نبض أرقام
03:57 م
توقيت مكة المكرمة

2025/11/25
2025/11/24

سياحة الطعام .. لماذا يدفع السائحون مئات الدولارات لدروس الطبخ ورحلات التذوّق؟

08:01 ص (بتوقيت مكة) أرقام - خاص

في مساء أحد أيام الصيف في مدينة برشلونة، كان هناك أربعة أصدقاء من الولايات المتحدة يجلسون على الطاولة في شقة صغيرة مستأجرة في حي "إل بورن".

 

 

هؤلاء الشباب، في نهاية العشرينيات من أعمارهم، جمعهم شغف واحد دفعهم لقطع كل تلك المسافة وهو الطعام، إذ جاءوا خصيصًا لتجربة المطبخ الإسباني في موطنه الأصلي، ولتحقيق هذا الهدف لم يتوجهوا إلى المطاعم السياحية المزدحمة، بل قصدوا أماكن مختلفة.

 

ففي الليلة السابقة، أثناء تناول العشاء في مطعم محلي صغير، أخبرهم النادل عن تجربة "من المطبخ إلى المائدة" مع طاهي اسمه "إغناسيو" ويدير مطعمًا عائليًا عمره أكثر من خمسين عامًا داخل أحد الأزقة القديمة.

 

وأخبرهم حينها أن الأمر ليس مجرد تذوق وتناول وجبة فقط، بل عيش تفاصيل هذا النشاط التفاعلي والذي يبدأ أحداثه في الصباح بجولة في السوق الشعبي، ثم تعلّم طهي طبقين إسبانيين تقليديين داخل مطبخ المطعم، قبل مشاركة الطاولة مع أفراد العائلة.

 

وفي اليوم التالي، وصل الأصدقاء إلى سوق "سانتا كاتيرينا" في الثامنة صباحًا حيث استقبلهم "إغناسيو" بابتسامة هادئة، وملابس بيضاء قديمة، ودفتر صغير يدوّن فيه ما يحتاجه للمطعم يوميًا.

 

واصطحب "إغناسيو" الأصدقاء بين طاولات بيع السمك والخضراوات والزيتون وهو يشرح لهم كيفية اختيار السمك الطازج، ولماذا تستخدم بعض المناطق في كتالونيا أنواعًا معينة من الزيت دون غيرها.

 

كان السوق مزدحمًا بأهالي برشلونة الحقيقيين، كبار السن الذين يتسوّقون يوميًا، ولا وجود فيه لأي أثر للسياحة المنظمة، وهو ما جعل التجربة مميزة للغاية.

 

وبعد جولة امتدت ساعة ونصف، عادوا إلى المطبخ الخلفي للمطعم حيث وقفوا حول طاولة خشبية كبيرة بينما بدأ "إغناسيو" في تعليمهم كيفية إعداد الباييا البحرية التقليدية خطوة بخطوة.

 

هذه التجربة لم تكن مجرد وصفة؛ بل قصة حياة، حيث حكى لهم كيف كان والده يطبخ هذه الوجبة للعمّال في الميناء، وكيف تغيّـر الطبق مع الزمن.

 

ومع اقتراب الظهر، جلس الأصدقاء الأربعة مع الطاهي وعائلته حول طاولة طويلة في صالة المطعم البسيطة والصغيرة حيث لم يكن هناك مناديل مطبوعة أو أدوات لامعة، فقط الطعام الذي أعدوه بكل سعادة وشغف، وزيت زيتون محلي.

 

 

ولأول مرة، شعر الشباب أنهم لا يأكلون وجبة سياحية، بل يعيشون إسبانيا كما يعيشها أهلها، وأدركوا أن مبلغ 125 دولارًا الذي دفعه كل واحد منهم لم يكن ثمن وجبة بل ثمن دخول عالم كامل خلف باب مطبخ صغير في برشلونة.

 

هذه ليست قصة نادرة، بل مثال واقعي يتكرر حول العالم، ويمثل السبب الرئيسي وراء استعداد ملايين المسافرين لدفع عشرات أو مئات الدولارات مقابل تجارب الطعام المحلية، لأنها تمنح اتصالًا حقيقيًا وثقافيًا وإنسانيًا لا توفره المطاعم التقليدية مهما ارتفع سعرها.

 

لم يعد الطعام مجرد وسيلة للبقاء بالنسبة لكثير من المسافرين، بل أصبح دافعًا رئيسيًا لاختيار الوجهة، وطريقة نشطة للتواصل مع الثقافة المحلية، وتجربة تستحق الدفع مقابلها.

 

الأصالة والاتصال بالثقافة

 

يختار كثير من السائحين دروس الطهي وجولات الطعام لأنها تمنحهم اتصالًا حقيقيًا بالحياة المحلية مثل التسوق من الأسواق الشعبية، وتعلّم وصفات عائلية، أو تذوق المنتجات في أماكن إنتاجها.

 

فعلى سبيل المثال، أعلنت منصة إير بي إن بي عن قسم كبير لتجارب الطهي، مشيرة إلى أن المضيفين حول العالم يقدمون آلاف الوصفات عبر عشرات الدول، مما يمنح المسافرين فرصة الحصول على دروس طهي يقودها مضيفون محليون، بدلًا من عروض سياحية معدّة مسبقًا.

 

وتظهر قيمة هذه الأصالة اقتصاديًا في بيانات منظمة السياحة العالمية، التي تشير إلى أن الطعام قد يشكل في بعض الوجهات أكثر من ثلث إنفاق السائح، وهو ما يفسر استثمار الوجهات والمشغلين في تجارب طعام غنية وواقعية.

 

فعلى سبيل المثال دروس الطبخ المنزلية في مدن مثل روما وبرشلونة عبر منصات مثل إير بي إن بي أو فاياتور تتراوح أسعارها بين 70 و150 دولارًا للشخص الواحد.

 

ويشمل هذا السعر جولة في السوق وتجربة طهي داخل المنزل، وهو سعر يقبله الكثيرون لأنه يمنحهم تجربة ثقافية وحياة محلية حقيقية في وقت واحد.

 

خبرة قابلة للمشاركة

 

توفر دروس الطهي وجولات التذوق أكثر من مجرد وجبة فهي تقدم مهارة أو وصفة يمكن إعادة تنفيذها في المنزل، وصورًا ومحتوى يمكن مشاركته على مواقع التواصل الاجتماعي، وتجربة غامرة بالمشاعر تدوم في الذاكرة لفترة طويلة.

 

 

وتشير الرابطة العالمية لسياحة الطعام إلى أن تجارب الطعام باتت تشمل كل شيء من جولات طعام الشارع حتى جولات في بعض أماكن تصنيع الطعام أو المشروبات بجانب دروس الطهي مع العائلات المحلية، وهو تنوّع يجعلها جذابة لشرائح مختلفة من المسافرين.

 

وتشير تقارير بحثية متعددة إلى أن سوق السياحة الغذائية يشهد نموًا قويًا عالميًا حيث قدّرت شركة آي مارك حجم السوق العالمي بحوالي 1.1 تريليون دولار أمريكي في عام 2024، مع توقع استمرار النمو القوي حتى 2030.

 

حجم السوق العالمية للسياحة الغذائية (المصدر شركة آي مارك):

السنة

الحجم المتوقع (بالتريليون دولار أمريكي)

2025

1.2

2026

1.4

2027

1.6

2028

1.9

2029

2.1

2030

2.4

 

ومن المتوقع أن ينمو هذا السوق ليصل إلى 4.2 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2033 بمعدل نمو سنوي يبلغ 14.5%.

 

وتختلف الأرقام بين الشركات البحثية لأسباب تتعلق باختلاف منهجيات حساب السوق، لكن جميعها تتفق على اتجاه واحد وهو نمو سنوي قوي وطلب متزايد على التجارب الغذائية المدفوعة.

 

تصاعد هذا النموذج تعكسه تجارب "طاولات كبار الطهاة" المدفوعة، والتي يتفاعل فيها السائحون مع طهاة مشهورين، أو جولات تذوق مترفة مصورة من قبل وسائل إعلام والتي لاقت رواجًا وتباع بأسعار مرتفعة لأنها تقدم تجربة قابلة للفخر والمشاركة.

 

قيمة مضافة تبرر السعر

 

السائح الذي يدفع في بعض الأحيان مئات الدولارات نظير تناول الطعام لا يدفع مقابل تذوقه فقط، بل مقابل خدمات أخرى تكمل هذا المشهد مثل الحجز السهل والدليل السياحي وجولة السوق وتوفير المكونات وغيرها من الخدمات التي تشملها مثل تلك الجولات.

 

 

ودعم هذه التجارب منصات مثل فاياتور وتريب أدفايزر التي نظّمت القطاع عالميًا وجعلت تقييم الجولات ومراجعتها يتمتع بالشفافية، مما خفّض من عواقب هذا النوع من السياحة وأدى لزيادة أعداد الأشخاص الراغبين في الاستمتاع بمثل هذه التجربة.

 

وتظهر أمثلة واقعية على تلك المنصات – سواء في شيانغ ماي في تايلاند، كارتاخينا في كولومبيا، أو القاهرة في مصر حيث تتراوح الأسعار المعتادة بين 50 و150 دولارًا بحسب مستوى الخدمة وما يتضمنه البرنامج اليومي.

 

وتشير التقارير إلى أن ما بين 3 و5% من السائحين يمكن تصنيفهم كـ"سائحي طعام" متخصصين، بينما نسبة أكبر بكثير من المسافرين تدمج تجارب الطعام ضمن أنشطتها، ما يسمح للشركات باستهداف الشرائح المتخصصة والزوّار العاديين في الوقت نفسه.

 

ويظل السبب الرئيسي وراء زيادة الإقبال السياحي لدروس الطهي وجولات التذوق هو تحوّل الثقافة المحلية إلى منتج يمكن أن يتعلمه الزائر، ويعيش تفاصيله، ويشاركه مع الآخرين، ويحمله معه عند عودته لموطنه.

 

ومع استمرار طلب المسافرين على تجارب أصيلة وشخصية وقابلة للمشاركة، سيظل سوق تجارب الطعام واحدًا من أسرع قطاعات السياحة نموًا وأكثرها ربحية.

 

المصادر: أرقام- آي مارك- جراند فيو ريسيرش- ستريتس ريسيرش- منظمة السياحة العالمية- وورلد فود ترافل أسوسيشين – إير بي إن بي- تريب أدفايزر- فاياتور

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.