منذ أن تاجر الإنسان بصدفة لامعة مقابل حفنة حبوب، وحتى لحظة نرفع فيها هواتفنا لندفع رقمياً بلا أن نلمس ورقة واحدة… ظلّ المال رفيقاً ملازماً لمسيرة البشر، يغيّر شكلهم واقتصاداتهم وحياتهم اليومية.
تطوّر من كنوز الطبيعة إلى معادن مختومة، ومن جلود الحيوانات إلى أوراق تنمو على الأشجار، وصولاً إلى شيفرات رقمية تُستخرج من قلب الخوارزميات.
قصة المال ليست مجرد تاريخ للأرقام، بل حكاية طويلة عن الثقة والسلطة والطموح—وحيلة الإنسان الدائمة للبحث عن قيمة يتفق الجميع على أنها تستحق الدفع.

أصداف الكاوري.. وأشياء أخرى من الطبيعة
كانت بعض أقدم العملات مجرد عناصر مأخوذة من الطبيعة. ومن أبرز الأمثلة أصداف الكاوري، التي استُخدمت كعملة منذ نحو عام 1200 قبل الميلاد.
ورغم أنها تبدو اختيارًا عشوائيًا من الطبيعة، فإن لها مزايا مهمة: حجمها متقارب، صغيرة، متينة، وسهلة الحمل.
ومع توسّع طرق التجارة، أصبحت هذه الأصداف مقبولة حتى في بعض الدول الأوروبية.
كما استخدم السكان الأصليون في أمريكا الشمالية الوَمبوم، وهي خرزات أنبوبية مصنوعة من الأصداف، كوسيلة للدفع.
وفي جزر فيجي، كانت أسنان الحيتان تستخدم كعملة.
أما سكان جزيرة ياب—الواقعة اليوم ضمن ميكرونيزيا—فنحتوا أقراصًا ضخمة من الحجر الجيري تحولت إلى عملة محلية ظلّت جزءاً من ثقافتهم حتى اليوم.
التزوير.. جريمة قديمة قدم المال
ظهر التزوير منذ ظهرت النقود نفسها، حتى الوَمبوم لم يَسلم من المزوّرين. ولأن هذه الجريمة تهدد الاقتصادات، فقد واجه المزورون عبر التاريخ عقوبات قاسية. ففي الصين خلال القرن الرابع عشر، حَمَلَت بعض الأوراق النقدية تحذيراً صريحاً بأن التزوير يعاقَب بالقطع.
وفي إنجلترا كان المزوّرون يُحرَقون حتى الموت. أما في المستعمرات الأمريكية، فكان الإعدام نهاية كل من يثبت تورطه في هذه الجريمة.
ولمواجهة هذه الظاهرة، ظهرت أساليب مبتكرة. فقد تعمّد بنجامين فرانكلين—الذي كان يمتلك مطبعة للنقود—تعمّد كتابة كلمة Pennsylvania بشكل خاطئ في الأوراق النقدية، لأنه توقع أن يقوم المزوّرون “بتصحيح” الخطأ فيُكشف أمرهم.
أما اليوم، فتطوّرت الإجراءات المضادة للتزوير بشكل كبير. فمثلاً، يحمل الدولار من فئة 20—أكثر العملات تزويرًا في الولايات المتحدة—علامات بارزة، وخيطًا أمنيًا، وصورة مائية لا تظهر إلا عند تعريض الورقة للضوء.
وفي المقابل، تراجعت العقوبات؛ إذ تبلغ العقوبة القصوى للتزوير في الولايات المتحدة اليوم 20 عامًا سجناً.
العملات المعدنية
بدأ استخدام المعادن كوسيلة للدفع قبل عام 2000 قبل الميلاد في بابل، لكن إصدار عملات موحدة ومختومة رسميًا يُرجّح أنه بدأ في القرن السابع قبل الميلاد.
ويعتقد كثير من المؤرخين أن مملكة ليديا—في تركيا الحالية—أصدرت أول عملات منظمة في عهد الملك ألياتيس (610–560 ق.م)، وكانت مصنوعة من مادة الإلكتروم، وهو خليط طبيعي من الذهب والفضة. جاء شكلها بيضوياً أشبه بحبوب الفول، وحملت رمز المملكة: الأسد.
وفي عهد ابنه الشهير كرويسوس، جرى إصلاح شامل للنظام النقدي، حيث أصدر عملات ذهبية وأخرى فضية نقية، وانتشرت هذه العملات بعدها في أنحاء العالم القديم.
العملة الجلدية
في القرن السادس قبل الميلاد، اتُّخذت الجلود الحيوانية كوسيلة للدفع. وتشير روايات إلى أن روما القديمة استخدمت هذا النوع من المال، كما ظهر في قرطاج وفرنسا، ويُقال إن روسيا استخدمته حتى عهد القيصر بطرس الأكبر (1682–1725 ميلادية).
أما في الصين، فابتكر الإمبراطور وودي عملة فريدة من جلود الغزلان البيضاء النادرة في قصره، مزينة بزخارف دقيقة. وعلى الرغم من اختفاء العملة الجلدية، يعتقد البعض أنها أصل كلمة buck المستخدمة اليوم كمرادف لكلمة “دولار”.
الأوراق النقدية
لمّا كان الورق اختراعًا صينيًا، فمن الطبيعي أن يكون الصينيون أول من ابتكر العملة الورقية.
ويُعتقد أن هذا التطور حدث في عهد الإمبراطور زينزونغ (997–1022 ميلادية). كانت تلك الأوراق مصنوعة من لحاء شجر التوت، ولذلك يمكن القول إن المال كان “ينمو على الأشجار” بالفعل.
وبحلول القرنين 18 و19، انتشر استخدام الورق النقدي في أنحاء أخرى من العالم، لكنه لم يكن “مالاً” بالمعنى الحقيقي، بل سندات وعد بالدفع مقابل كمية محددة من الذهب أو الفضة. ولعب هذا دورًا جوهريًا في نشأة البنوك الحديثة.

معيار الذهب
أثارت العملة الورقية مخاوف عديدة، لكونها لا تمتلك قيمة ذاتية، إذ يمكن للحكومات إصدارها بلا حدود، مما يعرضها للانهيار.
وللتعامل مع هذا، اعتمدت بريطانيا عام 1821 معيار الذهب، بحيث تُربط قيمة العملة بوزن محدد من الذهب، ما عزز الثقة بالتجارة الدولية ومنع الإفراط في طباعة النقود.
وسرعان ما تبعت دول أخرى مثل ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة. لكن لهذا النظام نقاط ضعف، أبرزها أنه يقيد قدرة الدول على مواجهة الأزمات الاقتصادية العالمية.
وبعد الكساد العظيم (1929–1939)، بدأت الدول في التخلي عنه تدريجياً، وبحلول السبعينيات لم يعد الذهب مرتبطًا بأي عملة.
ومنذ ذلك الوقت ظهرت حالات تضخم مفرط، أبرزها زيمبابوي في أوائل الألفية، حين أصدرت الحكومة ورقة نقدية بقيمة 100 تريليون دولار، وكان ثمنها لا يتجاوز رغيف خبز.
بطاقات الائتمان
رغم أن مفهوم الائتمان قديم، فإن أول بطاقة ائتمان عالمية لم تظهر إلا عام 1950، حين أسس الأمريكيان رالف شنايدر وفرانك مكنامارا بطاقة "داينرز كلوب". وسرعان ما ظهرت بطاقات أخرى، وأطلقت شركة أمريكان إكسبريس أول بطاقة بلاستيكية عام 1959.
وكانت شركة "آي بي إم" وراء ابتكار الشريط المغناطيسي الذي ظهر في الستينيات واحتوى على بيانات الحساب، ما ألغى حاجة المتاجر للاتصال الهاتفي للحصول على الموافقة.
وفي التسعينيات، زوّدت البطاقات بشريحة إلكترونية تعزز الأمان بتشفير البيانات.
في البداية، كان يجب على المستخدمين سداد كامل الرصيد نهاية الشهر. لكن لاحقًا سمحت أمريكان إكسبريس بحمل الرصيد مقابل فائدة، وسرعان ما تبعتها الشركات الأخرى.
وبحلول عام 2017، تجاوزت ديون بطاقات الائتمان لدى الأمريكيين تريليون دولار.

البيتكوين
ظهرت البيتكوين عام 2009، وهي عملة رقمية ابتكرها—أو ابتكرها فريق—شخص مجهول يحمل الاسم المستعار ساتوشي ناكاموتو.
لا تُصدرها أي جهة حكومية ولا تخضع لتنظيم مركزي، بل تعتمد على شبكة لامركزية من الحواسيب التي تتحقق من المعاملات.
هوية المستخدمين مجهولة، ولا يُعرفون إلا من خلال معرف المحفظة الرقمية. وتتحدد قيمة البيتكوين بالمزاد وفق آليات شبيهة بسوق الأسهم.
يتم “إنتاج” البيتكوين عبر عملية تُعرف بـ التعدين، وهي سباق بين أجهزة الحاسوب لحل مسائل رياضية معقدة.
وتتطلب هذه العملية نحو سبعة تريليونات محاولة لحل مسألة واحدة في المتوسط. يفوز الجهاز الذي ينجح أولاً، ويحصل صاحبه على كمية جديدة من البيتكوين، ما يعزز أمان النظام.
والحد الأقصى لإجمالي وحدات البيتكوين هو 21 مليوناً، وقد تم تعدين أكثر من 17 مليونًا منها حتى الآن.
المصدر: بريتانيكا
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: