر الذهبي للرأسمالية الأمريكية.
- لعلّ الدرس الذي قدّموه يبقى المبدأ الأكثر ديمومة في خلق الثروة؛ فالكارثة المالية التي تصيب الكثيرين غالبًا ما تخلق فرصًا للقلة المستعدة، وبالطبع لم يكن العامل الرئيسي المميز لهم هو الشجاعة فحسب، بل السيولة أيضًا، والقدرة على توظيف رأس المال عندما عجز الآخرون.
- في العقود التي تلت ذلك، نظر الأمريكيون إلى هذه الفترة بمشاعر متباينة، ففي حين مثلت مرحلة مشقة ومعاناة للملايين، كانت بمثابة بوتقة تولدت فيها بعض أعظم الثروات في التاريخ بالنسبة لفئة صغيرة من المستثمرين بعيدي النظر.
- في حين تصنع الحروب الجنرالات العظماء، مثل الرئيس "جرانت"، فإن الأزمات تصنع أباطرة المال، لذا كانت أزمة 1873 شهادة ميلاد لجيل من المستثمرين الأذكياء الذين أدركوا أن الفرص الكبرى تولد من قلب الفوضى.
- التاريخ لا يُقرأ فقط للعظة من الأخطاء، بل يُفهم لاستلهام استراتيجيات النجاح، لأن من يتعلم كيف يستثمر خلال الانهيار هو من يكتب فصول الازدهار القادمة.
المصادر: أرقام- مجلة سميثسونيان- جمعية المصرفيين الأمريكيين- مكتبة الكونجرس- موقع تاريخ الاحتياطي الفيدرالي- وزارة الخزانة الأمريكية- بي بي إس- فوربس- موقع تيتشنج هيستوري- شات جي بي تي- كلود
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: