نبض أرقام
07:08 ص
توقيت مكة المكرمة

2025/12/25
2025/12/24

كيف خرج وحش اليمين الشعبوي من رحم الليبرالية الجديدة؟

2025/08/30 أرقام

- لأكثر من أربعة عقود، هيمنت عقيدة واحدة على العالم، ورسمت سياساته، وتحكمت في اقتصاده. كانت الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية) هي الأيديولوجيا الحاكمة التي انطلقت من عواصم الغرب في الثمانينيات، بقيادة رونالد ريجان ومارجريت تاتشر، لتصبح بوصلة الحكومات والمؤسسات الدولية.

 

- وهكذا ارتبط اسمها بالخصخصة الشرسة، وتقليص الخدمات الاجتماعية، وتخفيض الضرائب عن الأثرياء، وسحق النقابات وتهميش دورها، وتحرير الأسواق من أي قيود.

 

- لكن في قلب هذا المشهد، وُلد تناقض صارخ؛ ففي الوقت الذي كانت فيه العولمة النيوليبرالية في أوجها، بدأ يظهر على المسرح العالمي خصمٌ عنيد: يمينٌ شعبويٌ قوميٌ، يرفع شعارات حماية الحدود، ويعادي المؤسسات الدولية، ويبدو وكأنه نقيضٌ لكل ما دعت إليه النيوليبرالية.

 

- وعلى مدى سنوات، سادت رواية "ردة الفعل"؛ وأن هذا اليمين ما هو إلا تمرد ضد العولمة. لكن ماذا لو كانت الحقيقة أكثر إثارة للقلق؟ ماذا لو لم يكن هذا الوحش الجديد عدوًا، بل ابنًا عاقًا خرج من رحم الفكرة ذاتها؟

 

- هذه هي الأطروحة الصادمة التي يقدمها المؤرخ كوين سلوبوديان في كتابه الجديد والمزلزل "أبناء هايك: الجذور النيوليبرالية لليمين الشعبوي".

 

- في هذا الكتاب، يقلب سلوبوديان الطاولة على السرديات السائدة، ليقول لنا بوضوح: هؤلاء ليسوا برابرة على أبواب العولمة، بل هم النسل غير الشرعي للفكرة ذاتها.

 

النصر المفقود: مفارقة ما بعد الحرب الباردة

 

 

- لفهم هذه العلاقة المعقدة، يأخذنا سلوبوديان إلى لحظة تاريخية محورية: التسعينيات. كان من المفترض أن تكون تلك الفترة هي عصر انتصار النيوليبرالية المطلق.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

- بعد أن انهار الاتحاد السوفيتي، وسقطت الشيوعية، وأصبحت الرأسمالية هي الأيديولوجيا السائدة؛ كان يجب على رواد الفكر النيوليبرالي، من أمثال ميلتون فريدمان، أن يحتفلوا.

 

- لكن ما حدث كان العكس تمامًا. وبدلًا من الاحتفال، سادت بينهم حالة من الذعر. لقد لاحظوا بقلق أن الإنفاق العام استمر في التوسع حتى في معاقل الرأسمالية.

 

- يعلق فريدمان على الأمر بقوله إنه لم تكن هناك أي رؤى في واشنطن حول كيفية تقليص دور الحكومة. لقد شعروا أنهم ربحوا المعركة ضد الشيوعية، لكنهم خسروا الحرب ضد "الدولة الاجتماعية".

 

- من وجهة نظرهم، كانت هناك أخطار جديدة تزحف لتقويض حلمهم: الحركة النسوية، وحركة الحقوق المدنية، وحماية البيئة، والمؤسسات فوق الوطنية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي تحول في نظرهم من مشروع لتسريع المنافسة إلى "حصان طروادة اشتراكي".

 

العودة إلى الطبيعة: البحث عن مبرر بيولوجي

 

- أمام هذا الواقع المحبط، ومع استمرار المطالبات الشعبية بمعالجة عدم المساواة، واجه النيوليبراليون مشكلة سياسية.

 

- لقد شعروا أن عقودًا من "الجماعية" والاعتماد على دولة الرفاه قد أدت إلى تآكل فضائل الاعتماد على الذات.

 

- كانوا بحاجة إلى حجة أقوى من مجرد الاقتصاد. كانوا بحاجة إلى العودة إلى "المبادئ الأولى"، إلى حجة تتجاوز المجتمع وتضرب بجذورها في شيء أكثر صلابة وثباتًا: الطبيعة البشرية.

 

- هنا، حدث التحول الأخطر. للرد على ما أسموه "الصوابية السياسية" الخانقة، ولتبرير رفضهم لمطالب المساواة، بدأوا يبحثون عن دعم "علمي" لفكرتهم الأساسية القائلة بأن سياسات المساواة تتعارض مع الطبيعة.

 

ولادة "الاندماجية الجديدة": حين يلتقي السوق بالجينات

 

- يسمي سلوبوديان هذا التحول بـ "الاندماجية الجديدة"؛ فإذا كانت "الاندماجية القديمة" في الخمسينيات قد مزجت بين الأفكار الاقتصادية التحررية والتقاليد الدينية، فإن النسخة الجديدة استبدلت العلم بالدين.

 

- وبالاعتماد على علم النفس التطوري، وعلم الأحياء الاجتماعي، وعلم الوراثة، سعت فصائل جديدة مثل "القدامى التحرريين" إلى إرساء حججهم على "صخرة البيولوجيا".

 

- وكما يجادل سلوبوديان، خلف الخطاب المجرد عن الحريات، تكمن قصة أكثر قتامة عن البدايات البدائية، والاختلافات الراسخة بين البشر.

 

- يلقي هذا الفهم ضوءًا كاشفًا على هوس رموز اليمين مثل جوردان بيترسون بعلم النفس التطوري، والهوس بمعدل الذكاء بين عمالقة التكنولوجيا في وادي السيليكون.

 

الاقتصاد العرقي: حدود السوق وحدود البشر

 

 

- أخذ هذا التحول منعطفًا أكثر خطورة مع تغير التركيبة السكانية في الولايات المتحدة؛ فمع تزايد عدد السكان غير البيض، بدأ بعض المفكرين النيوليبراليين والتحرريين في "إعادة التفكير في الشروط الضرورية للرأسمالية". لقد طوروا فكرة "الاقتصاد العرقي" (ethno-economy).

 

- تقوم هذه الفكرة على أن بعض الثقافات - وبالنسبة للبعض، بعض "الأعراق" - لديها استعداد فطري للنجاح في السوق، زاعمين أن بعض المجتمعات طورت سمات ثقافية مثل المسؤولية الشخصية والعقلانية على مدى فترات طويلة، بينما لم تفعل ذلك مجتمعات أخرى.

 

- الأخطر من ذلك، أنهم بدأوا يجادلون بأن "التجانس الثقافي شرط مسبق للاستقرار الاجتماعي"، وبالتالي للتمتع بالملكية الخاصة.

 

- ومن رحم هذه الفكرة، وُلد الداعون لفكرة "الحدود المغلقة"، الذين يدعون إلى حرية حركة رأس المال والسلع، لكنهم "يرسمون خطًا صارمًا ضد أجناس وأعراق معينة من البشر".

 

- والشاهد هنا أن مطالبتهم بدولة عرقية لم تكن مجرد نزعة قومية، بل كانت متجذرة في مطلبهم بـ "اقتصاد عرقي".

 

علم زائف لخدمة الأيديولوجيا

 

- لشرح التفاوت في القدرات داخل سوق عالمي، تشبثت شخصيات مؤثرة بما اعتقدوا أنه "موضوعية علم الأعراق"؛ وبالاعتماد على أبحاث هامشية حول معدل الذكاء، قسموا البشرية إلى "طبقات معرفية".

 

- في عام 1994، نشر تشارلز موراي كتابه "منحنى الجرس" (The Bell Curve) المثير للجدل، الذي ربط بين "العرق" و"الذكاء".

 

- كما رأى موراي روثبارد، وهو أحد رواد "الاندماجية الجديدة"، أن هناك أساسًا جينيًا لعدم المساواة في الذكاء يقوض أي محاولة لخلق مساواة في النتائج.

 

خلاف عائلي: الشعبوية كطفرة نيوليبرالية

 

- خلق هذا المزيج من حرية السوق والعنصرية البيولوجية "هجينًا سياسيًا فائزًا" في أوروبا، تجسد في أحزاب مثل "البديل من أجل ألمانيا" و"حزب الحرية النمساوي".

 

- يؤكد سلوبوديان أن هذه القوى لم تقترح رفضًا كليًا للعولمة، بل نسخة معدلة منها؛ نسخة تقبل التدفق الحر للسلع ورأس المال، لكنها "تشدد الرقابة على أنواع معينة من الهجرة".

 

- وهنا تكمن المفارقة الكبرى. الأحزاب التي توصف بالشعبوية اليمينية، من الولايات المتحدة إلى بريطانيا والنمسا، "تقدم خططًا محدودة وعقيمة لكبح جماح التمويل، أو استعادة العصر الذهبي للأمن الوظيفي، أو إنهاء التجارة العالمية".

 

- على العكس، فإن دعواتهم للخصخصة، وإلغاء القيود، وخفض الضرائب تأتي مباشرة من نفس كتاب قواعد اللعبة الذي استخدمه قادة العالم على مدى الثلاثين عامًا الماضية.

 

- ما نشهده اليوم، كما يخلص سلوبوديان، ليس صراعًا بين النيوليبرالية وأعدائها، بل هو في الغالب "خلاف عائلي".

 

- إنه صراع بين نسخة عالمية متفائلة من النيوليبرالية، ونسخة قومية متشائمة ولدت من رحمها. ولقد تحور الفيروس، وأصبح أكثر شراسة، لكنه لا يزال يحمل نفس الحمض النووي.

 

المصدر: ذا كونفرسيشن

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.