نبض أرقام
02:39 م
توقيت مكة المكرمة

2025/11/26
2025/11/25

التسعير الفوري للأخبار: هل يتخذ المستثمرون قرارات قبل فهم المعلومات؟

08:00 ص (بتوقيت مكة) أرقام - خاص

في بيئة مالية أصبحت فيها المعلومة لها قيمة تفوق قيمة الأصول، تتسارع حركة الأخبار عبر شبكات رقمية عالية الكفاءة، لتصبح الأسواق رهن تلك الحركة المرتبطة بخوارزميات تتخذ القرار الفوري بناء على تلك الأخبار.

 

 

هذا التطور لم يعد مجرد ميزة تقنية، بل أصبح سمة هيكلية من سمات السوق المعاصر فالأخبار أصبحت اليوم لا تنتقل إلى الإنسان أولاً بل إلى الآلة.

 

وأدت أتمتة تحليل المعلومات، وتطور تقنيات قراءة النصوص، وانتشار التداول عالي التردد، إلى ظهور نمط جديد من السلوك السعري يعتمد على تفسير سريع وفي العديد من الأحيان متسرع للأخبار.

 

ففي غضون أجزاء من الثانية، يمكن لجملة مكتوبة، أو عنوان صحفي، أو حتى كلمة مفردة، أن تُترجم إلى حركة سعرية واسعة النطاق قبل أن يتمكن المتداول البشري من إكمال قراءة الخبر ناهيك عن تحليله.

 

والسؤال الجوهري الذي يطرحه هذا التحرك هو هل تتخذ الأسواق المالية قرارات واقعية وملزمة استناداً إلى معلومة لم يتم فهمها بعد؟

 

وللإجابة على هذا التساؤل يجب علينا معرفة البنية التقنية التي جعلت من تسعير الأخبار الفوري أمراً حتمياً، والأمثلة التاريخية الموثقة لتحركات سعرية سبقت الإدراك البشري للمعلومات، والآثار السلوكية والهيكلية على سيولة السوق واستقرارها.

 

كما يجب التعرف على كيفية مواجهة المشكلة عبر سياسات السوق واستراتيجيات التداول حيث إن فهم هذه الظاهرة له أهمية تتجاوز التداول نفسه، فهو يمس سلامة الأسواق، وثقة المستثمرين، وعدالة التسعير، وحتى أخلاقيات تداول المعلومات.

 

فإذا كان الإنسان في الماضي هو من يقرأ الخبر ثم يتخذ القرار، فإننا اليوم أمام زمن جديد يصبح فيه التأثير اللحظي للأخبار فورياً، بينما يأتي الفهم لاحقاً.

 

 لماذا تعتبر الأخبار الفورية حاسمة؟

 

في الأسواق المالية الحديثة، لم تعد الأخبار مجرد مادة إعلامية تُقرأ وتُناقش؛ بل أصبحت بيانات تشغيلية تتفاعل معها أنظمة التداول بشكل تلقائي وفوري.

 

وباتت السرعة في استقبال الأخبار ومعالجتها وتنفيذ قرارات التداول تمثل فارقاً تنافسياً حاسماً، حيث أصبح التأخر في إدراك الخبر ولو بثانية واحدة كافياً لتفويت فرصة أو تكبد خسارة.

 

 

وأدى التطور التكنولوجي في مجال تحليل اللغة الطبيعية إلى ظهور أنظمة قادرة على قراءة العناوين والنصوص الإخبارية وتحويلها فوراً إلى إشارات تداول، مما يسمح للمنصات المؤتمتة باتخاذ قرارات سريعة ترسم حركة الأسعار في السوق.

 

في الوقت ذاته، أدى انتشار التداول عالي التردد إلى خلق بيئة تترجم فيها تأثير أي معلومة إلى حركة سعرية لحظية، حيث تتفاعل الخوارزميات مع البيانات كأوامر مباشرة للتنفيذ.

 

ووثّقت العديد من الدراسات الحكومية والأكاديمية، منذ أكثر من عقد، الدور المتصاعد لتحليل الأخبار آلياً في دعم عمليات التداول الفورية ودمجها في آليات التنفيذ المباشر.

 

وتشير التقديرات الحديثة المستندة إلى تقارير بنك التسويات الدولية  مثل بنك فور إنترناشونال سيتلمنتس إلى أن التداول عالي التردد يشكل ما يقارب نصف حجم التداول في أسواق الأسهم الأمريكية، مما يجعل سلوك هذه الأنظمة قوة حاسمة في تشكيل ديناميكيات الأسعار اللحظية.

 

ويقدر تقرير من موردر انتلجينس سوق التداول الخوارزمي بالسوق الأمريكي بنحو  28.44 مليار دولار أمريكي بحلول 2030 مقابل 18.73 مليار دولار في 2025.

 

في حين تذكر بعض التقارير الحديثة أن إجمالي الأصول المُدارة عالمياً في الأسواق بلغت نحو 147 تريليون دولار أمريكي بحلول منتصف 2025، معظم هذه الأصول تدار من قبل مؤسسات تعتمد على الخوارزميات.

 

أمثلة حقيقية.. تحركات سعرية سبقت الفهم البشري

 

عبر تاريخ الأسواق الحديثة كان هناك العديد من الحوادث التي تحركت فيها الأسعار قبل أن يفهم المتداولون البشر طبيعة ما يجري.

 

لعل الحادثة الأكثر شهرة في هذا السياق هي اختراق حساب وكالة أسوشييتد برس في 23 أبريل عام 2013، حين نشرت تغريدة عبر حسابها المخترق زعمت وقوع انفجار داخل البيت الأبيض وإصابة الرئيس باراك أوباما.

 

لم يستغرق الأمر سوى ثوانٍ حتى شهد السوق ردة فعل دراماتيكية، مع هبوط مؤشري إس أند بي 500 وداو جونز حيث لم يكن هذا التفاعل صادراً عن خوف بشري مثلاً أو قراءة تحليلية، بل جاء نتيجة آلية بحتة لخوارزميات.

 

 

كانت تلك الخوارزميات مبرمجة على التقاط المفردات الحساسة مثل كلمات "انفجار"، "الرئيس"، "البيت الأبيض"، وما إن تم التأكد من أن الخبر مختلق حتى ارتدت المؤشرات سريعاً إلى وضعها الطبيعي، مما أكد أن رد الفعل الفوري كان آلياً أكثر منه إدراكاً عقلانياً.

 

وتقف حادثة الانهيار الخاطف في السادس من مايو 2010 كواحدة من أكثر اللحظات إيضاحاً للهشاشة السلوكية للأنظمة المؤتمتة، ففي دقائق قليلة شهدت البورصات الأمريكية واحدة من أعنف اضطراباتها.

 

وسجلت أسعار الأسهم حينها هبوطاً حاداً ثم ارتداداً لاحقاً يكاد يكون بنفس الدرجة حيث كشف تقرير عن هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية وهيئة تداول السلع الآجلة أن ما حدث لم يكن نتيجة خبر أو حدث اقتصادي، بل بسبب تسلسل تفاعلات بين خوارزميات بيع آلية.

 

أما في 11 مارس 2020، مع إعلان منظمة الصحة العالمية رسمياً تحول فيروس كورونا إلى جائحة عالمية، فقد شهدت الأسواق موجة بيع كبيرة استجابةً فورية لكلمة جائحة كما لو كانت تلك الكلمة أمر تشغيلي للبيع داخل أنظمة التداول.

 

 وبدأت حينها المؤشرات بالانخفاض بشكل متسارع، وكان مؤشر إس أند بي 500 من أبرزها، حيث سجّل تراجعاً ملحوظاً في اليوم ذاته، في رد فعل لم ينتظر حتى يقرأ المتداولون التفاصيل أو يستوعبوا التداعيات؛ فقد كانت النماذج الخوارزمية قد سبقتهم في التقدير والتنفيذ.

