في عام 1997، كانت "نانسي أولسون"، وهي سيدة أمريكية في الخمسين من عمرها من ولاية أوهايو، تتابع برنامجًا صباحيًا على التليفزيون عندما شاهدت إعلانًا يتحدث عن مرض جديد نسبيًا آنذاك يُدعى "متلازمة تململ الساقين".
كان الإعلان يصف الأعراض على نحو مثير: شعور بعدم الراحة في الساقين، حاجة ملحّة لتحريكهما، وصعوبة في النوم.

وجدت "نانسي" أن الأعراض التي ذكرها الإعلان تنطبق عليها، وشعرت بالخوف، وفي غضون أيام، طلبت من طبيبها وصف الدواء الجديد الذي ذُكر ضمن الحملة الإعلانية، ظنًا منها أن لديها اضطرابًا عصبيًا خطيرًا.
لكن ما لم تكن تعرفه نانسي — مثل ملايين المشاهدين الآخرين — هو أن الحملة لم تكن جزءًا من مبادرة صحية حكومية أو بحث علمي، بل كانت حملة تسويقية ممولة من شركة جلاكسو سميثكلاين للترويج لدواء جديد كان يحتاج إلى سوق أوسع.
ورغم أن "تململ الساقين" اضطراب حقيقي في بعض الحالات، فإن الحملة وسّعت تعريفه إلى درجة جعلته يبدو مرضًا يتطلب علاجًا دوائيًا.
وبحلول العام التالي، تضاعف عدد من تم تشخيصهم بالمتلازمة في الولايات المتحدة، وحقّق الدواء مبيعات بمئات الملايين من الدولارات.
تلك القصة ليست استثناءً؛ إنها تجسيد دقيق لكيفية عمل صناعة الخوف الصحي — منظومة ضخمة تستخدم الخوف من المرض لتوسيع الأسواق وتحفيز الطلب على منتجات وخدمات طبية، فالخوف، حين يُستغل تجاريًا، يمكن أن يتحول من حافز وقائي إلى أداة تلاعب فعّالة.
وعلى مدى العقود الأخيرة، استخدمت بعض الشركات والمؤسسات الطبية ووسائل الإعلام الخوف من المرض لتوسيع أسواق الأدوية والفحوصات والخدمات الصحية.
الإنفاق الضخم وتأثيره في السوق
توجّه شركات الأدوية والرعاية الصحية اليوم رسائلها مباشرة إلى المستهلكين من خلال الإعلانات التلفزيونية وحملات "التوعية بالأمراض" ووسائل التواصل الاجتماعي.
ففي الولايات المتحدة وحدها، تجاوزت ميزانية الإعلان في قطاع الرعاية الصحية والأدوية 30 مليار دولار عام 2024، وفقًا لتقديرات موقع إي ماركيتر.
أما الإعلانات المخصصة للأدوية ذات العلامة التجارية، فقد شكلت جزءًا كبيرًا من هذا المبلغ؛ إذ بلغت قيمة الحملات العشر الكبرى حوالي 3.3 مليار دولار عام 2024، بحسب تقرير فيرس فارما وميديا رادار.
وتُظهر تحليلات أخرى أن الإنفاق السنوي المباشر على إعلانات الأدوية الموجهة للمستهلكين بلغ نحو 14 مليار دولار في السنوات الأخيرة.
وتشير الدراسات إلى أن هذه الحملات الإعلانية تزيد من طلب المرضى لأدوية معينة، وتؤثر على قرارات الأطباء في وصفها، وتوسع فئات التشخيص لتشمل حالات هامشية أو غير خطيرة.
وبالطبع يؤدي ذلك لارتفاع مبيعات الشركات، لكن مع زيادة خطر الإفراط في العلاج أو صرف الأدوية دون حاجة حقيقية.

فعلى سبيل المثال شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا في الوعي واستعمال أدوية باهظة الثمن، مثل العلاجات البيولوجية الخاصة بالتهاب المفاصل والكوليسترول، بعد حملات دعائية مكثفة.
وتُظهر الإحصاءات أن الأدوية العشرة الأعلى إنفاقًا على الإعلان استحوذت وحدها على نحو 3.3 مليار دولار أمريكي من ميزانية الإعلانات الدوائية.
صناعة السوق عبر تضخيم المرض
يشير مصطلح "تضخيم المرض" إلى الممارسات التي توسّع نطاق المرض، فتحول التجارب الإنسانية العادية أو الحالات البسيطة إلى مشكلات طبية تحتاج إلى علاج.
وقد وثّقت أبحاث أكاديمية أبرزها دراسات راي مونيهان كيف يمكن لتمويل الشركات وللأطباء المتعاونين معها أن يُنتجوا تعريفات جديدة للأمراض لتوسيع قاعدة المرضى.
أشكال "تضخيم المرض" في الإعلانات:
|
الأسلوب المستخدم |
الهدف التسويقي |
أمثلة شائعة |
|
توسيع تعريف المرض |
خلق فئات مرضى جديدة |
القلق الخفيف – الأرق البسيط |
|
المبالغة في الأعراض |
تحفيز طلب الفحوصات |
حساسية الجلد – تساقط الشعر |
|
الترويج الوقائي |
تسويق منتجات للصحة العامة |
فيتامينات – فحوصات منزلية |
|
الإيحاء بالخطر |
تسريع قرار الشراء |
أمراض موسمية أو نادرة |
وتُظهر هذه الدراسات أن الشركات تموّل حملات "توعوية" تُبرز أعراضًا شائعة بطريقة تجعل الناس يعتقدون أنهم مرضى بحاجة لعلاج.
ومع توسيع معايير التشخيص أو خفض الحدود الطبيعية لبعض المؤشرات، يزداد عدد من يُعتبرون مرضى وبالتالي يرتفع الطلب على الأدوية.
ففي تسعينيات القرن الماضي، بدأت شركات الأدوية المنتجة لعقاقير الستاتين مثل فايزر وميرك حملات تسويقية ضخمة تهدف لتوسيع سوق أدوية خفض الكوليسترول.
كانت هذه الأدوية في الأصل موجهة للأشخاص الذين يعانون من ارتفاع حاد في الكوليسترول أو لديهم تاريخ مرضي من أمراض القلب.
لكن مع مطلع الألفية، بدأت الشركات في تمويل دراسات وحملات إعلامية تدعو إلى خفض مستويات الكوليسترول حتى لمن هم بصحة جيدة، عبر تعريف حدود المستوى الطبيعي بشكل أكثر صرامة.
ففي عام 2004، خفضت "اللجنة الوطنية الأمريكية للكوليسترول" الحد الأعلى الموصى به لمستوى الكوليسترول الضار من 130 إلى 100 ملجم/ديسيلتر، مما أضاف نحو 8 ملايين أمريكي فجأة لفئة المصابين الذين يُنصح لهم بالأدوية، وفق بيانات المعهد الوطني للصحة.

لاحقًا، كشف تحقيق نشرته مجلة جاما أن 8 من أصل 9 أعضاء في اللجنة التي أوصت بالتغيير كانت لهم علاقات مالية مباشرة مع شركات تصنيع الستاتين.
وبحلول عام 2010، تجاوزت مبيعات أدوية الستاتين عالميًا 30 مليار دولار أمريكي سنويًا، لتصبح واحدة من أكثر الفئات الدوائية ربحًا في التاريخ.
وهكذا تحول الخوف من الكوليسترول إلى سوق عملاق للأدوية الوقائية، في مثال واضح على كيف يمكن للمصالح التجارية أن تعيد رسم حدود المرض بما يخدمها.
الفرق بين التثقيف والتخويف
أدركت الشركات التجارية فاعلية هذا الأسلوب في التأثير النفسي، فبدأت تستخدمه لبيع الفيتامينات، أو الفحوصات المنزلية، أو المستحضرات الوقائية.
ولا شك أن الخوف يمكن أن يكون وسيلة فعالة لتغيير السلوك الصحي، فهو يدفع الناس إلى التلقيح، والفحص المبكر، وتبني العادات الوقائية، لكن حين يُستخدم هذا الخوف بلا ضوابط أو دون سند علمي واضح، قد ينقلب أثره من الحماية إلى الهلع، ومن التوعية إلى الارتباك العام.
وبينت دراسات المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض أن الرسائل التي تعتمد على إثارة الخوف أو الاشمئزاز تُحقق استجابة إدراكية أعلى، ما يجعلها أداة جذابة للجهات التسويقية والإعلامية، إلا أن مبالغة استخدامها أو تزييف الحقائق قد يخلق أزمات يصعب إصلاحها.
وأوضح مثال على ذلك قضية اللقاح الثلاثي والادعاء الخاطئ بارتباطه بالتوحّد، الذي أثاره الطبيب البريطاني أندرو ويكفيلد عام 1998 في دراسة تبيّن لاحقًا أنها مزيفة وتم سحبها. وتسببت هذه الحملة في انخفاض معدلات التطعيم وعودة انتشار الحصبة في عدة بلدان، واضطرت السلطات الصحية في المملكة المتحدة لاحقًا إلى إطلاق حملات ضخمة لإعادة بناء الثقة باللقاحات.
لذا يجب إدراك أن هناك منطقة دقيقة بين التثقيف الصحي المشروع والتسويق القائم على الخوف، فبينما يحتاج الناس إلى معلومات واضحة تشجعهم على الوقاية، فإن تحويل القلق الطبيعي إلى وسيلة تجارية يضر بالصحة العامة ويقوض الثقة في الطب.
وتؤكد الأرقام الموثوقة، التي تُظهر إنفاق مليارات الدولارات سنويًا على الإعلانات الصحية والحملات الدعائية للأدوية، أن صناعة الخوف الصحي ليست مجرد نظرية، بل واقع اقتصادي ضخم.
ولمواجهة هذا الواقع، يجب تعزيز الشفافية حول تمويل حملات "التوعية" التي تمولها الشركات، وفرض قيود على الإعلانات التي تخلط بين الرسائل الصحية والمصالح التجارية، ودعم وعي الجمهور بالتمييز بين النصيحة الطبية المستقلة والمحتوى الترويجي.
وفي هذا الإطار يجب أن يكون الهدف النهائي هو نشر المعرفة الطبية الدقيقة التي تحفز الوقاية والعلاج دون استغلال الخوف كوسيلة للبيع.
المصادر: أرقام- إي ماركيتر- فيرس فارما- ميديا رادار- مبادرة سي إس آر إكس بي- موقع المكتبة الوطنية الأمريكية للطب- مجلة نيتشر
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: