لطالما اعتُبرت صناديق التقاعد الركيزة الأمتن في منظومة الأمان المالي والاجتماعي، فهي تجمع بين استثمارات طويلة الأجل وعوائد تراكمية مستقرة، تجعلها أشبه بحصن آمن لأنظمة التقاعد، يعول عليه لتوفير الدخل للمتقاعدين وضمان الاستدامة بين الأجيال.

لكن هذا الحصن الذي طالما بدا صلبًا، بدأ يتعرّض لاهتزازات متزايدة في السنوات الأخيرة ضغط الواقع الديموغرافي بقوة وتسارع الشيخوخة السكانية وارتفاع معدلات الإعالة، ما يعني ببساطة أن عدد المستفيدين من المعاشات يتزايد بوتيرة أسرع من عدد المساهمين فيها.
ومن جهة أخرى، تواجه الصناديق بيئة مالية أكثر تعقيدًا تتّسم بانخفاض العوائد طويلة الأجل، وارتفاع الالتزامات، وتقلّب الأسواق بصورة تجعل تحقيق التوازن بين الأصول والخصوم مهمة أصعب من أي وقت مضى.
وبعد أن كان يُنظر إلى صناديق التقاعد بوصفها كيانات قادرة على امتصاص الصدمات، بات يبدو اليوم أنها تواجه ضغطًا مزدوجًا مع شيخوخة ترفع الكلفة، وأسواق تُقلّص العائد.
ومع أن الانهيار ليس وشيكًا، فإن مؤشرات الخطر باتت أوضح، والمطلوب إصلاحات جريئة تعيد صياغة المعادلة قبل أن يتحوّل التحدي إلى أزمة مزمنة.
المزيد من المتقاعدين وعدد أقل من العمال
تشهد معظم الاقتصادات المتقدمة تحولًا ديموغرافيًا عميقًا مع تسارع وتيرة الشيخوخة السكانية.
فعدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فأكثر يرتفع بوتيرة تفوق نمو القوى العاملة، ما يعني أن كل عامل فعّال في سوق العمل بات يتحمل عبئًا ماليًا أكبر لتمويل معاشات التقاعد.
وتشير بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي إلى أن نسبة من تجاوز أعمارهم 65 عامًا مقارنة بمن هم في سن العمل تتجه للارتفاع المستمر خلال العقود المقبلة في أغلب الدول الأعضاء، وهو ما يفرض ضغوطًا متزايدة على ميزانيات التقاعد.
وتمثل اليابان المثال الأبرز لهذه الظاهرة، فبحسب تقرير مكتب مجلس الوزراء الياباني لعام 2023، فإن نحو 29.1% من سكان البلاد، أي ما يعادل حوالي 36.2 مليون شخص، تجاوزوا 65 عامًا.
هذا التركّز المرتفع جدًا من كبار السن جعل نظام التقاعد والرعاية الصحية اليابانيين تحت ضغط دائم، ودفع الحكومة إلى مراجعة سياسات التقاعد والضرائب بشكل مستمر لضمان استدامة التمويل على المدى الطويل.

لكن آثار الشيخوخة لا تتوقف عند زيادة عدد المتقاعدين فقط، بل تمتد أيضًا إلى طول فترة الاستحقاق التقاعدي، إذ يعيش الناس اليوم لفترات أطول مما كانت تفترضه الحسابات الاكتوارية السابقة.
وتُظهر تحليلات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنه إذا لم يُعالج هذا الاتجاه بزيادة أعداد المشاركين في سوق العمل من خلال انتهاج سياسات نشطة داعمة للهجرة أو تأخير سن التقاعد، فسيؤدي ذلك إلى تباطؤ نمو الناتج المحلي، وتقليل موارد تمويل نظم التقاعد.
بمعنى آخر، ارتفاع عدد المتقاعدين بالتوازي مع تباطؤ النمو الاقتصادي يعني كلفة حقيقية أعلى لأنظمة التقاعد، سواء بالنسبة للحكومات أو للصناديق الخاصة، وهو ما يجعل الإصلاحات الديموغرافية والمالية ضرورة لا يمكن تأجيلها.
انخفاض العوائد وتغير الافتراضات الاكتوارية
بالتوازي مع التحديات الديموغرافية، تواجه صناديق التقاعد حول العالم بيئة مالية أكثر تعقيدًا مما كانت عليه في العقود السابقة.
فبعد سنوات من الاعتماد على عوائد مستقرة نسبيًا من الأسهم والسندات، أصبحت هذه الصناديق تتحرك في سوق تتسم بتقلبات عالية ومعدلات فائدة منخفضة أحيانًا، وهو ما يقلّص قدرتها على تحقيق العوائد المفترضة التي تُبنى عليها الحسابات الاكتوارية وخطط التمويل.
الدول التي لديها أفضل أنظمة تقاعد، وفقًا لمؤشر "ميرسر للمعاشات التقاعدية" لعام 2024:
|
الترتيب |
الدولة |
نقاط التقييم |
|
1 |
هولندا |
84.8 |
|
2 |
أيسلندا |
83.4 |
|
3 |
الدنمارك |
81.6 |
|
4 |
سنغافورة |
78.7 |
|
5 |
فنلندا |
75.9 |
|
6 |
النرويج |
75.2 |
فبعد أن بلغت في المتوسط نحو 7.1% في منتصف عام 2021، انخفضت إلى ما بين 6.6% و6.9% بحلول 2024–2025، ما يعكس توقعات أكثر تحفظًا بشأن قدرة الأسواق على توليد الأرباح طويلة الأجل.

ويبرز صندوق كالبرز -أكبر صندوق تقاعد عام في الولايات المتحدة- كمثال واضح على هذا الاتجاه، فقد أعلن عن عائد سنوي صاف بلغ 11.6% للسنة المالية 2024–2025، متجاوزًا معدل الخصم المفترض البالغ 6.8%.
ومع ذلك، أوضح مجلس إدارة الصندوق أن هذه النتائج لا تعني أن الأداء كان قويًا في السنوات الماضية، لذلك قرر مراجعة توقعاته المستقبلية واعتماد سياسة أكثر حذرًا في الاستثمار وإدارة المخاطر.
هذه التجربة تؤكد أن تحقيق عوائد قوية في عام واحد لا يُعد كافيًا لتجاوز الضغوط التمويلية طويلة الأمد. فمع استمرار تقلب الأسواق وتراجع أسعار الفائدة الحقيقية، تظل نسب التمويل غير مستقرة.
ووفق تقديرات معهد إيكوابل، بلغت نسبة التمويل الإجمالية لصناديق التقاعد العامة الأمريكية في عام 2025 نحو 81%.
ويعني هذا أن الصناديق تمتلك أقل بنحو 19% مما تحتاجه من أموال لازمة لتغطية جميع التزاماتها المستقبلية تجاه المتقاعدين، ويشير إلى وجود فجوة تمويلية تتجاوز تريليون دولار أمريكي.
هذا الواقع المالي المتقلب يجعل من التخطيط طويل الأجل تحديًا معقدًا، ويزيد احتمالية الحاجة إلى رفع مساهمات أصحاب العمل أو تعديل مزايا التقاعد نفسها للحفاظ على استدامة الأنظمة.
كيف تتعامل صناديق التقاعد؟
مع تزايد الضغوط المالية، بدأ كثير من صناديق التقاعد حول العالم تُغيّر طريقتها في إدارة الأموال والتوقعات المستقبلية، فخفضت النسبة المعتمدة لحساب قيمة التزاماتها المستقبلية، وزادت من مساهمات الجهات الممولة أو مددت فترات السداد لتقليل العجز في التمويل.
هذه الإجراءات، التي شجعتها جهات تنظيمية مثل هيئة تنظيم المعاشات في بريطانيا، تعكس توجهًا نحو مزيد من الحذر المالي، لكنها في الوقت نفسه تفرض أعباء إضافية على أصحاب العمل وتثير نقاشات سياسية مع النقابات والسلطات المحلية حول توزيع الكلفة.
في جانب الاستثمار، اتجهت الصناديق إلى تنويع محافظها بعيدًا عن السندات التقليدية التي تراجعت عوائدها في السنوات الأخيرة، فزادت من تعرضها للأسهم الخاصة والائتمان الخاص بحثًا عن مصادر دخل أعلى.

غير أن الأشهر الأخيرة شهدت تباطؤًا في تدفقات الصناديق العامة الأميركية نحو الائتمان الخاص مع تصاعد القلق من ضعف السيولة وارتفاع تقييمات الأصول.
وفي هذا السياق، أعاد صندوق كالبرز موازنة استثماراته في الأسهم الخاصة لتقليل المخاطر ومراقبة الرسوم المرتفعة المرتبطة بهذا القطاع.
بالتوازي، تزايد الاتجاه نحو نقل المخاطر إلى شركات التأمين عبر صفقات شراء الالتزامات أو تحوطات طول العمر، وهي أدوات تهدف لتخفيف المخاطر الاكتوارية على الصناديق لكنها تعتمد على سعة السوق التأميني واستقراره.
ومع اتساع الفجوات التمويلية في كثير من الأنظمة، تجد الحكومات نفسها أمام قرارات سياسية حساسة، تشمل خفض المنافع أو تأجيل زياداتها، أو رفع معدلات الاشتراكات والضرائب، أو تأخير سن التقاعد.
هذه القرارات، مهما كان شكلها، تُثير توترات بين الأجيال: فالمتقاعدون الحاليون يخشون تآكل دخولهم، في حين يرى الشباب أن العبء المالي يزداد عليهم دون ضمانات مستقبلية مماثلة.
وتشير تحذيرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن استمرار هذا المسار دون إصلاحات هيكلية سيؤدي إلى تباطؤ نمو الدخل الحقيقي للفرد وارتفاع العبء الضريبي على القوى العاملة الشابة في السنوات المقبلة.
نعم قد لا تواجه صناديق التقاعد انهيارًا وشيكًا، لكنها بالتأكيد تمرّ بضغط هيكلي مزمن، فالتغيرات الديموغرافية تعيد صياغة حسابات التقاعد، في حين أن العوائد المستقبلية المتوقعة أصبحت أقل.
ويكمن الحل في مسارين متوازيين هما تعزيز التمويل والحَوْكمة الآن عبر افتراضات أكثر تحفظًا وخطط تمويل واضحة وأدوات نقل مخاطر محسوبة بجانب تطبيق إصلاحات هيكلية أوسع تشمل تأخير سن التقاعد، وتحفيز المشاركة في سوق العمل لإعادة التوازن بين الأجيال.
من دون هذه الخطوات، ستظل أنظمة التقاعد في العالم تواجه اختبارات متكررة حتى في الفترات التي تبدو فيها الأسواق مزدهرة مؤقتًا.
المصادر: أرقام- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)- مكتب مجلس الوزراء الياباني- صندوق كالبرز (كاليفورنيا للتقاعد العام)- معهد إيكوابل- فايننشال تايمز- صندوق حماية المعاشات البريطاني
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: