نبض أرقام
01:26 م
توقيت مكة المكرمة

2025/11/13
2025/11/12

هل اقتربت نهاية البنوك التقليدية؟ .. التكنولوجيا المالية تقلب موازين القوة

08:02 ص (بتوقيت مكة) أرقام - خاص

في أحد الشوارع المزدحمة في العاصمة الاندونيسية جاكرتا، يقف بائع القهوة "أرفين" أمام عربته الصغيرة، يمدّ هاتفه بدل النقود الورقية، وبضغطة واحدة على شاشة تطبيق جو باي (GoPay) تنتقل قيمة الطلب إلى حسابه فورًا.

 

 

"أرفين" لم يزر بنكًا في حياته، ولا يملك دفتر شيكات، لكنه يدير مئات المعاملات شهريًا، ويحوّل أرباحه إلى محفظة رقمية تتيح له شراء السلع، وسداد الفواتير، وحتى الحصول على قرض قصير الأجل لتوسيع عربته.

 

بائع القهوة في جاكرتا لم يكن استثناءً، بل هو نموذج لملايين حول العالم تغيّرت علاقتهم بالمال دون المرور عبر البنوك.

 

وخلال عقدٍ واحد فقط، قفزت شركات الدفع الرقمي من دورها كوسيط بسيط لقبول المدفوعات إلى أن أصبحت منافسًا حقيقيًا للبنوك التقليدية.

 

وأصبحت شركات مثل بايبال وأنت جروب وسترايب وريفوليت تُدير تريليونات الدولارات سنويًا، وتملك كمًّا هائلًا من بيانات الإنفاق، وتقدّم خدمات كانت تُعدّ حكرًا على المؤسسات المصرفية.

 

هذا التحوّل يطرح سؤالًا عمليًا وسياسيًا: هل أصبحت منصّات الدفع بنوكا جديدة أم هي فقاعة تقنية تخاطر بزعزعة الاستقرار المالي؟

 

من بوابة دفع إلى بنية تحتية مالية عالمية

 

قبل أعوام قليلة فقط، كانت منصّات معالجة المدفوعات تُعتبر أداة مساعدة للبنوك والتجار أي مجرد وسيط لتسهيل عمليات الشراء عبر الإنترنت.

 

اليوم تغيّر المشهد بالكامل حيث بات بعض هذه المنصّات يتعامل مع أحجام أموال توازي اقتصادات دول صغيرة، لتتحول من مجرد خدمات مالية تكميلية إلى منظومات مالية متكاملة.

 

فشركات مثل بايبال وستريب لم تعد مجرد مزوّدين لحلول الدفع، بل أصبحت قنوات رئيسية لتحريك السيولة في الاقتصاد الرقمي العالمي.

 

ويعكس حجم المعاملات الذي تعالجه هذه الشركات سنويًا وأصبح يفوق التريليون دولار، مكانتها كلاعب محوري في البنية التحتية المالية الجديدة.

 

على سبيل المثال، أعلنت سترايب أن حجم المدفوعات الذي عالَجته في 2024 بلغ نحو 1.4 تريليون دولار أمريكي مرتفعًا بنحو 38% مقارنة بالعام السابق، وبالمثل، أبلغت بايبال عن إجمالي حجم مدفوعات سنوي بلغ 1.68 تريليون دولار في 2024.

 

 

وفي أوروبا أيضاً، سجّلت منصات مثل "آديين" نمواً هائلاً في حجم المعاملات، حيث عالجت دفعات إجمالية تقدر بأكثر من تريليون دولار فيما تشير التوقعات إلى أن هذا الرقم قد ارتفع في عام 2024 على نحو ملحوظ.

 

هذه القفزة في أحجام المعاملات تضع منصات الدفع في موقع يمكّنها من تقديم خدمات مصرفية قائمة بنفسها مثل حفظ الأموال مؤقتًا، وإتاحة رصيد للتاجر، أو تقديم حلول تحويلات عالمية بتكلفة أقل.

 

وفي أسواق أخرى كانت هناك نماذج محلية أعمق؛ مثل نظام إم بيسا في كينيا والذي عكس كيف يمكن لمنصة دفع أن تصبح بنية تحتية مالية.

 

ففي السنة المالية 2023/2024 سجّل هذا النظام قيمة معاملات تقارب 40 تريليون شلن كيني (309 مليارات دولار أمريكي) عبر نحو 28 مليار معاملة، مع عشرات الملايين من المستخدمين النشطين ما يجعلها خدمة مالية منافسة للبنوك المحلية.

 

وتشير هذه الأرقام إلى حجم الضغوط الواقعة على نموذج الأعمال المصرفي التقليدي القائم على الفوائد والرسوم.

 

الائتمان والاقتراض خارج القنوات التقليدية

 

منصّات الدفع الرقمية لم تعد مقتصرة على تسهيل التحويلات أو قبول المدفوعات فقط حيث دخل الكثير منها بقوة في سوق الإقراض الاستهلاكي والتمويل غير البنكي.

 

وتحولت ظاهرة "اشتر الآن وادفع لاحقًا" إلى نموذج تمويلي موجَّه ومنتشر يتم عبر منصّات التجارة الرقمية، بعيدًا عن الأفرع البنكية التقليدية.

 

مقارنة الخصائص المالية بين البنوك التقليدية ومنصات الدفع

الخاصية

البنوك التقليدية

منصات الدفع الرقمية

جمع الودائع

نعم

محدود

منح الائتمان

نعم

نعم

البيانات الاستهلاكية

محدودة

كبيرة ودقيقة

التنظيم والرقابة

صارمة

مرنة أو عبر شراكات

الوصول إلى المستهلك النهائي

محدود

مباشر

 

على سبيل المثال، أبلغت شركة كلارنا عن حجم تعاملات إقراض إجمالية بلغت نحو 105 مليار دولار أمريكي في عام 2024، مع نمو يصل لنحو 27% مقارنة بـ 2022.

 

في المقابل كشفت شركة أفيرم عن حجم معاملات بلغ نحو 10.4 مليار دولار أمريكي في الربع الرابع من 2025، بارتفاع نحو 43% على أساس سنوي.

 

هذان المثالان يُوضّحان كيف تنتقل منصّات الدفع لتصبح لاعباً هاماً في الإقراض وتحويل الموارد المالية.

 

 

وأدى توسّع هذه المنصّات في مجال الائتمان إلى جعلها جزءًا فاعلاً في سلسلة التمويل، لكنها تعمل بأساليب تمويلية مختلِفة عن البنوك التقليدية مثل بيع القروض لجهات خاصة أو الدخول في شراكات مع مؤسسات مالية ما يسمح لها بالتوسّع السريع لمنح القروض للمستهلكين.

 

وفي الوقت نفسه يجنبها العديد من القيود التي تواجه البنوك التقليدية مثل متطلّبات رأس المال أو المعايير التنظيمية الصارمة.

 

ويعني هذا وجود منافسة مباشرة على قنوات التمويل الاستهلاكي بين المنصّة والبنوك التقليدية حيث تمتلك الأولى واجهة الدفع، وتحليل البيانات، وواجهة المستهلك النهائي، تستطيع عرض تمويل أو أقساط مباشرة.

 

وهذا يضع البنوك التقليدية في موقف دفاعي، إذ إن العميل يمكن أن يحصل على التمويل ويكمل المعاملة كلها خارج منظومة الحساب البنكي أو البطاقة الائتمانية التقليدية.

 

القوة الحقيقية لمنصات الدفع

 

القيمة الاستراتيجية الحقيقية لمنصات الدفع الرقمية لا تكمن فقط في الأموال التي تمر عبرها، بل في الكم الهائل من البيانات التي تجمعها عن سلوك المستهلكين مثل أنماط الإنفاق، تكرار الشراء، شرائح العملاء، واستجابتهم للعروض والتخفيضات.

 

هذه البيانات تمكّن منصات الدفع من استهداف المنتجات المالية مثل القروض، التأمينات، والخدمات الاستثمارية بدقة عالية، مع تكلفة اكتساب عميل أقل بكثير مقارنة بالبنوك التقليدية.

 

على سبيل المثال، تمتلك شركة سترايب وشركة بايبال القدرة على تقديم حلول مثل العمليات المالية والإقراض كخدمة، ما يعني أن نفس مزوّد الدفع يمكن أن يتحول إلى مصدر للائتمان أو شريك في تمويل التجار.

 

لكن هذا التوسع يخلق تحديات تنظيمية كبيرة حيث تعمل منصات الدفع عبر حدود دولية، وتجمع بيانات حساسة وتستخدم نماذج ائتمانية سريعة، في حين تخضع البنوك لمتطلبات صارمة لرأس المال والاحتياطي.

 

وغالبًا ما تعمل المنصات بنماذج تمويل مرنة أو عبر شراكات، ما قد يؤدي إلى ثغرات تنظيمية إذا توسّعت خدماتها الائتمانية بشكل كبير دون رقابة كافية.

 

 

وفي السنوات الأخيرة، بدأت الجهات التنظيمية حول العالم بوضع قواعد لحماية المستهلك، ومتطلبات الإفصاح عن التمويل البنكي خلف المنصات، وقيود على خدمات مثل اشتر الآن وادفع لاحقًا.

 

لكن وتيرة الابتكار المالي تتجاوز أحيانًا سرعة التشريع، ما يخلق فجوات مؤقتة في الإشراف ويزيد المخاطر النظامية المحتملة.

 

هذا التطور لا يعني بالضرورة اختفاء البنوك التقليدية، لكنه يضع النظام المصرفي في موقف صعب، حيث قد يفقد أجزاءً من دوره المركزي في جمع الودائع وتخصيص الائتمان، إضافة إلى دوره كبوابة للثقة التنظيمية.

 

ولمواجهة هذا التحدي، من الضروري تحديث القواعد التنظيمية لتشمل جميع مزوّدي الخدمات المالية الكبيرة، وضمان تطبيق متطلبات الشفافية وحماية المستهلك بغض النظر عن طبيعة إطارهم القانوني.

 

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للشراكات الاستراتيجية بين البنوك التقليدية والمنصات الرقمية أن توفر حلولًا مشتركة تعزز نقاط القوة لدى كل طرف، وتخلق منظومة مالية أكثر شمولية ومرونة.

 

كما أن الاستثمار في تطوير البنية التحتية للمدفوعات العامة، بما في ذلك شبكات الدفع الفورية وواجهات برمجة التطبيقات المفتوحة، يعد خطوة أساسية لمنع احتكار قنوات الدفع من قبل لاعبين خاصين، وضمان منافسة عادلة تعود بالنفع على المستهلك والنظام المالي بأكمله.

 

في النهاية، يمكن أن تتحول منصات الدفع إلى ما يشبه البنوك الجديدة مع وجود إشراف حكومي فعال وحوكمة واضحة بما يعمل على توسيع النظام المالي، وليس استبداله، بما يعزز الكفاءة والابتكار دون الإضرار بالاستقرار المالي أو مصلحة المستهلك.

 

المصادر: أرقام- سترايب- بايبال- آديين- سترايتس ريسيرتش- وول ستريت جورنال- بلومبرج

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.