كان إرفين ماتيتش محبطًا. فخلال دراسته فاز بميداليات في الأولمبياد الدولية للرياضيات، وأجرى أبحاثًا في الذكاء الاصطناعي محاولًا تسريع تنبؤ النماذج.
كان يحلم بالعمل في مختبرات كبرى لجعل هذه التكنولوجيا أكثر أمانًا.
لكن هذا العبقري البوسني البالغ 19 عامًا لم يستطع الالتحاق بجامعة أكسفورد بسبب رسومها الباهظة، فالتحق بجامعة سراييفو حيث أدى امتحاناته على جهاز كمبيوتر قديم.
قصة ماتيتش ليست استثناءً. ففي أنحاء العالم تهدر كميات هائلة من المواهب. إذ يتحدث الاقتصاديون عن "آينشتاينات ضائعة" كان يمكن أن ينجزوا أعمالًا ثورية لو جرى اكتشافهم ورعايتهم.

وتبدو العواقب أكثر وضوحًا في الذكاء الاصطناعي، حيث أدى نقص الباحثين المتميزين إلى أجور فلكية لعدد محدود منهم.
ومع أن الحكومات تنفق مليارات على تصنيع الرقائق، إلا أنها تغفل الاستثمار في العقول نفسها.
نجوم وليس مواهب جديدة
تركز السياسات اليوم على الاستقطاب لا الإنتاج. الصين مثلًا أطلقت "برنامج الألف موهبة"، وأمريكا اعتمدت تأشيرات خاصة للعلماء، فيما أعلنت اليابان والاتحاد الأوروبي برامج مماثلة.
لكن المنافسة تحتدم فقط على النجوم الموجودين أصلًا، لا على اكتشاف طاقات جديدة.
أصبح بعض الباحثين يُعتبرون ذوي إنتاجية تعادل آلاف المرات غيرهم، وهو ما يفسر سباق الشركات لضمهم.
ومع أن قلة صغيرة تحدث بالفعل معظم الاختراقات، فإن الافتراض بأن عددهم محدود خاطئ؛ إذ إن الجغرافيا والطبقة الاجتماعية يحجبان الكثير من الطاقات.

يعيش 90% من شباب العالم في الدول النامية، بينما تتركز معظم جوائز نوبل في أمريكا وأوروبا واليابان.
كما أن أبناء الأسر الغنية أكثر احتمالًا عشر مرات لأن يصبحوا مخترعين مقارنة بأبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة.
متي تبدأ الحكومات البحث عن العباقرة
فأين تبدأ الحكومات؟ الحل ليس فقط في تحسين التعليم أو التغذية، بل في التركيز على المراحل التي تظهر فيها المواهب بوضوح، خصوصًا سن المراهقة.
تظهر الأبحاث أن متسابقي الأولمبياد في الرياضيات من الدول الفقيرة ينشرون مستقبلًا أبحاثًا أقل بكثير من نظرائهم في الدول الغنية.
نقل شاب موهوب إلى بيئة أفضل يزيد احتمال أن يصبح مخترعًا بوضوح.
الرياضة نموذج ناجح
الرياضة تقدم نموذجًا ناجحًا. ففي أوائل القرن العشرين، ابتكرت لعبة البيسبول "أنظمة المزارع"، حيث يجري استقطاب مراهقين وتطويرهم تدريجيًا حتى يصبحوا جاهزين للبطولات الكبرى.
وبحلول القرن العشرين، توسع الاستقطاب ليصبح عالميًا.
في العام الماضي ضم دوري كرة السلة الأمريكي 125 لاعبًا دوليًا من أكثر من 40 دولة، بفضل الأكاديميات العالمية. النتيجة كانت ارتفاعًا في الجودة والتنوع.
بعض العبقريات واضحة للعيان. ومؤخرًا، فاجأت هانا كايرو، البالغة 17 عامًا من جزر الباهاماس، علماء الرياضيات بحلها لمسألة عويصة استعصت لعقود.
كما أن مسابقات مثل الأولمبياد تعد مؤشرًا قويًا للنجاح المستقبلي.
ينال واحد من كل 40 فائزًا بالميدالية الذهبية في أولمبياد الرياضيات الدولية لاحقًا جائزة علمية كبرى، وهو معدل أعلى بخمسين مرة من خريجي معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT ).
يشار إلى أن نصف مؤسسي OpenAI شاركوا في مسابقات الأولمبيادات.
التقنية تستكشف المواهب
التقنية أيضًا تفتح مجالات جديدة للتعرف على المواهب. فمثلًا، أظهر بحث أن 10% من سكان العالم استخدموا شات جي بي تي ( ChatGPT ) بالفعل، نصفهم تقريبًا تحت سن 25 عامًا.
وقد تكشف هذه البصمات الرقمية أنماطًا من الإبداع أو المثابرة. ما يعني أن وجود "كشافين" في المدارس والمسابقات وحتى الفضاء الرقمي قد يوسع دائرة الاكتشاف.
لكن العثور على العباقرة لا يكفي؛ يجب أيضًا تطويرهم.
العباقرة بحاجة إلى مرشدين يشحذون مواهبهم ويفتحون الأبواب أمامهم. بيد أن الموجهين لا يحتاجون أن يكونوا عباقرة بأنفسهم.

أظهرت دراسات أن وجود معلمين عاديين ينظمون نوادي أو مسابقات رياضيات يكفي لزيادة فرص الطلاب الموهوبين في دخول جامعات نخبوية والالتحاق بالبحث العلمي.
كما يحتاج العباقرة إلى بيئات غنية بالأقران الموهوبين.
أظهرت الأبحاث أن العصر الذهبي للابتكار في الولايات المتحدة كان مدفوعًا بالهجرة الداخلية للعلماء والمخترعين إلى مراكز أكثر كثافة.
بوابة رئيسية للمواهب
الجامعات تبقى بوابة أساسية، لكنها غالبًا تنظر إلى الطلاب الدوليين كممولين لا مبتكرين.
عدد المنح المخصصة لهم محدود جدًا، ما يجعل كثيرًا من الفائزين في الأولمبيادات عاجزين عن متابعة دراستهم في مؤسسات نخبوية.
وتشير التقديرات إلى أن إزالة العقبات المالية يمكن أن ترفع الإنتاج العلمي للأجيال المقبلة بنسبة تصل إلى 50%.
بعض الحكومات جربت دعم المواهب فنجحت، مثل سنغافورة التي اختارت طلابها عبر امتحانات وطنية ومنح خارجية، أو أمريكا التي دعمت الفنانين عبر برامج ثلاثينيات القرن الماضي.
المؤسسات الخيرية
لكن العبء الأكبر اليوم تتحمله المؤسسات الخيرية. "صندوق المواهب العالمي" مثلًا أنقذ مسار ماتيتش نفسه، وأتاح له الالتحاق بأكسفورد، فيما تقدم مبادرات أخرى مسابقات ورعاية للمراهقين المبدعين.
هذه البرامج ليست باهظة الكلفة، ويمكن للحكومات توسيعها بسهولة. فالتاريخ يثبت أن الدول التي تحشد مواهبها تفوز بالسباقات الاستراتيجية: من مشروع مانهاتن إلى برنامج أبولو.
تستثمر الصين اليوم بكثافة في تعليم باحثيها، وأمريكا استفادت طويلًا من استقطاب العقول الأجنبية.
المسألة ليست جيوسياسية فحسب، بل إن إزالة العقبات أمام المواهب قد تضاعف عدد المبتكرين عالميًا مرات عدة، ما يسرع اكتشاف الأدوية، ويعجل الانتقال الأخضر، ويدفع الذكاء الاصطناعي إلى آفاق أرحب.
إن هدر المواهب هو المحرك الأكثر إهمالًا على صعيد التقدم في العالم.
المصدر: ذي إيكونوميست
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: