على مدى العقد الماضي، تمددت أقسام الموارد البشرية في الشركات بشكل غير مسبوق، لتصبح لاعباً محورياً في صنع القرارات داخل المؤسسات العالمية.
ارتفع عدد العاملين في هذا القطاع بوتيرة أسرع بكثير من أي وقت مضى، وتوسّعت صلاحياته من التوظيف وإدارة الرواتب إلى النفوذ داخل مكاتب الإدارة العليا.
ولكن مع صعود الذكاء الاصطناعي، يواجه هذا "النفوذ الجديد" تحديات قد تعيد رسم خريطة دوره بالكامل.

حجم وتأثير الوظائف
في عام 2024، وظّفت الشركات الأمريكية نحو 1.3 مليون موظف في مجال الموارد البشرية، بزيادة 64% خلال عشر سنوات، مقارنة بنمو 14% فقط في إجمالي الوظائف.
وكان التوسع الأكبر داخل الشركات "ذات الياقات البيضاء"—خصوصاً في التكنولوجيا والخدمات المهنية—حيث تضاعف عدد موظفي الموارد البشرية منذ 2014. كما شهدت أستراليا وبريطانيا وألمانيا نمواً مماثلاً.
لم يقتصر هذا الصعود على العدد فقط، بل شمل المكانة الوظيفية أيضاً. فدراسة لجامعة ستانفورد تكشف أن رواتب رؤساء الموارد البشرية ارتفعت مقارنة ببقية التنفيذيين الكبار.
ففي 1992 كانت تعويضاتهم تشكل 40% من متوسط رواتب أعضاء مجالس الإدارة (باستثناء الرئيس التنفيذي)، لكن بحلول 2022 وصلت النسبة إلى 70%.
وارتفع عدد المديرين الكبار الذين جاؤوا أصلاً من خلفية الموارد البشرية، مثل ماري بارا التي قادت "جنرال موتورز" بعد توليها منصب رئيسة الموارد البشرية سابقاً، إلى جانب شركات أخرى مثل "دانكن براندز" و"شانيل".
لماذا أصبحت الموارد البشرية بهذه الأهمية؟
|
ثلاثة تحولات رئيسية تقف خلف صعود هذا القطاع: |
||
|
1- ندرة المواهب واحتدام المنافسة العالمية |
|
وفقاً لمسح عالمي أجرته "مان باور غروب"، قال 74% من أصحاب الأعمال في 2024 إنهم يعانون من نقص في العمالة الماهرة، مقارنة بـ38% قبل عشر سنوات.
وتساهم الشيخوخة السكانية في بعض الدول والتقنيات الجديدة—خصوصاً الذكاء الاصطناعي—في رفع الطلب على مهارات أكثر تخصصاً.
|
|
2- عقد من الاضطرابات في سوق العمل |
|
شهدت بيئات العمل سلسلة من الأزمات التي دفعت بأقسام الموارد البشرية إلى الواجهة. فحركة "مي تو" كشفت قضايا التحرش المؤسسي، ثم جاءت جائحة "كوفيد-19" لتحمّل هذه الأقسام مسؤوليات ضخمة، من إدارة التحول للعمل عن بُعد إلى مراقبة الصحة والسلامة.
ومع انتهاء الجائحة، عادت سياسات العمل الهجين وقرارات العودة للمكاتب لتضع ضغطاً إضافياً على هذا القطاع. بعد ذلك جاءت موجة مبادرات التنوع.
|
|
3- زيادة التشريعات وتزايد الشكاوى العمالية |
|
تعمد حكومات عدة إلى سنّ قوانين أكثر صرامة بشأن العلاقات العمالية، مثل الإجازات المرضية والحدّ الأدنى للأجور، وهو ما يضاعف أعباء الامتثال.
كما أصبح الموظفون أكثر معرفة بحقوقهم، وارتفع متوسط شكاوى التمييز والتحرش في أماكن العمل إلى 15 حالة لكل ألف موظف في 2023 في الولايات المتحدة على سبيل المثال، مقارنة بـ6 حالات فقط في 2021، وفق بيانات شركة إتش آر أكيوتي "HR Acuity".
|

هل يقترب انفجار «فقاعة الموارد البشرية»؟
رغم السنوات الذهبية لهذا القطاع، بدأت بوادر التباطؤ تظهر، فالكثير من الأسواق تشهد حالياً انخفاضاً في معدلات التعيين والاستقالة، ما يعني أعمالاً أقل لأقسام الموارد البشرية.
وفي الوقت نفسه، ازدادت عمليات التسريح: إذ سجلت الشركات الأمريكية مثلا أكثر من 153 ألف تسريح في أكتوبر 2024، وهو أعلى رقم منذ الجائحة، وفق شركة تشالنجر ، غراي آند كريسماس " Challenger, Gray & Christmas.".
والمفارقة أن موظفي الموارد البشرية أنفسهم بدأوا يتعرضون للتسريح؛ فقد ضمّت عمليات خفض الوظائف الأخيرة في «أمازون» عدداً كبيراً من العاملين في هذا القطاع.
الذكاء الاصطناعي.. التهديد الأكبر
في المدى القريب، يلعب موظفو الموارد البشرية دوراً مهماً في إعادة تدريب الموظفين وتحديد متطلبات التوظيف الجديدة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي. بعض الشركات ذهبت أبعد من ذلك، مثل "موديرنا" التي دمجت قسمي تكنولوجيا المعلومات والموارد البشرية تحت قيادة رئيس الموارد البشرية السابق.
لكن على المدى الطويل، يبدو أن الذكاء الاصطناعي يستعد لافتراس جزء كبير من وظائف الموارد البشرية.
فالشركات باتت تعتمد عليه لفرز السير الذاتية، وإجراء المقابلات الأولية، وتقديم إجابات فورية للموظفين عبر روبوتات المحادثة.
وفي استطلاع حديث أجرته "ماكينزي"، قالت 22% من الشركات إن الذكاء الاصطناعي أدى إلى تقليص عدد موظفي الموارد البشرية خلال العام الماضي—وهي النسبة الأعلى بين كل الإدارات—فيما قال 5% فقط إنه أدى إلى زيادتهم.
هكذا، يجد قطاع الموارد البشرية نفسه في مفارقة: فهو في قلب عملية التحول نحو الذكاء الاصطناعي، لكنه في الوقت نفسه مهدد بأن يصبح أحد أبرز ضحاياه. وبينما يواصل "الناس" إدارة شؤون "الناس"، قد تكون الآلات هي من يعيد رسم ملامح مستقبل هذا القطاع.
المصدر: ذي إيكونوميست
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: