- يقف ديفيد هيوم بين عمالقة الفكر الغربي، كشخصية زلزلت أركان الفلسفة التقليدية. إنه الفيلسوف الأسكتلندي الذي تجرأ على القول بأن اليقين مجرد وهم، وأن كل ما نعرفه ليس سوى صدى لتجاربنا الحسية.
- لكن خلف هذه الصورة الشهيرة للمتشكّك الأعظم، يختبئ وجه آخر لهيوم، وجه أغفله التاريخ طويلاً: وجه الاقتصادي الفذّ الذي لم تقتصر أفكاره على إلهام صديقه آدم سميث فحسب، بل امتد أثرها ليصل إلى عمالقة القرن العشرين مثل ميلتون فريدمان.
- فمن هو ديفيد هيوم حقًا؟ وكيف يمكن لرجل واحد أن يجمع بين تشريح النفس البشرية ورسم ملامح الاقتصاد الحديث؟ نتعرف في هذا التقرير، على سيرة هذا العملاق لنكشف عن عبقريته متعددة الأوجه.
من مزارع أسكتلندا إلى صالونات فرنسا
- وُلد ديفيد هيوم عام 1711 في إدنبرة بأسكتلندا، لأسرة نبيلة. ورغم أن التقاليد العائلية دفعته إلى دراسة القانون، فإن شغفه الحقيقي كان يكمن في عالم الآداب والفلسفة الرحب.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
- انغمس هيوم الشاب في القراءة بنهم وشغف لدرجة أن هذا الجهد الفكري الجبار أدى إلى إصابته بانهيار عصبي عام 1729، واحتاج لسنوات حتى يتعافى منه. كانت تلك إشارة مبكرة على عمق الصراع الفكري الذي كان يعتمل في داخله.
- في عام 1734، وفي نقطة تحول مصيرية، قرر هيوم اعتزال كل شيء والسفر إلى فرنسا. هناك، في هدوء مدينة "لا فليش"، قضى 3 سنوات منكبًا على الدراسة والتأليف، ليخرج للعالم بأهم أعماله الفلسفية وأكثرها طموحاً: "رسالة في الطبيعة البشرية".
- كان هذا الكتاب محاولته الجريئة لصياغة نظام فلسفي متكامل، معتبراً الفلسفة "علمًا تجريبيًا استقرائيًا للطبيعة البشرية"، ومستلهمًا المنهج العلمي لإسحاق نيوتن.
رسالة في الطبيعة البشرية: العمل الذي وُلد ميتًا
- قسّم هيوم "الرسالة" إلى 3 كتب طموحة. تناول الكتاب الأول "في الفهم" أصل الأفكار، وكيفية عمل العقل، وطبيعة السببية، ليصل إلى نتيجة صادمة: لا يمكن لأي معرفة أن تتجاوز حدود التجربة، ومن ثمَّ، لا يمكن بناء أي نظرية عن حقيقة الواقع.
- أما الكتاب الثاني "في الأهواء"، فقد قدم تشريحًا نفسيًا معقدًا للنظام العاطفي البشري، مؤكدًا أن العقل ليس سوى "عبدًا للأهواء".
- وفي الكتاب الثالث "في الأخلاق"، جادل بأن الخير والشر ليسا حقائق موضوعية، بل هما نتاج لمشاعر الاستحسان أو الاستنكار التي تنتابنا تجاه سلوك معين.
- بيد أن هذا العمل الضخم، الذي يُعد اليوم حجر الزاوية في الفلسفة التجريبية، قوبل بتجاهل تام عند نشره. وكما قال هيوم نفسه بمرارة، فإنه "وُلد ميتًا من المطبعة".
- والمفارقة أن هيوم نفسه تبرأ من هذا العمل في أواخر حياته، واعتبره عملاً صبيانيًا غير ناضج. ورغم ذلك، يظل الكتاب الأول من "الرسالة" هو أكثر كتاباته قراءة ودراسة في الأوساط الأكاديمية حتى يومنا هذا، في شهادة على أن عبقرية الشباب قد تتجاوز أحيانًا حكمة النضج.
الاقتصادي الخفي: كيف صاغت التجربة العملية فكر هيوم المالي؟
- بعد فشل "الرسالة"، مرّ هيوم بفترة من التخبط، حيث عمل مدرسًا خاصًا وسكرتيرًا لجنرال عسكري، وشارك في مهام دبلوماسية في فيينا وتورينو.
- هذه التجارب العملية، بعيدًا عن الأبراج العاجية للفلسفة، فتحت عينيه على أهمية الاقتصاد في تشكيل الشؤون السياسية والاجتماعية.
- جعلته فترة عمله القصيرة في مكتب تاجر سكر في بريستول، وتجاربه الدبلوماسية، يدرك أن فهم روح العصر يتطلب فهم اقتصاده.
- وهنا يبرز الجانب المنسي من إرث هيوم، والذي سلطت عليه دراسات حديثة الضوء، مثل كتاب مارجريت شاباس وكارل وينرلند.
- ففي مقالاته التي جمعها في كتاب "الخطابات السياسية" عام 1752، قدم هيوم تحليلات اقتصادية ثاقبة كشفت عن اهتمام عميق ودائم بهذا المجال.
- لم يكن الاقتصاد بالنسبة له مجرد هواية عابرة، بل كان جزءًا لا يتجزأ من مشروعه الفلسفي لفهم الطبيعة البشرية في سياقها الاجتماعي.
بصمات العبقرية الاقتصادية: من حيادية المال إلى التجارة الحرة
- في مقالاته الاقتصادية، وضع هيوم أسسًا للعديد من النظريات التي أصبحت لاحقًا من ركائز علم الاقتصاد الكلاسيكي. لقد أظهر، من خلال الملاحظة الدقيقة والتجارب الفكرية البارعة، فهمًا عميقًا لآليات السوق. ومن أبرز إسهاماته.
أبرز إسهامات ديفيد هيوم في الاقتصاد الكلاسيكي |
|
نظرية النقد |
-كان هيوم من أوائل من قدموا حجة متكاملة حول "حيادية المال" على المدى الطويل، موضحًا أن زيادة كمية النقود في الاقتصاد تؤدي في النهاية إلى ارتفاع الأسعار فقط، دون تأثير حقيقي على الإنتاج.
-وفي الوقت نفسه، كان مدركًا لتأثير المال على المدى القصير في تحفيز النشاط الاقتصادي عبر تغيير توقعات الناس وسلوكهم.
-كانت هذه الرؤية المزدوجة سابقة لعصرها لدرجة أنه عندما سُئل الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان في عام 1975 عما تعلمه الاقتصاديون في نظرية النقد خلال 25 عامًا، أجاب بأن السؤال يجب أن يكون: "ما الذي تعلمناه في مئتي عام منذ ديفيد هيوم؟".
|
التجارة الدولية والملكية |
- قدم هيوم تحليلات عميقة حول التجارة، والتنمية، والتمويل العام. وكانت أفكاره حول الملكية بمثابة الجسر الذي ربط بين فلسفته الأخلاقية (التي عرّفت العدالة بأنها احترام الملكية) وبين الاقتصاد السياسي.
|
التأثير على آدم سميث |
- لا شك أن صداقته العميقة مع آدم سميث، الذي يُعد "أبو الاقتصاد الحديث"، كان لها أثر كبير.
- فالعديد من الأفكار التي ظهرت لاحقًا في كتاب سميث "ثروة الأمم" يمكن تتبع جذورها إلى مقالات هيوم الاقتصادية، مما يجعل هيوم بمثابة الجد الروحي للاقتصاد الكلاسيكي.
|
جدل الإرث: هل كان الاقتصاد حقاً بوصلة هيوم؟
- رغم الجهود الحديثة لإبراز أهمية فكر هيوم الاقتصادي، يظل هناك جدل أكاديمي حول مدى مركزية هذا الفكر في مشروعه الفلسفي العام.
- فبينما يجادل البعض بأن الاقتصاد كان هو البوصلة التي وجهت فلسفته بأكملها، يرى آخرون أن هذا يعد تضخيمًا لدور الاقتصاد.
- فبالنسبة لهؤلاء، العلم الأساسي عند هيوم كان دائمًا "علم الطبيعة البشرية" (ما نسميه اليوم بالعلوم المعرفية)، وأن الاقتصاد والسياسة كانا مجرد تطبيقات لهذا العلم الأساسي.
- يشير هؤلاء النقاد إلى أن هيوم نفسه كان متشككًا في إمكانية الوصول إلى "حقائق عامة" في السياسة والاقتصاد، معتبرًا أن "العالم لا يزال أصغر من أن يسمح بتثبيت العديد من الحقائق العامة في السياسة".
- هذا التشكك المنهجي هو السمة المميزة لفكر هيوم، وهو ما يجعل محاولة وضعه في قالب أيديولوجي معين، سواء كـ "رأسمالي متحمس" أو غيره، أمرًا صعبًا.
- في النهاية، سواء كان الاقتصاد هو المحرك الرئيسي لفكره أم مجرد تطبيق له، فإن ما لا يمكن إنكاره هو أن ديفيد هيوم ترك بصمات لا تُمحى على مسارين رئيسيين من مسارات الفكر الإنساني.
- كان الفيلسوف الذي علّمنا حدود العقل، والاقتصادي الذي كشف لنا عن منطقه الخفي. ولعل عبقريته الحقيقية تكمن في رؤيته المتكاملة للإنسان، ككائن لا يمكن فهمه إلا من خلال دراسة أهوائه، وأفكاره، والطريقة التي ينظم بها حياته المادية.
المصدر: الموسوعة البريطانية
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: