نبض أرقام
01:30 م
توقيت مكة المكرمة

2025/11/24
2025/11/23

سباق المعادن النادرة .. كيف يحدد القوة العالمية العظمى التالية؟

07:56 ص (بتوقيت مكة) أرقام - خاص

على بُعد نحو ساعة من شنغهاي، تقف مصفاة مدينة ووشي كأنها قلب معدني نابض تتحكم دقّاته في إيقاع التكنولوجيا الحديثة، وداخل أسوار هذه المصفاة، تدور عجلات إنتاج لا تتوقف، تُحوِّل خامًا نادرًا إلى شريان خفي يغذي كل رقاقة متقدمة في العالم.

 

هناك، حيث تختلط الأبخرة الكيميائية برائحة المعادن الساخنة، تُصنَع القطرة الأولى من معدن ديسبروسيوم فائق النقاء، ذلك المعدن الذي لا يعرفه أغلب البشر، ولكنه يُعد أساسيًا في تطور التكنولوجيا الحديثة والصناعات الدفاعية المتقدمة.

 

 

وتُعد هذه المصفاة الوحيدة في العالم القادرة على إنتاج الديسبروسيوم فائق النقاء، والذي يدخل في إنتاج الرقائق الإلكترونية الأكثر تقدمًا في العالم، حتى أن "إنفيديا" غيرت المادة المُستخدمة في مكثفات إدارة الطاقة داخل رقائقها لتعتمد على هذا المعدن لجعلها أكثر مقاومة للحرارة.

 

تعكس هذه الصورة إحكام الصين قبضتها على المعادن الأرضية النادرة في العالم، حيث تكرر كافة الإنتاج العالمي من هذا المعدن الحيوي، فيما تحاول واشنطن وحلفاؤها كسر هذه الهيمنة، فكيف يحدد سباق الهيمنة على المعادن النادرة القوى العظمى التي ستقود العالم مستقبلًا؟

 

أهمية استراتيجية تقنية وعسكرية

 

- رغم اسم هذه المعادن، إلا أنها متواجدة بكثافة في التربة، فبعضها أكثر وفرة من الرصاص، لكن المشكلة أن وجودها متناثر في القشرة الأرضية بكميات صغيرة ومختلطة بعناصر أخرى، ما يجعل العثور على رواسب كبيرة منها واستخراجها بتكلفة معقولة مهمة معقدة، كما تواجه عملية المعالجة عقبات تنظيمية وبيئية.

 

- مع تسارع التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة، أصبحت هذه المعادن ركيزة لا يمكن الاستغناء عنها في البنية التحتية للطاقة المتجددة، إذ تعتمد توربينات الرياح عليها، فضلًا عن حاجة كل سيارة كهربائية نحو 10 كيلوجرامات من هذه المعادن ومنتجاتها لتحسين قدرة المحرك.

 

 

- كما تبرز أهميتها في الصناعات الدفاعية، إذ تعتمد الجيوش المتقدمة على هذه العناصر في أنظمة التوجيه والرادار والرؤية الليلية، فضلًا عن المقاتلات التي تتطلب كمية كبيرة منها، إذ تحتوي "إف 35" على أكثر من 400 كيلوجرام من هذه المعادن.

 

- لا يقتصر الأمر على المقاتلات الجوية وحدها، بل تتطلب الغواصات والمدمرات الأمريكية آلاف الكيلوجرامات لتشغيل منظومات الدفع والاستشعار، وهو ما يجعل التحكم في سلاسل توريد هذه المعادن عنصرًا حاسمًا في موازين القوة العالمية.

 

كيف هيمنت الصين؟

 

- ساهم علماء أمريكيون في تطوير عملية فصل وتكرير المعادن النادرة في خمسينيات القرن الماضي، وبالفعل، كانت الولايات المتحدة حتى عام 1991 هي المورد الأكبر عبر منجم "ماونتن باس" في كاليفورنيا، لكن كما يقول المثل "من يضحك أخيرًا يضحك كثيرًا".

 

- في عام 1991، أصدرت الصين قانونًا يصف المعادن الأرضية النادرة بأنها "استراتيجية" ويحظر على الشركات الأجنبية العمل مع نظيرتها المحلية لتعدين بعض الرواسب الصينية، وأدركت بكين مبكرًا أنها بحاجة إلى الارتقاء في سلسلة توريد هذه المعادن إذا أرادت السيطرة على الصناعة.

 

- لم تكتف الحكومة الصينية بتطوير القطاع محليًا، بل حصلت شركات صينية مدعومة من الحكومة على موافقة واشنطن لشراء معدات المعادن الأرضية النادرة التابعة لشركة "جنرال موتورز" في عام 1995، قبل أن يتعرض هذا القطاع في أمريكا لشلل شبه كامل بحلول عام 2005.

 

 

- اتسع نفوذ الشركات الصينية في هذا القطاع، لتستحوذ بكين اليوم على أكثر من 69% من الإنتاج العالمي للمعادن الأرضية النادرة، وتسيطر على 90% من عمليات التكرير عالميًا، حتى أنها تستحوذ تقريبًا على كافة الإنتاج العالمي من بعض هذه المعادن.

 

أكثر الدول المنتجة للمعادن الأرضية النادرة في العالم 2024

الدولة

الإنتاج

(ألف طن)

الصين

270

الولايات المتحدة

45

ميانمار

31

أستراليا

13

تايلاند

13

 

 سلاح تكتيكي

 

- في صباح التاسع من أكتوبر، استيقظ العالم على إعلان بكين ضرورة حصول الكيانات الأجنبية على تراخيص لتصدير أي منتجات تحتوي على أكثر من 0.1% من المعادن النادرة محلية المصدر، أو المصنعة خارج أراضيها ولكن باستخدام تكنولوجيا صينية.

 

- أثار هذا الإعلان، مخاوف الدول الغربية من حجب بكين هذه المعادن عن صناعاتها الدفاعية والتكنولوجية، حيث أشارت في بيانها إلى أنها سترفض منح التصاريح للشركات المرتبطة بالجيوش الأجنبية.

 

- دفع هذا الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" إلى إعلان فرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100% على الصادرات الصينية، لكن هذه التوترات هدأت فيما بعد عقب التوصل إلى اتفاق بين واشنطن وبكين يقضي بتأجيل فرض هذه القيود لمدة عام.

 

- رغم هذه التهدئة، فإن المخاوف تصاعدت لدى الدول الغربية بشأن استخدام هذه المعادن كسلاح حيوي، ولم تكن تلك المرة الأولى التي تفرض فيها بكين قيودًا على هذه الصادرات، إذ فرضت قيودًا مشابهة في أبريل، فضلًا عن محاولات أخرى في الأعوام الماضية.

 

 

استفاقة متأخرة

 

- انتبهت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة منذ مطلع القرن الحالي إلى الهيمنة الصينية، لكنها بدأت في اتخاذ خطوات جادة مؤخرًا، ففي عام 2021، ازداد قلق واشنطن من قدرة الصين على استخدام المعادن النادرة كورقة ضغط، بعد تعطل الإمدادات وارتفاع الأسعار إثر جائحة كورونا.

 

- مولت الولايات المتحدة بشكل واسع تشييد مصانع جديدة للمعادن النادرة، لكن الصين لم تقف مكتوفة الأيدي، إذ خففت ضوابط التصدير على الشركات المحلية، ما ساهم في زيادة الإنتاج وخفض الأسعار، وأثر ذلك على أرباح المنتجين الغربيين ودفع البعض إلى التخلص من أصولهم.

 

- لم تستسلم الولايات المتحدة بشأن إعادة إحياء أعمال القطاع لديها، إذ وقعت هذا العام اتفاقيات مع عدة دول منها أوكرانيا وأستراليا لتعزيز التعاون في قطاع التعدين، فضلًا عن استحواذ واشنطن على حصص في شركات ناشئة متخصصة في المعادن النادرة.

 

- بالإضافة إلى المشاريع الإنتاجية التي يدعمها البنتاجون، وهو ما يفسر الأهمية المتزايدة لحديث الرئيس "دونالد ترامب" عن جزيرة جرينلاند، وذلك بسبب مواردها المتنوعة، والتي تشمل احتياطات من المعادن النادرة.

 

- رغم هذه الجهود، يشير "دان سترويفن"، الرئيس المشارك لأبحاث السلع العالمية في "جولدمان ساكس"، إلى أن كسر هيمنة الصين في هذا القطاع قد يستغرق عقدًا كاملًا، إذ يستغرق بناء منجم للمعادن النادرة نحو 10 أعوام، بينما تستغرق المصفاة حوالي 5 سنوات.

 

 

- فيما تشير تقديرات شركة "CRU" الاستشارية ومقرها لندن، إلى أن المناجم خارج الصين لن تلبي أكثر من 35% من الاستهلاك العالمي للمعادن النادرة في عام 2035، ما يعني أن بكين قد تستمر في إحكام قبضتها على هذا القطاع لسنوات.

 

رهان يحدد قيادة العالم

 

- تزداد الحاجة إلى هذه المعادن بوتيرة حادة نتيجة توسع استخدامها في رقائق الذكاء الاصطناعي، فتصنيع أشباه الموصلات وأنظمة التكنولوجيا المتقدمة والحوسبة الكمومية والبنية التحتية المتقدمة للاتصالات كلها تتطلب عناصر أرضية نادرة.

 

- أصبح أمن إمدادات العناصر الأرضية النادرة جزءًا لا يتجزأ من التفوق التكنولوجي والعسكري للدول، فالدولة التي ستسيطر على إمدادات هذه العناصر في المستقبل، تهيمن فعليًا على مسار التقدم التكنولوجي، وحتى إن لم يكن لها الريادة عالميًا، سيكون بيدها ورقة ضغط هامة تحقق بها أهدافها.

 

- قالت وكالة الطاقة الدولية إنه يجب مضاعفة الإنتاج العالمي من هذه المعادن 7 مرات لتلبية احتياجات قطاع الطاقة النظيفة وحده بحلول عام 2040، فضلًا عن باقي القطاعات، ما يبرز الأهمية المضاعفة في المستقبل.

 

- على تخوم هذا السباق الخفي، تبدو المعادن النادرة وكأنها الشرارة التي تعيد تشكيل خرائط النفوذ العالمي، ومن ووشي إلى واشنطن، يتجلّى صراع جديد لا يُدار بالأساطيل أو الجيوش، بل بذرات معدنٍ لا يُرى بالعين المجرّدة، لكنه قادر على قلب موازين القرن كله.

 

المصادر: أرقام– رويترز– فارمونوت (farmonaut)– ماركت سكرينر– فيجوال كابيتاليست– وول ستريت جورنال –نيويورك تايمز -بوليتيكو –سي إن إن – وكالة الطاقة الدولية– سي إن بي سي –مجلة جيوبلتيكس– فوربس

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.