في الستينيات من القرن الماضي، كانت الهند على وشك مجاعة كبرى، لكنّ مجموعة من الإحصائيين استخدموا بيانات الزراعة والإنتاج لتوقع المناطق الأكثر تضررًا، مما مكن الحكومة من توجيه الإمدادات الغذائية إليها أولًا، لتتفادى الكارثة.

اليوم، تُجسّد هذه القصة دليلًا حيًّا على قدرة الأرقام على إنقاذ الأرواح وصون الاستقرار، إذ يمكن للإحصاءات أن تصنع الفارق بين اقتصاد يترنّح تحت وطأة الأزمات وآخر يصمد بثبات أمام العواصف.
وفي هذا السياق، يحتفل العالم في 20 أكتوبر من كل عام باليوم العالمي للإحصاءات، تقديرًا للدور المحوري الذي تلعبه البيانات في تشكيل مستقبل أكثر استدامة وعدلًا.
فالإحصاءات لم تعد حكرًا على المكاتب الحكومية أو الخبراء، بل أصبحت أداة تمس حياة كل فرد، من قرارات التسوق اليومية إلى السياسات الاقتصادية الكبرى.
ويهدف هذا اليوم إلى تسليط الضوء على أهمية جودة البيانات، وضرورة الاستثمار في أنظمة إحصائية قادرة على تقديم صورة دقيقة للعالم، لأن القرارات الصائبة تبدأ دائمًا من رقم موثوق.
ويأتي احتفال هذا العام تحت شعار "إحصاءات دقيقة وبيانات موثوقة تدفع التغيير وتصنع مستقبلًا أفضل للجميع"، في وقت أصبحت فيه الإحصاءات ركيزة أساسية لفهم وتحليل المشهد الاقتصادي العالمي.
فهي تُحوّل ما يبدو عشوائيًّا من أرقام إلى معطيات واضحة تُسهم في رسم السياسات، وتوجيه الاستثمارات، وتقييم الأداء الاقتصادي.
وتأتي هذه المناسبة لتذكيرنا بأن البيانات الموثوقة ليست رفاهيةً، بل ضرورةً حقيقية في عالمٍ يتّسع فيه نطاق التحدّيات الاقتصادية، من تغيّرات سلوك المستهلكين إلى تقلبات الأسواق العالمية، ومن تطوّر التكنولوجيا إلى تشعّب سلاسل الإمداد.
ومع تزايد التحديات العالمية من تضخم وتقلبات مالية إلى أزمات المناخ والأمن الغذائي، تتعاظم الحاجة إلى منظومات إحصائية قوية تُسهم في قراءة المستقبل بوضوح. ولهذا، فإن الاستثمار في أنظمة الإحصاء الوطنية والعالمية هو استثمار في فهم أفضل لعالمنا وأفضل لاقتصادنا.
الإحصاءات بوصلة توجه السياسات المالية والنقدية
ترتبط قدرة الحكومات والبنوك المركزية على اتخاذ قرارات رشيدة وفعّالة مباشرة بوفرة بيانات اقتصادية دقيقة تخص المستهلكين والشركات والأسواق.

فبدون تلك البيانات، تصبح القرارات عشوائية أو تعتمد على الحدس فقط، مما قد يؤدي إلى سياسات اقتصادية خاطئة تُفاقم الأزمات بدلًا من معالجتها.
وكمثال من الواقع العالمي، في عام 2024، قُدّرت قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي عند حوالي 111.3 تريليون دولار أمريكي وفق بيانات صادرة عن البنك الدولي، هذا المؤشر الكلي يُعد مؤشرًا محوريًا يتيح تقييم حجم الاقتصاد العالمي واتجاهاته العامة.
أما بالنسبة للدين العام، ففي أحدث تقارير صندوق النقد الدولي، يُذكر أن الدين العام العالمي يُشكّل نحو 93% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في 2024، مع توقعات بأن يقترب من 100% في السنوات المقبلة إذا استمرت الاتجاهات الراهنة.
ما يعني أن الحكومات غالبًا ما تكون مُقيدة بعبء ديون كبير يحدّ قدرتها على الإنفاق الحر أو التحوّل السريع في السياسة المالية.
استخدام البيانات والإحصاءات في صناعة القرار الاقتصادي:
|
مجال القرار |
نوع الإحصاء المستخدم |
أثر الإحصاءات |
|
السياسة النقدية |
بيانات التضخم وأسعار الفائدة |
تحديد اتجاه أسعار الفائدة |
|
السياسة المالية |
بيانات الدين والعجز والإنفاق |
ضبط الإنفاق العام والضرائب |
|
سوق العمل |
نسب البطالة والقوى العاملة |
تصميم برامج دعم التوظيف |
|
الأمن الغذائي |
بيانات الإنتاج والاستهلاك |
وضع سياسات الاستيراد والتخزين |
|
التنمية المستدامة |
مؤشرات الفقر والتعليم والصحة |
توجيه الدعم والاستثمار الاجتماعي |
وعلى سبيل المثال، إذا تبيّن من البيانات أن النمو يتراجع والبطالة ترتفع، فقد تُقرّ الحكومة بتوسيع الإنفاق أو إطلاق حزمة تحفيزية.
لكن إذا أشارت الإحصاءات إلى أن هذا التوسع قد يؤدي إلى ارتفاع إضافي في الدين إلى مستوى مقلق، فستكون هناك حاجة لضبط مالي أو إجراءات تقشُّف في أماكن بعينها.

وتُشبه الإحصاءات في هذا السياق منارة تضيء ظلام الليل، فهي تنير الطريق أمام صاحب القرار دون أن يتيه في ضباب الشك، ومن دونها، سيكون اتخاذ القرارات أشبه بالبائع الذي يضع ثمن سلة فاكهة بلا علم بالتكاليف أو طلب السوق مما يعرضه لفوّت الفرص أو الخسارة.
بالتالي، هذا العمق في استخدام الإحصاءات -ليس في قراءة المؤشرات الراهنة فقط، بل في التنبؤ باتجاهاتها وتحليل مآلاتها- هو الذي يجعلها أداة لا غنى عنها في أدوات السياسة المالية والنقدية، وسببًا رئيسيًا في قدرة الدول على المناورة والتكيّف مع التغيرات الاقتصادية العميقة.
الإحصاءات عنصر تمكيني للبحث والابتكار في الاقتصاد
تلعب الإحصاءات دوراً محورياً أيضاً في تمكين البحث الاقتصادي والابتكار، فالاقتصاديون والباحثون يعتمدون على بيانات دقيقة ومنهجية لبناء فرضياتهم وتحليل الظواهر الاقتصادية.
مثلاً، تُشير بيانات منظمة العمل الدولية إلى أن معدّل البطالة بين الشباب (15–24 سنة) بلغ حوالي 12.9% عام 2024، رغم انخفاضه عن السنوات السابقة، بينما ما زالت فئة كبيرة من الشباب غير مدمجة في العمل أو التعليم أو التدريب.
هذه الأرقام تمكّن الباحثين من تقييم سياسات التعليم والتدريب وربطها بنموّ القوى العاملة وفعالية استثمار رأس المال البشري، ومن دون بيانات كهذه لن نتمكن من معرفة ما إذا كانت برامج التوظيف تعمل، أو ما إذا كان الاستثمار في التعليم يؤدي إلى نتائج ملموسة.
وبذلك، تُشكّل الإحصاءات البنية التحتية البحثية للاقتصاد المعرفي، وتمكن من بناء النماذج الاقتصادية التي تُساعد في تحسين الأداء الاقتصادي على المدى الطويل، ودفع الابتكار في مجالات مثل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
الإحصاءات لدعم الشفافية والمساءلة في الشؤون الاقتصادية
لا تقتصر أهمية الإحصاءات على السياسات والبحث فقط، بل تمتد إلى ضمان الشفافية والمساءلة على المستوى الحكومي والاقتصادي.
فبفضل نشر بيانات مثل نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي، أو نسب البطالة، أو البيانات المتعلقة بالإنفاق والإيرادات، يُمكن للمواطنين ووسائل الإعلام والهيئات الرقابية متابعة أداء الحكومات ومطالبتها بالتحسين عند الضرورة.

على سبيل المثال، في منطقة اليورو، بلغ دين الحكومات العامة نسبة 87.4% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية الربع الرابع من عام 2024.
هذه النسبة تُعلن دوريًا وتُراقب من قبل المؤسسات الأوروبية والمحللين الماليين باعتبارها من المؤشرات الحيوية التي تقيس مدى استدامة الدين العام في دول الاتحاد الأوروبي.
عندما تُنشر مثل هذه البيانات بشفافية، فإنها تمنح للمواطنين والمراقبين الخارجيين القدرة على تقييم ما إذا كانت الحكومات تتجاوز حدود الدين المأمولة، أو إذا كانت تعتمد على اقتراض مفرط قد يعرض استقرارها المالي للخطر.
هذا الضغط العام يمكن أن يدفع الحكومات إلى تبني سياسات مالية أكثر انضباطًا أو إعادة هيكلة المديونية، ومن دون مثل هذه الأرقام المعلنة والموثوقة، يصبح من الصعب مساءلة صنّاع السياسات أو كشف الممارسات المالية غير الكفؤة.
لذلك، تُعدّ الإحصاءات أداة حقيقية للمساءلة، تعيد الاقتصاد إلى مسار الشفافية، وتمنح المجتمع الحق في فهم ما يجري خلف الأرقام، ومطالبة الحكومات بتحمّل مسؤولياتها المالية.
وفي يوم الإحصاء العالمي، نُدرك أنه عندما تتحدث الأرقام بصدق، تصمت الفوضى، لأنها ليست مجرد بيانات تُجمع، بل أدوات تصنع التغيير.
وإذا التزمت الدول والمؤسسات بتطوير بياناتها الإحصائية وتحسينها وضمان مصداقيتها، فسنمنح اقتصادنا فرصة ليس فقط للفهم، بل للتقدّم والثقة والمساءلة.
المصادر: أرقام- البنك الدولي- صندوق النقد الدولي- منظمة العمل الدولية- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- يوروستات
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: