في صيف عام 1896، تناقل السكان المحليون في كندا خبراً مقتضباً مفاده أن كميات هائلة من الذهب اكتشفت في وادٍ باردٍ في أقصى الشمال قرب نهر كلوندايك، وسرعان ما انتشر الخبر عبر الساحل الغربي في الولايات المتحدة ومنه إلى أوروبا.

في غضون أشهر قليلة تحوّل الخبر إلى عاصفة بشرية بعدما سيطرت أحلام الثروة على الكثيرين، وشد الرحال أكثر من 100 ألف رجل - معظمهم من الولايات المتحدة، إضافة إلى مجموعاتٍ أصغر من كندا وأوروبا - تاركين بيوتهم وتجارتهم، قاصدين الشمال نحو المجهول.
في طريقهم إلى نهر كلوندايك اجتازوا جبالًا أشبه بالجدران، وممرات جليدية تبتلع من يعبرها، وبيئات لا ترحم أحدًا، وفي النهاية، وصل نحو ثلث الرجال هؤلاء فقط إلى وجهتهم، فيما عاد الباقون مدفوعين بالخسارة واليأس.. أو لم يعودوا أبدًا.
لقد أثبتت كلوندايك أن الذهب ليس دائمًا في يد من يبحث عنه، بل في يد من يصنع النظام الذي يُدار حوله، لكنها كشفت ما هو أهم: أن الخوف من ضياع الفرصة قادر على تحريك الجموع – حتى دون خطط - أكثر من اليقين نفسه.. واليوم يبدو أن العالم يعيد إنتاج هذه التجربة مرة، لكن هل تكون العواقب واحدة؟
الحمى تتجدد
- في شوارع هانوي ذات صباح باكر من أكتوبر، انضمت سيدة في عقدها الرابع من العمر إلى طابور طويل من المشترين الذين تجمعوا أمام محل للذهب منذ الفجر، تحمل تحت ذراعيها مدخراتها، آملة في تحويلها إلى سبائك. كانت هذه محاولتها الرابعة خلال نفس الأسبوع، بعدما عادت خالية الوفاض في المرات السابقة.
- في سيدني أيضًا، امتدت طوابير طويلة في الشوارع المالية، بانتظار فتح أبواب محلات السبائك على طريقة "عشاق أيفون"، بعضهم ينتظر لأكثر من أربع ساعات من أجل شراء قطعة صغيرة، ورغم تذبذب الأسعار، ولسان حالهم يقول: "إذا ذهب الذهب، فكيف نرد للمجهول؟".
- عالميًا، ارتفعت الأسعار بأكثر من 50% هذا العام، فيما قفزت أسهم شركات الذهب بأكثر من 100%، وحتى في أمريكا، كان الطلب قويًا على المعدن النفيس، حيث ارتفع بنسبة تقارب 60% خلال الربع الثالث بفضل الطلب الهائل من الصناديق المتداولة، وفقًا لبيانات مجلس الذهب العالمي.
- لقد عاد "جنون الذهب" من جديد، ليس في جبال يوكون القديمة فقط، بل في قلب المدن الآسيوية والأسترالية والهندية، وفي أسواق نيويورك ولندن، حيث يهرع صغار المستثمرين والمستهلكين إلى المعدن الأصفر كما لو أنّه طوق نجاة وسط عاصفة اقتصادية غير مرئية.

- يرجع ذلك إلى ارتفاع الطلب الاستثماري، وزيادة مشتريات الأفراد من السبائك والعملات الذهبية، واستمرار المشريات القوية للبنوك المركزية (رغم تراجع وتيرتها مقارنة بمستويات 2022 القياسية)، لتشكل حاليًا نحو 17% من الطلب العالمي، مقابل 40% للطلب الاستثماري، و32% للمجوهرات والحلى.
- تظهر بيانات مجلس الذهب العالمي، أنه في حين نما الطلب العالمي على المعدن النفيس من حيث الحجم بنسبة 1% فقط، فإنه قفز بنسبة 41% من حيث القيمة منذ بداية هذا العام.
التاريخ يحذر: النهاية مؤلمة!
- تتشابه دورة أسعار الذهب الحالية مع سابقاتها في أمور كثيرة، ومع ذلك فإن الأمر الوحيد غير المعروف حتى الآن هو ما إذا كانت ستنتهي بنفس الشكل؟ ومتى يمكن أن يحدث ذلك؟
- في الفترة بين عام 1971 (بعد انهيار اتفاقية "بريتون وودز") وأوائل عام 1980، ارتفع سعر الذهب بشكل هائل إلى 850 دولارًا من 35 دولارًا للأوقية، بنسبة تخطت 2300%.
- جاءت مكاسب الذهب آنذاك مدفوعة بالتضخم المفرط في الولايات المتحدة، وصدمة النفط، والتوترات الجيوسياسية مثل الحرب الباردة وغزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، وضعف الدولار، لكن "ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع".
- هذه الاضطرابات نفسها، دفعت رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الشهير "بول فولكر" إلى رفع الفائدة لاحتواء التضخم (19% عام 1981 من 10% في 1979)، ليقود ذلك أسعار المعدن النفيس إلى سقوط حر نحو 300 دولار بحلول منتصف الثمانينيات.

- وصلت أسعار الذهب إلى القاع عند 253 دولارًا للأوقية بحلول عام 1999، لكنها عكست مسارها بحلول ذلك الوقت، وبدأت سوقًا صاعدًا طويلًا، لتبلغ 1920 دولارًا في 2011، بزيادة 660%.
- جاء هذا الصعود مدفوعًا بانهيار فقاعة الإنترنت، وأحداث 11 سبتمبر في أمريكا، وتخفيف السياسة النقدية مطلع القرن الحادي والعشرين، ثم الأزمة المالية العالمية عام 2008، وارتفاع السيولة العالمية، وهبوط الفائدة الحقيقية قرب الصفر، إلى جانب الطلب على الملاذات الآمنة خلال أزمة ديون منطقة اليورو.
- بعد ذروته في عام 2011، انخفض سعر الذهب بنسبة 45% تقريبًا بحلول أواخر عام 2015 مسجلًا 1050 دولارًا للأوقية، وذلك بضغط من ارتفاع الدولار 37% تقريبًا.
- أدى ما يُعرف بـ"نوبة الهلع" أو "التايبر تانتروم" الناتجة عن تقليص حجم برنامج التيسير الكمي للاحتياطي الفيدرالي (منتصف عام 2013) وعمليات رفع الفائدة اللاحقة إلى الضغط على أسعار الذهب.
هل يتكرر السيناريو المؤلم؟
- انتهى كلٌّ من انهياري عامي 1980 و2011 بتشديد السياسة النقدية بعد فترات من فائض السيولة، وفي كلتا الحالتين، أثّر ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية وقوة الدولار بشكل كبير على الذهب، لكن الدورة الحالية مختلفة.
- أهم ما يميزها هو الطلب الهائل من قبل البنوك المركزية في السنوات القليلة الماضية، حيث قفزت مشترياتها عالميًا من الذهب إلى 1082 طنًا في 2022 مقارنة بـ 463 طنًا فقط في 2021، ثم تراجعت قليلًا إلى 1037 طنًا في 2023 و1045 طنًا في 2024.
- هذه المشتريات التراكمية الصافية، التي بلغت 3900 طن تقريبًا منذ عام 2020 غير مسبوقة خاصة إذا ما قورنت بمتوسط الفترة (2010-2021) البالغ 473 طنًا سنويًا، ومع ذلك، فإن هذه الأرقام رغم ضخامتها فإن الدوافع ورائها تبدو أهم، إذ تعكس تحولات جوهرية.

- تشير العديد من البنوك المركزية إلى الذهب كوسيلة تحوّط ضدّ التضخم والأزمات، لكن دراسة أجراها الاحتياطي الفيدرالي قالت أيضًا، إن استخدام الدولار كسلاح لمعاقبة خصوم أمريكا حفز الحكومات على تحويل جزء من احتياطياتها الدولية إلى الذهب والابتعاد عن الأصول الأمريكية.
- بالنظر إلى الصين، بلغت استثماراتها في سندات الخزانة الأمريكية 730 مليار دولار بحلول يوليو، انخفاضًا من 1.32 تريليون دولار في 2013 (-45%).
- في الوقت نفسه، تشهد احتياطيات الصين من الذهب ارتفاعًا تدريجيًا، حيث أفاد بنك الشعب الصيني بامتلاكه 2303 أطنان بنهاية الربع الثالث من العام الجاري، وهو ضعف الكمية التي كان يمتلكها قبل عقد من الزمان.
- كانت روسيا من أوائل المبادرين بهذا التوجه، والذي تسارع منذ العقوبات المرتبطة بالقرم في 2014، وربما استعدادًا لحرب أوكرانيا، حيث ارتفع مخزونها إلى 2329 طنًا بحلول عام 2025 مقارنة بنحو 1100 طن قبل عام 2014.
- عندما بدأت حرب أوكرانيا 2022، جمدت أمريكا وأوروبا نحو 350 مليار دولار من الاحتياطيات الروسية من العملات الأجنبية، في حين ظلت احتياطيات الذهب الموجودة داخل البلاد متاحة للاستخدام، حتى أن موسكو باعت بعضها لتغطية العجز، مستفيدة من الأسعار المرتفعة.
إلى أين يتجه الذهب؟
- اليوم، وعلى الرغم من الزيادات الأخيرة، فإن أسعار الفائدة الأمريكية الحقيقية ليست مرتفعة بشكل كبير مثلما حدث في بداية الثمانينيات، والأهم من ذلك، أن البنوك المركزية آنذاك كانت تحتفظ بكميات قليلة من الذهب.
- من الناحية الجيوسياسية، يختلف السياق أيضًا، فبدلاً من صراع قوة عظمى واحدة، لدينا الآن توترات متعددة الأقطاب مما أدى إلى تنوع الطلب على الملاذات الآمنة، كما أن سيناريو 2011 مختلف، إذ لا تشهد البنوك المركزية تشديدًا للسياسة، وبالعكس، من المتوقع مواصلة التخفيف الذي يعمق ضعف الدولار.

- إن استمرار طلب البنوك المركزية بالإضافة إلى خفض الفيدرالي للفائدة، سيدفع أسعار الذهب نحو 5 آلاف دولار (+20% من المستوى الحالي) خلال العام المقبل، ويرى معظم المحللين اتجاهًا صاعدًا قويًا على المدى الطويل، حتى إن تخللته حالات "تصحيح صحية" مثل تلك التي حدثت في أكتوبر.
- إذا شددت البنوك المركزية سياساتها النقدية لسبب ما أو خفت حدة التوترات الجيوسياسية بدرجة كبيرة، فقد يشهد الذهب تصحيحًا أكثر حدة (ربما بنسبة 10-20% تقريبًا)، ولكن من غير المرجح أن يقترب من الانخفاضات التي تراوحت بين 40-60% التي شهدها عامي 1980 و2011.
- اليوم، وبعد أكثر من قرن وربع القرن، لم تعد الحشود تتجه إلى الجبال بحثًا عن المعدن الأصفر، بل تتجه إليه الدول نفسها، تكتنزه داخل خزائن البنوك المركزية، والجميع يراهن عليه في صورة سبائك أو حلي أو أسهم أو صناديق متداولة.
- كأن العالم يعود إلى عملته الأصلية، خشيةً من اهتزاز النظام المالي العالمي، وخوفًا من مستقبل قد يشهد صدامًا اقتصاديًا وعسكريًا يعيد تشكيل قواعد اللعبة من جديد، وفي غضون ذلك، تتجدد "حمى كلوندايك" مجددًا، ومن يخفق في الوصول ينتظر القافلة الجديدة للركوب إلى أقرب قمة مربحة.
المصادر: أرقام- هيستوري- الموسوعة الكندية- إدارة المتنزهات الوطنية الأمريكية- ماركتس- في إن إكسبريس- ماركت ووتش- بيانات مجلس الذهب العالمي- الاحتياطي الفيدرالي- رويترز- مايننج- تريدينج فيو- إنفستوبيديا- تريدينج إيكونوميكس- ميدوزا- ساوث تشاينا مورنينج بوست- منشورات البنك المركزي الروسي- ستايستا- شات جي بي تي
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: