نبض أرقام
01:31 م
توقيت مكة المكرمة

2025/10/01
2025/09/30

الاقتصاد الرمادي .. خريطة خفية تعيد تشكيل مسار الاقتصاد العالمي

08:02 ص (بتوقيت مكة) أرقام - خاص

مع بزوغ الصباح في إحدى المدن الصينية المكتظة، تبدأ الحياة بإيقاعها المعتاد، فعند مدخل محطة القطار يزدحم الرصيف بعشرات الباعة الجائلين الذين يبيعون وجبات الإفطار السريعة دون تراخيص.

 

وفي الأزقة الخلفية تنتشر ورش صغيرة تُنتج قطعًا إلكترونية مقلدة، لتُنقل لاحقًا في صناديق بلا شعارات نحو متاجر ليس لديها تراخيص رسمية.

 

 

وعلى أطراف المدينة نفسها هناك سوق شعبي، يتحرك فيه سائقو الدراجات النارية ثلاثية العجلات (المعروفة محليًا باسم التوك توك أو ركشا) وهم أيضًا غير مسجلين في أي نظام، لنقل الركاب.

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

وفي قلب المدينة، يتدفق عمال يوميون إلى مواقع البناء في الأبراج الشاهقة، حيث يعملون دون عقود رسمية أو حماية اجتماعية.

 

كل هذه المشاهد المتفرقة تنسج شبكة غير مرئية لاقتصاد ضخم يسري في عروق المدينة دون أن يمر عبر دفاتر الحكومة أو سجلات الضرائب، إنه الاقتصاد الرمادي؛ الوجه الخفي للنمو في الصين.

 

وتشير بعض التقديرات إلى أن الاقتصاد غير الرسمي في الصين شكل نحو 12.3% من الناتج المحلي، أي ما يعادل مليارات الدولارات، لكن الصين ليست استثناءً؛ فهذه المشاهد التي تتكرر في أزقتها وأسواقها الشعبية ليست سوى انعكاس لظاهرة أوسع تتجاوز حدود الجغرافيا.

 

فالاقتصاد الرمادي حاضر في كل قارة، من مدن آسيا النابضة إلى أسواق إفريقيا المفتوحة، ومن أحياء أمريكا اللاتينية المزدحمة إلى الاقتصادات الأوروبية المتقدمة.

 

ورغم اختلاف الأشكال والأحجام، يظل القاسم المشترك هو الأنشطة الاقتصادية الهائلة التي تجري خارج إطار السلطات الرسمية، لتصنع خريطة خفية تعيد تشكيل مسار الاقتصاد العالمي.

 

ويتيح هذا الاقتصاد ملايين من فرص العمل حول العالم، لكنه يطرح أيضًا سؤالًا صعبًا: هل هو نعمة تدعم استقرار المجتمع، أم عبء يهدد استدامة التنمية؟

 

الاقتصاد الرمادي وتأثيره على النمو

 

يشمل الاقتصاد الرمادي أو ما يعرف بالاقتصاد غير الرسمي جميع الأنشطة الاقتصادية المنتجة للدخل والتي تتم خارج نطاق التنظيم الرسمي تضمن أوراق ضريبية غير مكتملة، وأعمال فردية غير مسجلة، وأجور نقدية بدون ضمانات، وأسواق تجارية غير مرخّصة. 

 

 

هذا القطاع شاسع ومتنوع، إذ يمتد من بائعي الشوارع والحرفيين إلى الأعمال المنزلية والتهريب، ويختلف حجمه وتأثيره باختلاف الدول ومستوى التنمية.
 

وتشير تقديرات حديثة إلى أن الحجم الإجمالي لاقتصاد الظل يمثل نسبة معتبرة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي حيث تقدره بعض دراسات القطاع الخاص بنحو 11.8% من الناتج العالمي في 2023.

 

في المقابل، تُظهر قواعد بيانات ومسوحات عالمية أن نسبة العمالة غير الرسمية أعلى بكثير في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، حيث يصل عدد العاملين في أعمال غير منظمة إلى مئات الملايين أو أكثر من مليارين حسب مصدر المنظمات الدولية.

 

هذا التباين يوضح صعوبة قياس حجم الاقتصاد الرمادي بدقة رغم أنه يوفر مصدر دخل للعديد من فئات المجتمع حول العالم.

 

الاقتصاد الرمادي.. نعمة أم عبء؟
 

في الاقتصادات الناشئة يلعب القطاع غير الرسمي دورًا مزدوجًا، فمن جهة، يوفر وظائف سريعة الدخول، ومصادر دخل لعائلات فقيرة، ومرونة اقتصادية في أوقات الأزمات.

 

 في المقابل يعيق النمو طويل الأجل عبر تشويه المنافسة، الحدّ من قدرة الشركات على التوسع، وإعاقة الاستثمار الرسمي والائتمان، ويقلل من فرص الموارد المالية للدولة.

 

ويشير تقرير البنك الدولي إلى أن الاقتصادات ذات النسبة العالية من عدم الرسمية تشهد نموًا أدنى على المدى الطويل، وضعفًا في الاستثمار والإنتاجية، ويواجه أفرادها ضعف الحماية الاجتماعية والوصول للتمويل.

 

لذلك يصعب الإجابة على هذا السؤال فهو يشكل دعمًا اقتصاديًا واجتماعيًا قصير الأجل لكنه مكلف للنظام على المدى المتوسط والطويل في حال غياب الإصلاحات المناسبة.

 

تأثير الاقتصاد الرمادي

 

يمثل الاقتصاد الرمادي تحديًا معقدًا أمام الدول، إذ ينعكس بشكل مباشر على الإيرادات العامة.

 

فبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، يتراوح حجم الاقتصاد غير الرسمي بين 10% و40% من الناتج المحلي الإجمالي عالميًا، ما يؤدي إلى خسائر ضريبية قد تصل إلى تريليونات الدولارات سنويًا.

 

 

وفي الاقتصادات الناشئة، تُقدَّر الفجوة الضريبية الناتجة عنه بما يقارب 5% من الناتج المحلي، وهو ما يحدّ من قدرة الحكومات على تمويل الخدمات الأساسية ويزيد من اعتمادها على الاقتراض.

 

إلى جانب الأثر المالي، يضغط الاقتصاد الرمادي على الابتكار والإنتاجية حيث توضح بيانات البنك الدولي أن الشركات العاملة خارج الإطار الرسمي تميل إلى البقاء صغيرة الحجم لتفادي القيود التنظيمية، ولا تستثمر كثيرًا في التكنولوجيا أو تدريب العمالة.

 

ونتيجة لذلك، فإن إنتاجية العامل في القطاع غير الرسمي تقل بنسبة تتراوح بين 20% و30% مقارنة بالعامل في القطاع الرسمي، ما يخلق فجوة هيكلية تعيق النمو طويل الأجل.

 

أما من زاوية التوظيف، فتكشف منظمة العمل الدولية أن نحو ملياري شخص حول العالم يعملون في وظائف غير رسمية، أي أكثر من 60% من القوى العاملة العالمية.

 

هؤلاء غالبًا بلا تأمين صحي أو معاشات، ما يجعلهم عرضة للصدمات الاقتصادية والصحية. وفي العديد من الاقتصادات الناشئة، تتجاوز العمالة غير الرسمية 80% من إجمالي القوة العاملة، الأمر الذي يضعف شبكات الأمان الاجتماعي ويزيد هشاشة الأسر.

 

ورغم هذه التحديات، لا يخلو الاقتصاد الرمادي من جانب إيجابي، فخلال جائحة كوفيد-19 على سبيل المثال، ساعد القطاع غير الرسمي في امتصاص جزء كبير من الصدمة بعد تسريح ملايين العمال من وظائفهم الرسمية.

 

وأكدت تقارير البنك الدولي أن هذا القطاع لعب دورًا محوريًا في منع معدلات البطالة من الوصول إلى مستويات كارثية في كثير من الدول النامية.

 

وبذلك، يظهر الاقتصاد الرمادي كشبكة أمان غير رسمية، توفر دعمًا مؤقتًا في الأزمات، لكنه يظل على المدى الطويل عبئًا على التنمية والاستدامة الاقتصادية.

 

أبعاد دولية واجتماعية للاقتصاد الرمادي

 

لا يقتصر حضور الاقتصاد الرمادي على المدن الصينية أو الاقتصادات الناشئة فحسب، بل يمتد على امتداد القارات، مع اختلاف في الحجم والتأثير.

 

 

ففي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يشكل القطاع غير الرسمي أكثر من 85% من إجمالي فرص العمل، ليصبح بذلك العمود الفقري لاقتصادات عديدة، رغم غياب الحماية الاجتماعية وضعف القدرة على التحصيل الضريبي.

 

أما في أمريكا اللاتينية، فيتراوح بين 40% و60% من القوة العاملة، ما يعكس التفاوت الكبير بين دول مثل البرازيل والمكسيك.

 

وفي المقابل، يظل الحجم أقل نسبيًا في أوروبا، حيث تشير التقديرات إلى أنه لا يتجاوز 20% من الناتج المحلي في معظم دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعكس قدرة المؤسسات هناك على دمج الأنشطة الاقتصادية في الأطر الرسمية.

 

هذا التباين يوضح أن الاقتصاد الرمادي ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل هو سمة متجذرة في مسار التنمية، تتخذ أشكالًا مختلفة بحسب بنية الاقتصاد ومستوى التنظيم.

 

سياسيًا، تتبنى الحكومات غالبًا نهجًا مزدوجًا؛ فهي من ناحية تعلن الحرب على الأنشطة غير الرسمية باعتبارها تهدد القاعدة الضريبية، ومن ناحية أخرى تغض الطرف عنها، خاصة في أوقات الأزمات، لأنها تمتص جزءًا من البطالة وتمنع الانفجار الاجتماعي.

 

هذه الازدواجية تثير سؤالًا عميقًا: هل يمكن إدماج هذا الاقتصاد تدريجيًا بدلًا من محاربته؟

 

الاقتصاد الرمادي إذًا ليس مجرد "ظل" يتوارى خلف الاقتصاد الرسمي، بل هو جزء حي ومتغلغل في شرايين النمو العالمي، يمنح فرصًا للفئات الهشة، ويشكل شبكة أمان وقت الأزمات، لكنه في الوقت نفسه يحرم الدول من موارد ثمينة ويحدّ من الابتكار والاستدامة.

 

فالتحدي أمام الحكومات لا يكمن في القضاء عليه كليًا فهو أمر شبه مستحيل، بل في تحويله من منطقة رمادية مبهمة إلى مساحة شفافة يمكن إدماجها تدريجيًا في الإطار الرسمي.

 

المصادر: أرقام- البنك الدولي- صندوق النقد الدولي- إرنست ويونغ- منظمة العمل الدولية- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- المنتدى الاقتصادي العالمي- البنك الآسيوي للتنمية

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.