عندما تنزلق أسعار النفط فجأة، يتبادر إلى الذهن أن الأسواق المالية قد تشهد هي الأخرى خسائر مماثلة، فهبوط "الذهب الأسود" لطالما ارتبط تاريخيًا بمؤشرات ضعف الطلب العالمي وتباطؤ النمو الاقتصادي، ما يثير الذعر بين المستثمرين ويبعث إشارات سلبية للأسواق.
لكن المشهد في كثير من الأحيان يكون أكثر تعقيدًا مما يبدو؛ فبينما يتهيأ الجميع لعاصفة من الخسائر، تفاجئنا شاشات الأسواق بانتشار اللون الأخضر، في الوقت الذي يُفترض أن تهبط فيه.
فمنذ منتصف القرن الماضي، ظل النفط أشبه بـ"نبض الاقتصاد العالمي"؛ ارتفاعه يوحي بالطلب القوي والازدهار، وانخفاضه يثير المخاوف من ركود قادم.
لكن المفاجأة أن التاريخ لا يروي القصة نفسها دائمًا، ففي محطات عديدة -من أزمة النفط عام 2014 وصولًا إلى تراجع الأسعار الحاد خلال جائحة كوفيد 19- بدت البورصات وكأنها تعيش رواية أخرى.
إذ إنه رغم تراجع النفط صعدت مؤشرات وول ستريت، كما تنفست الأسواق الآسيوية الصعداء، حيث رأى المستثمرون حينها أن برميل النفط الرخيص قد يمثل فرصة لتحقيق مزيد من الأرباح.
هذه الظاهرة التي تُعرف بـ"مفارقة النفط" ليست مجرد صدفة عابرة، بل تعكس شبكة معقدة من العلاقات بين أسعار الطاقة، تكاليف الإنتاج، سلوك المستهلكين، والسياسات النقدية.
ففي عالم يعتمد على النفط كمكون أساسي في النقل والصناعة والتجارة، فإن أي تغيير في سعر البرميل يمكن أن يُعيد تشكيل التوازنات الاقتصادية على مستوى عالمي.
وبينما تتضرر بعض الاقتصادات المصدّرة للنفط من التراجع السعري، تستفيد اقتصادات مستوردة أخرى من انخفاض تكاليف الطاقة، ما يعزز هوامش أرباح الشركات، ويرفع ثقة المستثمرين، ويفتح الباب أمام موجات جديدة من الاستهلاك والنمو.
تلك المفارقة التي تتكرر تطرح سؤالًا محيرًا: لماذا يبدو أن بعض الانخفاضات في أسعار النفط تُشعل شهية المستثمرين بدلًا من أن تُخمدها؟
ولإجابة هذا السؤال يجب التعرض لثلاث زوايا أساسية وهي تأثيره على تكاليف الإنتاج وهوامش أرباح الشركات، وانعكاسه على إنفاق المستهلكين والنمو الاقتصادي، ودور السياسات النقدية والاستثمار العالمي في تضخيم هذه الموجة.
انخفاض النفط يخفف التضخم
حين تنخفض أسعار الخام، يتراجع التضخم العام لأن الطاقة تدخل مباشرة في النقل والإنتاج والاستهلاك، ما يمنح البنوك المركزية مساحة لانتهاج سياسة نقدية أقل تشددًا، وتقليل وتيرة رفع الفائدة أو الإسراع بالخفض في حال ارتفاعها.
هذا الأمر من شأنه رفع القيمة الحالية لأرباح الشركات المستقبلية، ما يدعم أسواق الأسهم.
فعلى سبيل المثال، تشير تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية إلى أن متوسط خام برنت قد يتراجع على نحو ملحوظ في 2026، وهو سيناريو يعني ضغطًا أقل على مسار التضخم مقارنة بالأسعار المرتفعة.
ووفقًا لتقرير منظمة أوبك يناير 2025، من المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على النفط خلال العام الحالي بنحو 1.4 مليون برميل يوميًا، مع تسجيل معدل نمو مماثل تقريبًا في عام 2026.
وفي المقابل، ترجّح المنظمة أن يزداد المعروض من الدول المنتجة خارج تحالف أوبك+ بنحو 1.1 مليون برميل يوميًا خلال 2025، مدفوعًا بشكل أساسي بارتفاع الإنتاج في الولايات المتحدة، والبرازيل، وكندا، والنرويج.
وتشير أوبك إلى أن هذا التوسع في الإمدادات قد يفرض ضغوطًا هبوطية على الأسعار في حال تجاوز نمو المعروض وتيرة نمو الطلب العالمي.
أما الاحتياطي الفيدرالي فأظهر في دراسات تحليلية أن صدمات ارتفاع أسعار النفط ترفع معدل التضخم الربعي بنحو 0.5 نقطة مئوية في الاقتصادات المتقدمة، ما يعني أن هبوط الأسعار له تأثير عكسي ملحوظ يخفف الضغوط التضخمية.
أكبر خمس دول مصدّرة للنفط من بين الدول الأعضاء في أوبك خلال عامي 2023 و2024 (وفقًا لبيانات موقع أوبك)
الترتيب |
الدولة |
2023 (مليون برميل يوميًا) |
2024 (مليون برميل يوميًا) |
1 |
السعودية |
6.66 |
6.05 |
2 |
العراق |
3.47 |
3.36 |
3 |
الإمارات العربية المتحدة |
2.65 |
2.72 |
4 |
إيران |
1.32 |
1.57 |
5 |
نيجيريا |
1.48 |
1.52 |
ويؤكد الخبير الاقتصادي "كينيث روغوف" في كتابه هذا الوقت مختلف (This Time is Different) أن صدمات أسعار الطاقة تعد من أكثر العوامل تأثيرًا في دورات التشديد والتيسير النقدي.
ويذكر أن النفط المرتفع يدفع البنوك المركزية إلى سياسات متشددة غالبًا ما تُدخل الأسواق في تباطؤ، بينما يتيح النفط المنخفض بيئة أكثر دعمًا للأصول الخطرة، وهو ما يفسر، بحسبه، لماذا كثيرًا ما تحتفي البورصات بهبوط الخام رغم أنه مؤشر تقليدي على ضعف الطلب.
من جانبه، يذهب الاقتصادي "جوزيف ستيغليتز" في تحليلاته إلى أن انخفاض أسعار النفط يشبه "خفض ضريبة غير معلنة" على المستهلكين والشركات، لأنه يحرر جزءًا من الإنفاق كان موجّهًا للطاقة، ليعاد ضخه في قطاعات أخرى مثل الاستهلاك والخدمات.
وفي مدونة ضمن صندوق النقد الدولي بعنوان "سبعة أسئلة عن تراجع أسعار النفط"، ورد أن أحد السيناريوهات الخاصة بتراجع النفط يمكن أن يدفع النمو العالمي في ظروف محددة يمكن أن يرتفع بنحو 0.3% في سنة واحدة.
توزيع المكاسب بين القطاعات
لا ينعكس هبوط أسعار النفط على جميع الأطراف بالدرجة نفسها، فبينما تتأثر شركات الطاقة والبتروكيماويات سلبًا بانخفاض العوائد، تستفيد قطاعات أخرى مثل الطيران والنقل والصناعة التحويلية بشكل مباشر.
فعلى سبيل المثال يسهم انخفاض أسعار وقود الطائرات في رفع أرباحها بشكل ملحوظ، لا سيما أن الوقود يمثل حوالي 30% من التكاليف التشغيلية.
ووفقًا لتوقعات الاتحاد الدولي للنقل الجوي لعام 2025، تتوقع شركات الطيران العالمية صافي أرباح بنحو 36.6 مليار دولار في ظل تخفيضات تكاليف الوقود.
كما تشير بعض الدراسات إلى أن تراجع أسعار النفط يدعم هوامش الربحية للشركات الصناعية غير النفطية، وقد تُقدّر تلك الزيادة في أرباحها بنسبة تتراوح بين 1-5% حسب الصناعة والهيكل التنافسي.
لكن ذلك يعتمد على عوامل كثيرة مثل قدرة الشركة على تمرير التكاليف وتعرضها للطاقة.
أزمة طلب أم وفرة عرض؟
ليس كل هبوط في أسعار النفط خبرًا سارًا للأسواق؛ فالأسباب التي تقف وراء هذا التراجع تحدد ردة الفعل.
فإذا جاء الانخفاض نتيجة ضعف الطلب العالمي -كما حدث خلال أزمة 2008 أو ذروة جائحة كوفيد19- عادة ما تتراجع الأسواق بالتوازي مع النفط.
أما إذا كان الهبوط ناتجًا عن زيادة المعروض أو تحسن الكفاءة الإنتاجية – مثل طفرة النفط الصخري الأميركي في العقد الماضي – فإن الأسواق تميل إلى تفسيره كعامل إيجابي.
ويشير تقرير صادر عن وكالة الطاقة الدولية إلى أن طفرة النفط الصخري في الولايات المتحدة بين عامي 2010 و2014 غيّرت خريطة سوق الطاقة العالمية، بعدما زاد إنتاج الخام الأمريكي بأكثر من 4 ملايين برميل يوميًا خلال تلك الفترة.
وأدى هذا الأمر إلى تخمة في المعروض العالمي وأسهم في تراجع الأسعار من مستويات تجاوزت 100 دولار للبرميل في منتصف عام 2014 إلى أقل من ذلك بكثير في نهاية العام نفسه، بحسب بيانات البنك الدولي وإدارة معلومات الطاقة الأميركية.
وفي الوقت ذاته، لم تتأثر الأسواق المالية الأمريكية بنفس الاتجاه؛ إذ ارتفع مؤشر إس آند بي بأكثر من 60% بين عامي 2010 و2014 وفق بيانات واي شارتس وإس آند بي جلوبال.
وبالطبع كان من بين العناصر التي دعمت المؤشر انخفاض تكاليف الطاقة التي عززت هوامش أرباح الشركات الصناعية والاستهلاكية.
هذا التباين بين مسار أسعار النفط وأداء الأسهم يوضح كيف يمكن لعوامل العرض — لا الطلب — أن تغيّر دلالات هبوط الخام من "إشارة ركود" إلى "محفز للنمو".
ففي اقتصاد اليوم، ليس النفط وحده ما يحدد اتجاه الأسواق، بل القصة التي يرويها انخفاضه.
الخلاصة أن المستثمر الذكي لا يتوقف عند سعر البرميل، بل يسأل: ما سبب هذا الانخفاض؟ فإذا كان بفعل العرض، كانت النتيجة إيجابية للأسهم؛ وإذا كان بفعل ضعف النمو، فالضرر يصيب الجميع.
وفي عالم اليوم حيث تتقاطع فيه الجغرافيا السياسية مع أسواق الطاقة، وتتشابك فيه الديناميكيات بين النفط والسياسات النقدية، يبقى الفائز هو من يقرأ الرسالة خلف حركة السعر، لا العنوان فقط.
المصادر: أرقام- وكالة الطاقة الدولية- إدارة معلومات الطاقة الأميركية- البنك الدولي- مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي- معهد بروكينغز
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: