في مطلع عام 2021، واجهت شركات كبرى حول العالم أزمة شملت توقف العديد من مصانع السيارات بأكملها عن الإنتاج، فيما خرج آلاف العمال في إجازات إجبارية، كما منيت تلك الشركات بخسائر كبيرة.

سبب تلك الأزمة لم يكن وباءً جديدًا، ولا نقصًا في المواد الخام، بل مجرد شريحة إلكترونية لا يتجاوز حجمها حجم ظفر الإصبع.
في تلك الفترة، اضطرت شركات سيارات في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان مثل فورد وتويوتا وفولكس فاجن لإغلاق خطوط إنتاج كاملة بعد توقف إمدادات الرقائق الدقيقة المستخدمة في أنظمة الفرامل، والملاحة، والحساسات، والتحكم في المحرك.
توقف تلك الشرائح الصغيرة كشف عن هشاشة غير متوقعة، فالعالم كله يعتمد على عدد محدود للغاية من المصانع الموجودة في دول بعينها، ويكفي عطل واحد في أحد تلك المصانع لشل صناعة بحجم تريليونات الدولارات.
فكل شيء من الهواتف والطائرات المسيّرة والرادارات والمصانع الذكية، إلى شبكات الكهرباء وأنظمة إدارة الغذاء أصبح مرتبطًا بصناعة الرقائق.
هذا الاعتماد الهائل خلق واقعًا دوليًا جديدًا، وهو أن الدول التي تمتلك القدرة على تصنيع الرقائق أصبحت تتحكم فعليًا في إيقاع الاقتصاد العالمي، بينما تواجه الدول الأخرى خطر التراجع مهما كانت ثرواتها الطبيعية.
ومع تصاعد التوتر بين القوى الكبرى، لم يعد السؤال: من الذي يستطيع إنتاج الطعام؟ بل أصبح: من الذي يستطيع إنتاج التكنولوجيا التي تتحكم في إنتاج الطعام؟
لماذا تشكّل الرقائق أولوية الآن؟
تبدو الرقائق اليوم أكثر أولوية مع تحول صناعة أشباه الموصلات إلى واحدة من أكبر الصناعات العالمية من حيث القيمة والأثر.
فبحسب بيانات مؤسسة غارتنر، بلغت إيرادات القطاع نحو 655.9 مليار دولار أمريكي خلال عام 2024، وهو رقم يعكس تسارعًا واضحًا في الطلب العالمي على الشرائح المستخدمة في قطاعات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة، والاتصالات، والصناعات المتقدمة.
هذا الحجم الاقتصادي يضع القطاع ضمن أكبر سلاسل القيمة في العالم، ويجعل الحفاظ على قدرته الإنتاجية هدفًا استراتيجيًّا للدول التي تعتمد اقتصاداتها بشكل مباشر أو غير مباشر على استقرار تدفق هذه المكوّنات الحيوية.

ويشير تقرير متخصص إلى أن القدرة الإنتاجية العالمية، المقاسة بعدد الألواح الدائرية الرقيقة من السليكون (الويفر) وتصنع منها آلاف الرقائق في وقت واحد، من المتوقع أن تصل إلى 33.7 مليون ويفر شهريًا بحلول 2025، بزيادة تتراوح بين 6 و7%.
وعلى الرغم من أن هذا التوسع يبدو كبيرًا، فإن توزيع هذه القدرة يظل مختلاً بشدة؛ إذ تتركز معظم قدرات التصنيع المتقدمة في مناطق محددة، أبرزها تايوان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، بينما تحتفظ الصين بحصة ضخمة من طاقة التصنيع التقليدية.
ومعظم هذه القدرة موجودة في الصين وتايوان وكوريا الجنوبية، ووفقًا لبيانات حديثة تهيمن آسيا وحدها على حوالي 75% من طاقة التصنيع العالمية، ما يجعلها محورًا رئيسيًا لسلاسل الإمداد لهذه السلعة المهمة.
|
تركّز صناعة الرقائق المتقدمة حسب الدول والمناطق (بحسب موقع تريندفورس): |
|
|
الدولة / المنطقة |
الحصة من الإنتاج العالمي (حسب بيانات 2023) |
|
تايوان |
%46 |
|
الصين |
%26 |
|
كوريا الجنوبية |
%12 |
|
الولايات المتحدة |
%6 |
|
دول/مناطق أخرى (بما فيها اليابان، وأوروبا) |
%10-15 |
هذا التركّز يظهر بوضوح في دور تايوان التي تُعد اللاعب الأكبر؛ إذ تشير البيانات الرسمية إلى أن قيمة إنتاج أشباه الموصلات لديها خلال عام 2024 تجاوزت 152 مليار دولار أمريكي، مع سيطرة شركة تي إس إم سي على التقنيات الأكثر تقدمًا في هذا القطاع.
هذا التركيز يجعل الصناعة عرضة لمخاطر سياسية واستراتيجية قد تهدد سلسلة التوريد العالمية بأكملها إذا تعرّضت أي من هذه المناطق لاضطراب سياسي أو عسكري أو حتى كارثة طبيعية.

هذا الوضع المعقد يمنح الرقائق مكانة تتجاوز مجرد سلعة صناعية مهمة، لتصبح عنصرًا أساسيًا من عناصر الأمن القومي والاقتصادي للدول.
فكل القطاعات التي تحرك اقتصاد اليوم من السيارات الكهربائية إلى الهواتف، ومن الحوسبة السحابية إلى البنية التحتية للطاقة، ومن الروبوتات إلى المعدات الصناعية والزراعية تعتمد بشكل كلي على الشرائح الإلكترونية.
المقارنة مع إنتاج الغذاء
رغم أن المقارنة بين الغذاء والرقائق تبدو غير متوازنة بطبيعتها، الغذاء يرتبط بحاجات وجودية مباشرة والرقائق مرتبطة بالبنية الاقتصادية والتقنية، فإن واقع العقد الأخير أظهر أن الرقائق أصبحت تمس قطاعات تتجاوز الاقتصاد لتصل إلى الصحة، والطب، والطاقة.
وبالتالي فإن انقطاعها قد ينعكس بصورة غير مباشرة على جودة حياة الإنسان نفسها.
فمن الناحية الكمية، يوفّر العالم طعامًا بكميات ضخمة؛ إذ تُظهر بيانات منظمة الأغذية والزراعة (فاو) أن الإنتاج العالمي من الحبوب يقترب من 3 مليارات طن سنويًا، وهو مستوى يكفي نظريًا لإطعام سكان العالم.
لكن التحدي في الغذاء لا يكمن في القدرة على إنتاجه بقدر ما يكمن في توزيعه، وتأمين وصوله، وضمان استدامة البنية اللوجستية التي تتيح انتقاله من الحقل إلى المستهلك، أي أن مشكلة الغذاء مشكلة كمية وتوزيعية.
في المقابل، مشكلة الرقائق ليست كمية بقدر ما هي مسألة تقنية واستراتيجية؛ إذ يمكن لدولة أن تُنتج فائضًا غذائيًا لكنها تظل عاجزة عن تصنيع شريحة متقدمة واحدة.
ويدفع هذا الأمر العديد من الاقتصادات الكبرى لضخ استثمارات هائلة لجذب وإنشاء مصانع للرقائق باعتبارها بنية تحتية سيادية لا يقل تأثيرها عن البنية الغذائية، إذ تتزايد حدّة حرب الرقائق حول العالم.
وفرضت الولايات المتحدة قيودًا صارمة على وصول الصين للتقنيات المتقدمة، خاصة الشرائح أقل من 10 نانومترات، وشملت هذه القيود منع الشركات الأميركية من تصدير المعدات والبرمجيات للصين.
كما تضمنت أيضًا، الضغط على هولندا واليابان لتقييد وصول شركتي آي إس إم إل ونيكون -هما مزودان أساسيان للمعدات التي تحتاج إليها مصانع الرقائق- إلى السوق الصينية، وهو ما اعتبرته بكين محاولة لعرقلة صعودها الصناعي وكذلك العسكري.
هذا الصراع جعل الرقائق جزءًا من استراتيجية ردع جيوسياسي، وليس مجرد صناعة تجارية.

وشهدت السنوات الثلاث الماضية طفرة غير مسبوقة في دعم الحكومات للرقائق، حيث تبنت الولايات المتحدة "قانون الرقائق والعلوم" الذي يخصص أكثر من 50 مليار دولار لتحفيز بناء مصانع متقدمة.
كما أعلنت أوروبا "خطة الرقائق الأوروبية" بهدف مضاعفة حصتها من السوق العالمية إلى 20%، أما الصين فترصد عشرات المليارات لصندوق وطني لتسريع اللحاق بالغرب.
هذا التسابق يدل على أن الرقائق أصبحت تعامل باعتبارها "صناعة أمن قومي"، تمامًا مثل الغذاء والطاقة.
وقد أثبتت أزمة الرقائق بين 2020 و2022 حساسية هذا الاعتماد؛ فقد أدى نقص الشرائح إلى تباطؤ إنتاج السيارات عالميًا، وتعطل خطوط التصنيع ذات الصلة بقطاعات استراتيجية مثل الطاقة والإلكترونيات، وارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية.
وعلى الجانب الغذائي، لا تزال الدول تعمل على تعزيز إنتاجها المحلي وضمان سلاسل توريد مستقرة، لكنها تعتمد في ذلك على أنظمة زراعية حديثة تعتمد هي نفسها على الشرائح الإلكترونية مثل الزراعة الدقيقة، وأجهزة الاستشعار، وأنظمة الري الذكية.
وهنا يظهر الرابط بين الجانبين: رقاقة واحدة مفقودة قادرة على تعطيل نظام ري ذكي أو مستودع تبريد غذائي بالكامل، ما يعني أن التقنيات التي تُستخدم لحماية الأمن الغذائي تعتمد بدورها على الأمن التقني المرتبط بالرقائق.
بهذا يصبح واضحًا أن أهمية الرقائق لا تُقارن بالغذاء من منظور الحاجة الإنسانية المباشرة، لكنها أصبحت عنصرًا حاكمًا في قدرة الدول على تشغيل أنظمتها الاقتصادية والطبية والزراعية.
أين الأولوية؟
سؤال أيّهما أهمّ إنتاج الرقائق أم إنتاج الطعام؟ لا يملك إجابة واحدة عامة، فمن منظور بقاء الإنسان فالأولوية القصوى هي الأمن الغذائي والتوافر الغذائي العادل.
لكن من منظور استمرارية الصناعة، والأمن الوطني، والاقتصاد الحديث، فقد صارت القدرة على إنتاج الرقائق ضرورة استراتيجية لا تقل أهمية، إذ إن تعطّل الرقائق يعرقل الاقتصادات بسرعة فائقة ويؤثر على الأمن والبنى التحتية الحيوية.
الحلّ العملي الذي تفرضه الطبيعة المعقّدة للعالم اليوم هو التوازن، فالدول تحتاج إلى استراتيجيات مزدوجة تعمل على تأمين منظومات غذائية محلية وإقليمية مرنة، وفي الوقت نفسه بناء قدرات تكنولوجية وتصنيعية في الرقائق أو تنويع مصادرها.
فالاستثمار في الزراعة المقاومة للتقلبات والمعززة بالتكنولوجيا المحلية، إلى جانب دعم التصنيع المحلي أو المتنوّع لشركات الرقائق، هو السبيل لتقليل المخاطر الثنائية.
المصادر: أرقام- غارتنر- وكالة رويترز- رابطة صناعة أشباه الموصلات (SIA)- منظّمة الأغذية والزراعة- وكالة إيكوفين- ورلد جرين- سي إن بي سي
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: