في عالم تحكمه الثقافة البصرية ووسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد محاولة وقف علامات التقدّم في العمر على جسد الأشخاص مجرّد هوس شخصي أو رفاهية اختيارية، بل تحوّلت إلى معركة اقتصادية شرسة.
ومن حقن البوتوكس إلى العمليات الجراحية المعقّدة، ومن الكريمات "المضادة للشيخوخة" إلى الحميات الجينية والوصفات السحرية، تتحول الرغبة في إخفاء مظاهر تقدم السن إلى واحدة من أكثر الصناعات ربحًا في القرن الحادي والعشرين.
وتتجلى تفاصيل هذه المعركة في العيادات الطبية، ومراكز التجميل وحتى على منصات التواصل الاجتماعي.
وباتت التجاعيد تُقرأ كعلامات ضعف، والشعر الرمادي كمؤشر تراجع، بينما يُكافأ الأشخاص الذين يبدون أصغر سنًا بفرص عمل أكثر، واهتمام أكبر، وحتى ثقة أعلى في مجالات لا علاقة لها بالمظهر أساسًا.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
هذا الاهتمام المتزايد يدفع عشرات الملايين من الناس لإنفاق مليارات الدولارات على تغيير ملامحهم، فكيف أصبحت "مكافحة الشيخوخة" صناعة ضخمة وتنافس قطاعات كبرى مثل التكنولوجيا والسياحة؟
الأرقام تتحدث
بحسب الجمعية الدولية لجراحة التجميل، جرى إجراء أكثر من 30 مليون عملية تجميلية، سواء جراحية أو غير جراحية، حول العالم في عام 2022، بزيادة بلغت 19.3% مقارنة بالعام السابق.
وتصدّرت الولايات المتحدة القائمة كأكثر دولة إجراءً للعمليات التجميلية بنسبة 26.1% من العمليات عالميًا، تلتها البرازيل بنسبة 8.9%، ثم اليابان بـ5.7%، والمكسيك بـ3.9%، وألمانيا بـ3.7%.
توقعات حجم سوق مكافحة الشيخوخة عالميًا حتى عام 2030: |
|
السنة |
حجم السوق المتوقع (بالمليار دولار أمريكي) |
2025 |
85.1 |
2026 |
91.1 |
2027 |
97.4 |
2028 |
104.2 |
2029 |
111.5 |
2030 |
119.8 |
أما فيما يتعلق بالعمليات الجراحية الأكثر شيوعًا، فقد تصدّرت عمليات شفط الدهون القائمة، بعدد بلغ نحو 2.3 مليون عملية، وشملت القائمة أيضًا عمليات شد الجفون (1.5 مليون)، وتجميل الأنف (1.1 مليون)، وأخيرًا شد البطن بما يقارب المليون عملية.
في الجانب غير الجراحي، تصدرت حقن البوتوكس القائمة بأكثر من 9 ملايين حالة، تليها الفيلرز بـ5 ملايين، إلى جانب انتشار كبير لتقنيات تقشير وتجديد البشرة سواء بالليزر أو بالمواد الكيميائية.
تلك الأرقام قد تكون أكبر بكثير خلال العام الماضي، في ظل استمرار تنامي الطلب على الإجراءات التجميلية، وتزايد الإقبال على حلول مكافحة الشيخوخة في مختلف الفئات العمرية.
وبالانتقال إلى حجم السوق العالمي لمكافحة الشيخوخة، فتشير التقديرات إلى أنه سيبلغ 85.13 مليار دولار أمريكي في عام 2025 بعد أن بلغ نحو 67.2 مليار دولار خلال عام 2022.
ومن المتوقع أن يبلغ حجم السوق نحو 120 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030، بمعدل نمو يصل إلى 7% سنويًا، وفقًا لتقرير نشره موردر إنتلجينس.
عوامل ساعدت على زيادة عمليات التجميل
ظهرت العديد من العوامل التي شجعت على زيادة الإقبال على عمليات التجميل في السنوات الأخيرة، منها التقدم التقني والطبي في هذا المجال، حيث أصبحت الإجراءات التجميلية أكثر أمانًا وسرعة، مع فترات تعافٍ أقصر وتكلفة أقل نسبيًا مقارنة بالسابق.
وساهم تزايد شيخوخة السكان في الدول المتقدمة مثل أوروبا واليابان والولايات المتحدة، وثقافة الجمال والشباب المتنامية في آسيا وأميركا اللاتينية، في لعب دور مهم في هذا الإطار.
هذا إلى جانب تأثير المشاهير والمؤثرين الذين يروّجون لمعايير جمال مثالية، فضلًا عن التقدّم التقني في الطب التجميلي غير الجراحي والعلاجات التجديدية.
وسائل التواصل الاجتماعي هي الأخرى سلطت الضوء على عمليات التجميل، حيث برزت منصات مثل إنستجرام وتيك توك وسناب شات في تسليط الضوء على تفاصيل الوجه والجسم، ما زاد من إقبال الأفراد على الظهور على نحو أجمل.
فعلى سبيل المثال، بعد جائحة كوفيد 19 ظهر ما يُعرف بـ"طفرة الزووم"، إذ ساهم انتشار تطبيق الزووم من أجل أغراض التعليم والاجتماعات في تسريع ظاهرة الوعي الذاتي المرتبط بالمظهر الخارجي مع زيادة ساعات التحديق في الشاشات ومكالمات الفيديو.
وبات الأفراد يشاهدون أنفسهم على الشاشة لساعات طويلة، ما دفع الكثيرين إلى التركيز على عيوب وجوههم أو تعابيرهم، وبالتالي التوجه نحو التجميل كوسيلة لتحسين الشكل أمام الكاميرا.
وقد أظهرت دراسة نُشرت في مجلة فاشيال بلاستيك سيرجري أند إستيتك ميديسن أن 72% من جراحي التجميل المتخصصين في الوجه أفادوا بأن المرضى يذكرون مكالمات الفيديو كدافع رئيسي وراء طلب العمليات.
أما من حيث التركيبة الديموغرافية للزبائن، فلا تزال النساء يشكّلن النسبة الأكبر من إجمالي من يخضعون للإجراءات التجميلية عالميًا، بنسبة تصل إلى 86%.
ومع ذلك، فإن نسبة الرجال في تزايد ملحوظ، لا سيما في إجراءات مثل زراعة الشعر، وجراحات شد الجفون، ونحت الذقن والفك.
وتتنوع الفئات العمرية المهتمة بالتجميل، إذ يركز الأشخاص بين سن 20 و39 عامًا على نحت الجسم والفيلرز والبوتوكس الوقائي، أما من تتراوح أعمارهم بين 40 و59 عامًا فيسعون وراء علاجات مقاومة الشيخوخة وشد الوجه.
في حين يفضّل من هم فوق الستين عامًا الإجراءات التي تساهم في الحفاظ على المظهر وشد الجلد.
الوجه الآخر لسباق مكافحة الشيخوخة
ورغم أن هذه الصناعة تَعِدُ بحلول سريعة وفعالة لإبطاء مظاهر التقدّم في العمر، فإن الوجه الآخر لهذا السباق قد يبدو أقل بريقًا.
إذ يعاني بعض الأشخاص من آثار جانبية جسدية ونفسية طويلة الأمد، ناتجة عن إجراءات غير مدروسة أو مراكز غير مرخصة، وعلى رأسها التأثيرات النفسية المحتملة مثل اضطراب تشوه صورة الجسد.
كما أن انتشار الثقافة التي تمجّد الشباب الأبدي أدّى إلى خلق معايير جمالية غير واقعية، تسببت في ضغط نفسي على فئات عمرية شابة لا تزال في بداية حياتها.
وفي كثير من الحالات، يتحوّل السعي وراء الكمال إلى هوس يُفقد الفرد علاقته الطبيعية بجسده، ويؤجج شعورًا دائمًا بعدم الرضا.
هذا إلى جانب ظاهرة الإفراط أو الإدمان على الخضوع للعمليات التجميلية، خصوصًا بين فئة الشباب، حيث تفتح قلة الرقابة في بعض الدول الباب أمام ممارسات غير آمنة من قبل غير المتخصصين، ما يثير قلقًا متزايدًا في الأوساط الطبية والمجتمعية.
وفي حين تُعَدّ صناعة مكافحة الشيخوخة فرصة استثمارية واعدة، فإن تجاهل الجوانب الأخلاقية والنفسية قد يؤدي إلى تكلفة مجتمعية باهظة، لا تُقاس بالمال فقط، بل بثقة الأفراد في أنفسهم وصورتهم الذاتية.
يبدو أن هوس العالم بالشباب الدائم وجراحات التجميل لن يتراجع في الأفق القريب، فبين وعود الثقة بالنفس، وضغوط المجتمع، وهوس الكمال الجمالي، تتجه الملايين من البشر نحو إنفاق أموال ضخمة لكي يظهروا في صورة مثالية يصعب تحقيقها أو الحفاظ عليها.
ومع تراجع النظرة السلبية تجاه الإجراءات التجميلية وتطور التقنيات غير الجراحية، أصبح الوصول إلى مظهر أكثر شبابًا أسهل من أي وقت مضى، لكن في المقابل، زادت التحديات النفسية والاجتماعية المرتبطة بذلك.
فهل نسعى فعلًا إلى تحسين صورتنا الذاتية، أم أننا وقعنا في فخ لا ينتهي من السعي وراء الكمال؟
المصادر: أرقام- الجمعية الدولية لجراحة التجميل- فورتشن بيزنس- الجمعية الأميركية لجراحي التجميل- إستاتيستا- فايشيال بلاستيك سيرجري جورنال- موردر إنتلجينس
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: