إسلام زوين
بقلم إسلام زوين
لم يكن عمل مخترقي الشفرات يقتصر على فَكّ تعقيدات الرسائل المشفّرة، بل كانوا في تحد مع اللامعقول، على نحو ما كانت عليه تعقيدات شفرة "إنِجما" الدائمة التغيُّر – تلك الآلة التي تمّ تصميمها في أوائل القرن العشرين بداية كمنتج تجاريّ لحماية الاتّصالات الحسّاسة في قطاع الأعمال، والتي استخدمها الألمان لاحقا كسلاح في الحرب العالمية الثانية لحماية الاتصالات الهامة.
كان كل يوم يأتي ومعه تحدٍّ بكشف أنساق جديدة، وما يصحبُه من عدم القدرة على التنبؤ بالتغييرات الجديدة التي أضيفت إلى تعقيدات الشفرة – والتي "يُمكن" أن تتغيّر بدورِها مع كل نهار جديد. المرونة والسعي الدؤوب من الفريق بقيادة عالم الرياضيات آلان تورنغ إلى مجابهة التحديات الجديدة والطارئة كانت واحدة من أهم الرسائل في الفيلم الأمريكي الشهير "ذي إيميتيشن جيم."
كان هذا إبان الحرب العالمية الثانية، ولكنْ إذا انتقلنا سريعاً إلى 2025، فسنجد ستاراً مشابها من عدم القدرة على التنبؤ، يُخيّم على المشهد الاقتصادي العالمي المتغير بسبب مفاجآت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. كل كلمة تصدُر عن ترامب ترسل بدورِها موجاتٍ في وسائل الإعلام وعبر الأسواق كذلك، أشبه بموجات الشارت الذي نتابعه يوميا لمعرفة أسعار سوق الأسهم، وعلى نحو تبدو معه مهمّة التنبؤ الاستراتيجي عملاً لا نهاية له!
ويشبه المكلَّف بهذه المهمة شخصاً في "فريق إنجما"، كلّما اعتقد أنه أزال اللبس وحقق غايته من الوضوح، استجدّتْ أمامه تطورات جديدة أعادت الوضع إلى سابق عهده من الغموض مُجددا – وهكذا بلا نهاية!
وتماماً، كما كان يتعين على مخترقي الشفرات أن يتوصّلوا إلى اكتشاف التغييرات المستجدة في شفرة "إنِجما" إبان الحرب العالمية الثانية، فإنه يتعيّن اليوم على القادة وواضعي الاستراتيجيات أنْ يتعاملوا مع ذلك الواقع الخاص وما يحمله مقبل الأيام بسبب التطورات السياسية. والاقتصادية المفاجئة في عهد الرئيس ترامب ومن المهمّ جداً أن نقيّم تخطيطنا الاستراتيجي للطوارئ والتحوط – هل هو من القوة بما يكفي للتكيف مع ذلك الواقع الجديد؟
التقرير السنوي لرؤية السعودية 2030 الصادر حديثاً، كان على صواب في التأكيد على أهمية الإنجازات والتقدّم الواسع النطاق الذي أُحرز في مختلف القطاعات منذ 2016، والتي غيّرت وجه المملكة ووضعتْها في مكانة متميزة على الساحة العالمية، وبكل تأكيد.
ولكن، هل تعلّمنا حقاً من دروس الماضي القريب؟ ففي حين أن هذه الإنجازات جديرة بالثناء المستحق، إلا أنها تسلط الضوء أيضًا على أهمية الحفاظ على وضع سيناريوهات وفرضيات التخطيط للطوارئ الاقتصادية والسياسية العالمية، وعلى نحو يُسهم في مساعدة صناع القرار وواضعي السياسات على التكيّف والاستجابة بشكل فعّال مع المشهد الديناميكي الراهن.
ولعل زيارة ترامب الأخيرة إلى المملكة خير مثال على النهج الاستراتيجي الذي تتبعه المملكة مع ذلك الواقع الخاص. فأقرأ القمة السعودية-الأمريكية بعيدا عن لغة الأرقام وحجم الاستثمارات التي قد تصل إلى تريليون دولار، بل أركز في قراءتي للمشهد على كيف تركز المملكة على بناء شبكة علاقات اقتصادية وسياسية وأمنية تتوسع تدريجياً مع أقوى دولة في العالم اقتصاديا وعسكريا.
فمن خلال تعزيز العلاقات المتنوعة والدائمة، لا سيما مع الولايات المتحدة ودول أخرى مثل الصين، تحتاط المملكة من التقلبات في المشهدين الاقتصادي والجيوسياسي، وتعزز هذه الشبكة المترابطة مرونتها في مواجهة التحديات، مما يمكّن السعودية من التكيف بسرعة مع مفهوم الطوارئ.
مثل هذه المشاركة الاستباقية، والشراكات الاستثنائية، تضع البلاد في موقع يؤهلها لحماية مصالحها الوطنية والحفاظ على استقرارها والحفاظ على نفوذها على الساحتين الإقليمية والعالمية، بما يتجاوز مجرد المكاسب المالية أو التصريحات الدبلوماسية.
وفي عالم إدارة المشروعات والتخطيط الاستراتيجي، تعرَّف المرونة بأنها قدرة نظام تعرّض للتعطُّل المؤقت أن يعود إلى حالته السابقة بكفاءة عالية، فضلا عن القدرة على التنبؤ بالأعطال المحتملة وتطوير خطط طوارئ قوية للتعاطي مع تلك الأعطال بفعالية حال وقوعها، وهو ما كان سيحدث قبل أن تتخذ الولايات المتحدة والصين قبل ساعات من كتابة هذا المقال إجراءات من شأنها تخفيف، أو حتى إنهاء، حرب التعريفات الجمركية.
لذا فإن التخطيط للأحداث الطارئة وفرض السيناريوهات المحتملة لا يخفّف من تبعات عدم اليقين الاقتصادي فحسب، وإنما يضمن كذلك استمرارية العمليات التشغيلية، وهذا من شأنه أن يُمكّن مختلف القطاعات من التكيّف بسرعة مع التغيّرات التي تطرأ على ظروف السوق؛ بل ومواصلة مسار النمو أيضا.
وبينما تتأهب السعودية لتنظيم أحداث عالمية هامة مثل مونديال كأس العالم 2034، تتبدّى بوضوح أهمية وضرورة الحاجة إلى تقييم دقيق للقدرة على التعاطي بفعالية مع الطوارئ المرتبطة بعنصر الوقت والزيادة المحتملة لكلفة بعض المواد المستوردة، خاصة إذا لم يتوصل قطبا الاقتصاد في العالم إلى حل يرضي جميع الأطراف، فالطرق التقليدية لتقييم المخاطر قد لا تُحيط إحاطة كاملة بمدى تأثير الاضطرابات الجيوسياسية على الخطط القائمة. وهنا تظهر أهمية ما يُعرف بـ "مرحلة التعافي"، في علم التخطيط للطوارئ؛ حيث يتم التركيز في تلك المرحلة على استعادة عمليات التشغيل العادية واستعادة الاستقرار بعد فترة وجيزة من التعطّل.
ولعل من الأمثلة الدالّة في هذا الصدد، تلك الطريقة التي تعاملت بها السعودية مع وباء كوفيد-19؛ حيث عبرت المملكة بكفاءة مرحلة التعافي من خلال تنفيذ بروتوكولات صحيّة، وتسريع وتيرة التحوّل الرقمي، فضلاً عن تنويع الاقتصاد المستمر منذ الإعلان عن مبادرات "رؤية 2030".
وقد أطلقت الحكومة حملات تحصين باللقاحات في ربوع المملكة، كما روّجت للعمل عن بُعد من أجل تخفيف أثر الوباء الذي شهده العالم بأسره عام 2020، وهو ما عكس فكرا استباقيا استراتيجيا يُثمن الاستعداد والجهوزية، ما من شأنه تعزيز القدرة على اجتياز تحديات غير متوقعة.
طريق المرونة لا يحتاج فقط إلى كشف رموز تعقيدات الماضي، وإنما يحتاج كذلك إلى الاستفادة من دروسه. وفي ظل سياق لا يتوقف عن التغيُّر، وعالم لا يقبل سوى الأقوياء القادرين على التكيف، تبقى المرونة أذكى لغات البقاء.
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: