نبض أرقام
01:06 م
توقيت مكة المكرمة

2025/11/23
2025/11/22

القيمة المفقودة: لماذا لا يعترف الاقتصاد بالرعاية غير المدفوعة؟

07:34 ص (بتوقيت مكة) أرقام

في وقت دخل فيه مصطلح "الزوجة التقليدية" (Tradwife) القاموس كرمز لعودة بعض الخطابات المحافظة حول دور المرأة، تشهد الولايات المتحدة مفارقة لافتة: بينما حصل 44 ألف رجل على وظائف منذ بداية العام، غادرت أكثر من 200 ألف امرأة سوق العمل.

 

سؤال واحد يفرض نفسه: هل نحن أمام انتكاسة في مسار تمكين المرأة، أم نتيجة ضغوط متصاعدة بين الأسرة والعمل؟

 

 

ثلاثة كتب صدرت حديثاً تحاول تفسير ما يحدث، وتعود بالتاريخ إلى الوراء لتكشف جذور التوتر بين دور المرأة كمنتجة في الاقتصاد وبين دورها كمنجِبة ومقدمة للرعاية.

 

بيد أنها تتفق على فرضية واحدة: لو كان «الإنسان الاقتصادي» الذي صاغ الفكر الاقتصادي ذكراً وامرأة معاً، لكان شكل الاقتصاد العالمي مختلفاً تماماً.

 

دروس التاريخ

 

في كتاب «إيكونوميكا»، تقدّم الباحثة البريطانية فيكتوريا باتيمان سرداً ممتداً لقرون من التاريخ الاقتصادي، واضعة المرأة في مركز المشهد.

 

وترى باتيمان أن التراجع الحالي في مشاركة النساء ليس سوى حلقة جديدة في دورة عمرها قرون؛ فكل مرحلة توسّعت فيها مساهمة النساء في الاقتصاد الرسمي، تلتها مرحلة انكماش جديدة كلما بدا أن دورهن الإنتاجي يهدد الدور الإنجابي الذي يتوقعه المجتمع منهن.

 

وتنجح باتيمان في تقديم قصص جذابة لنساء حققن تأثيراً اقتصادياً لافتاً عبر التاريخ، مثل:

 

- السيدة خديجة بنت خويلد، أولى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، التي كانت تاجرة بارزة تدير قوافل كبرى.

 

- تشنغ شيه، السيدة التي أصبحت قائدة أكبر أسطول قراصنة في الصين القرن التاسع عشر.

 

- بريسيلا ويكفيلد في إنجلترا، التي أسست بنك الادخار «بيني بنك» للنساء الفقيرات قبل ظهور نظم التأمين الحديثة.

 

لكن رغم قوة السرد، ترى الكاتبة أن هذه النماذج تبقى «استثناءات تؤكد القاعدة» بأن الاقتصاد الرسمي ظل حكراً على الرجال، وأن الادعاء بأن النساء قُدن النمو الاقتصادي العالمي عبر التاريخ لا تدعمه الأدلة بالشكل الكافي.

 

ومع ذلك، تقدّم باتيمان رؤية طويلة المدى لمسار المساواة، لتؤكد أن تاريخ المرأة أشبه بـ«أفعوانية» لا تسير في خط مستقيم. ففي بعض البلدان تمتعت النساء في فترات تاريخية قديمة بحقوق أوسع مما يملكنه اليوم.

 

التكنولوجيا.. سلاح ذو حدين

 

ترى باتيمان أن التكنولوجيا شكلت نقطة تحول رئيسية في تحديد طبيعة أدوار النساء. فاختراع المحراث مثلاً منح الرجال ميزة بدنية في الزراعة، ما عزز هيمنتهم الاقتصادية وخفّض دور النساء الإنتاجي لصالح الدور الإنجابي.

 

كما أدى تراكم الثروة الناتج عن الفائض الزراعي إلى تعزيز فكرة أن على النساء إنجاب «الورثة» لنقل الثروة إليهم.

 

وفي المقابل، سمحت صناعات مثل غزل الحرير للنساء بالعمل من المنزل، وهو ما يفسّر – كما تقول – لماذا ظلّت ممارسة ربط القدمين في الصين منتشرة في المدن التي لا تحتاج النساء فيها إلى العمل في الحقول، بينما تراجعت في المناطق الزراعية التي اعتمدت على عمل المرأة.

 

ومع كل ثورة صناعية أو اقتصادية، تتكرر المشكلة ذاتها: عندما يزداد اعتماد السوق على عمل النساء، يرتفع قلق المجتمع على «نقاء» دورهن الإنجابي.

 

فالفكتوريون كانوا مهووسين بالأثر السلبي لانتشار النساء العاملات في المصانع، والاتحاد السوفييتي منح النساء حقوقاً إنجابية لتشجيعهن على العمل، ثم سحبها عندما انخفض معدل المواليد.

 

وما يقوله السياسي الأمريكي جاي دي فانس اليوم عن «نساء القطط العازبات» ليس جديداً؛ فقد قال الإمبراطور الروماني أغسطس الشيء نفسه قبل ألفي عام.

 

 

المرأة المعاصرة بين وظيفتين

 

في كتابها «فيمونوميكس» (أو «امتلاك كل شيء» في النسخة الأمريكية)، ترصد خبيرة الاقتصاد من جامعة وارتون، كورين لو، ضغوط النساء العاملات اليوم، وتوثّق عبر بيانات ممتدة من 1975 إلى 2020 كيف أن النساء ما زلن يتحملن العبء الأكبر من رعاية الأطفال والأعمال المنزلية.

 

ومن أبرز نتائجها:

 

1- الرجال الأمريكيون اليوم لا يقومون بأعمال منزلية أكثر مما كانوا يفعلون قبل 50 عاماً، رغم دخول النساء سوق العمل بكثافة.

 

2- حتى عندما تكسب المرأة أكثر من شريكها، فإنها تقوم بقدر أكبر من الرعاية المنزلية.

 

3- التكنولوجيا المنزلية وفّرت الوقت، لكنّه استُهلك في «الأمومة المكثفة» أو ما يعرف بـ"الوالدية المروحية".

 

وتسرد لو تجربتها الشخصية: فقد قررت إعادة تقييم مسيرتها المهنية، ثم انفصلت عن زوجها، وأعلنت لاحقاً أنها اتخذت "قراراً مبنياً على البيانات" بعدم مواعدة الرجال مجدداً!

 

لكن رغم طرافة اللغة الاقتصادية التي تستخدمها – من "دالة المنفعة" إلى "استثمار الشريك" – تبقى نصائحها صالحة فقط للنساء اللاتي يملكن رفاهية الاختيار.

 

أما العاملات المنخفضات الدخل فليس بمقدورهن «تحويل الوقت إلى سعادة» كما تنصح، لأن الوقت عندهن أساس مستنزف في البقاء الاقتصادي.

 

 

القيمة المفقودة

 

أما كتاب "العجز" (Deficit) للكاتبة الدنماركية إيما هولتن، فيتناول فكرة أن الاقتصاد الحديث ببساطة لا يعترف بقيمة الرعاية غير مدفوعة الأجر التي تقدمها النساء.

 

وتشير هولتن إلى تقرير دانماركي وصف النساء بأنهن "عبء مالي"، لأنهن يدفعن ضرائب أقل مقارنة بما يستهلكن من خدمات عامة، متجاهلاً أن الرعاية المنزلية تُخفض ساعات عمل المرأة، وبالتالي دخلها.

 

جذور المشكلة

 

آدم سميث تجاهل تماماً العمل غير المدفوع الذي قامت به والدته والذي مكّنه من إنتاج كتابه الأشهر "ثروة الأمم".

 

سيمون كوزنتس، مُبتكر مفهوم الناتج المحلي الإجمالي، استبعد الرعاية المنزلية لاعتبارات عملية، لكن قراره أدى لاحقاً إلى تقديس "النمو" على حساب الاعتناء بالبشر.

 

المفكرون في عصر التنوير قسّموا العالم إلى "مجال عام عقلاني للرجال" و"مجال منزلي عاطفي للنساء"، ما رسّخ استبعاد الرعاية من أي حسابات اقتصادية.

 

وتحاجج هولتن بأن تجاهل الرعاية أدى إلى سياسات تخلق ما يسمى "الوظائف الجشعة" التي تتطلب التزاماً دائماً وساعات طويلة لا يمكن التوفيق بينها وبين الأمومة أو الحياة الصحية.

 

اقتصاد يعترف بالرعاية

 

- رغم قوة التحليل، يعترف المؤلفون الثلاثة بأن الحلول غائبة.

 

- باتيمان تركز على الاقتصاد الإنتاجي دون تقديم تصور بديل للرعاية.

 

- هولتن ترفع الصوت دفاعاً عن «اقتصاد إنساني» لكنها لا تقدم سياسات محددة.

 

- لو توصي بتفويض المهام و«الاستعانة بالغير»، لكن هذا يعني عملياً نقل عبء الرعاية إلى نساء فقيرات بأجور متدنية.

 

النقطة التي يتفق عليها الجميع: لا يمكن معالجة أزمة دور المرأة في الاقتصاد دون بناء نظام جديد يعترف بالرعاية كقيمة اقتصادية أصلية، لا كعبء.

 

وحتى يتحقق ذلك، ستظل النساء محاصرات بين وظيفتين متنافستين، وسنظل نحن – كما تقول الكتب الثلاثة – نفهم دور المرأة في الاقتصاد فهماً خاطئاً.

 

المصدر: فاينانشال تايمز

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.