 

وتكشف هذه الأمثلة الثلاثة جميعها آلية مشتركة لا تخطئها العين، وهي خبر يصل إلى النظام ثم قراءة آلية دون خلفية تفسيرية يتبعه قرار تداول آلي في جزء من الثانية يتمثل في حركة سعرية أسرع من قدرة البشر على استيعاب ما حدث.

 

العواقب.. ومدى تأثر الأسواق

 

يترك التفاعل الفوري مع الأخبار قبل استيعابها آثاراً واضحة على سلوك الأسواق وعلى جودة عملية التسعير ذاتها، ونتيجة لذلك، تتولد أنماط من التقلب وعدم الاستقرار تظهر بوضوح عند اللحظات المفصلية وهي تلك اللحظات التي تكون فيها سرعة التنفيذ أعلى من سرعة الفهم.

 

في الظروف العادية، يبدو التداول الآلي كعامل تعزيز للسيولة؛ فهو يخلق فروق أسعار ضيقة وينتج عمقاً سوقياً ظاهرياً، ولكن عند ظهور خبر مفاجئ أو غير متوقع، تتغير الصورة سريعاً.

 

أبرز مظاهر تلك الصورة هو انسحاب الخوارزميات من السوق لتجنب المخاطر، واتساع الهوامش السعرية بشكل حاد، وتبدأ الحركة في أخذ طابع عنيف وغير متوازن.

 

 

وهكذا تصبح السيولة، التي كانت تبدو مستقرة، هشة عندما تكون الحاجة إليها أكبر، مما يجعل السوق مكشوفاً أمام موجات تذبذب قد تكون مبالغاً فيها.

 

ففي مثال اختراق حساب وكالة أسوشييتد برس، تصرفت الخوارزميات كما لو أنها تتعامل مع حدث إرهابي حقيقي، فدفعت الأسواق إلى الهبوط، لتكتشف لاحقاً أنها استجابت لكذبة مؤلفة خلال ثوانٍ.

 

وحتى دون وجود قصد تضليل، يمكن للغموض اللغوي أو الأسلوب الساخر أو اختلاف السياق أو الكلمات ذات الدلالات المتعددة أن يخدع الخوارزميات، فتستجيب وفق تفسير حرفي، لا وفق فهم تحليلي.

 

وتزداد الخطورة حين تتحول الحركة الفردية إلى حركة جماعية بفعل تفاعلات الخوارزميات مع بعضها البعض، حيث يؤدي تنفيذ آلي واحد إلى سلسلة تنفيذية متلاحقة، فتتضخم الحركة الصغيرة إلى موجة سعرية هادرة.

 

وهذه الظاهرة اتضحت في الانهيار الخاطف عام 2010، عندما أثار تفاعل خوارزمية واحدة استجابة أخرى، ثم ثالثة ورابعة، حتى أخذت السوق في الانهيار وكأنها في حالة ذعر صناعي وليس ذعراً بشرياً.

 

ورغم أن الأسواق كثيراً ما تعود إلى مستوياتها الطبيعية بسرعة بعد هذه الارتجاجات السعرية، إلا أن تكلفة تلك اللحظات قد تكون قاسية على بعض المشاركين فيها، خاصة المتداولين البشريين الذين لا يتمتعون بسرعة الآلة.

 

ويبدو أن التعامل مع عصر التسعير اللحظي للأخبار لا يتطلب رفض التكنولوجيا، بل فهم منطقها وحدودها، في حين تقع مسؤولية لا تقل أهمية على عاتق المستثمرين ومديري المحافظ أنفسهم.

 

فالتريث قبل التفاعل مع خبر سريع، مهما بدا حاسماً، قد يحمي من الوقوع في مصيدة تشويش لحظي أو إشارات خاطئة، فالخبر السريع ليس بالضرورة خبراً مفهوماً، والمعلومة ليست قيمة إلا بقدر قدرتنا على تفسيرها وتقييمها قبل تحويلها إلى قرار مالي.

 

المصادر: أرقام- رويترز- هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية- هيئة تداول السلع الآجلة- بنك التسويات الدولية- منظمة الصحة العالمية- موردر انتلجينس

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.