نبض أرقام
12:56 م
توقيت مكة المكرمة

2025/12/04
2025/12/03

صعود سياحة المزارع .. لماذا يدفع السائحون الأموال لحصاد الفاكهة والطبخ؟

08:02 ص (بتوقيت مكة) أرقام - خاص

عند مشارف مدينة فالنسيا الإسبانية، توقفت حافلة صغيرة تحمل 27 سائحًا من دول متعددة أمام مزرعة عائلية تُدعى فينكا مونتيسول، إحدى أبرز مزارع البرتقال في المنطقة.



لم يكن هؤلاء السياح في رحلة تقليدية لزيارة المعالم أو تناول الطعام في المطاعم؛ بل جاءوا ليقضوا يومًا كاملًا في حصاد البرتقال، وتعلّم وصفات محلية مباشرة من أصحاب المزرعة.


عند وصولهم، استقبلهم المزارع "خوان توريس"، والذي تجاوز عمره 35 عامًا ويدير المزرعة، وبدأ معهم جولة في المزرعة بشرح بسيط عن تاريخها الممتد لأكثر من 70 عامًا.


عقب ذلك أخذهم في نزهة داخل الحقول المليئة بأشجار البرتقال الناضجة، موضحًا كيفية معرفة الثمار الجاهزة للحصاد، والفروق بين الأصناف المختلفة التي تشتهر بها المنطقة مثل فالنسيا أورانج ونابيلينا، وعلمهم طريقة استخدام الأدوات التقليدية لقطع الثمار.


عملية الحصاد لاقت استحسانًا واسعًا من السائحين، مما دفع إحدى السائحات الألمانيات لقول: "لم أشعر يومًا بقيمة الطعم الحقيقي للبرتقال مثل اليوم"، بينما عبّـر زوجان أميركيان عن حماسهما لحصاد محصول البرتقال، مؤكدين رغبتهم في العودة مجددًا لتكرار التجربة.


وأشار "خوان" مبتسمًا إلى أن ما يعيشه اليوم لم يكن يتخيّله قبل سنوات، فهو يحصل الآن على أموال من السائحين مقابل السماح لهم بجني ثمار المزرعة، بدلًا من أن يدفع هو تكاليف العمالة لجمع المحصول كما جرت العادة.


وفي نهاية اليوم، اشترى معظم الزوار منتجات المزرعة مثل العسل والمربى وزيت الزيتون، ثم جلس الجميع في استراحة تحت ظل أشجار الزيتون حيث ساعدوا زوجة "خوان" في إعداد طبق إسباني تقليدي وتناولوا عصير البرتقال من الثمار التي قطفوها بأنفسهم قبل وقت قصير.


هذه القصة تعكس اتجاهًا عالميًا يتصاعد بسرعة، وهو رغبة المسافرين في الابتعاد عن التجارب التقليدية والمعلّبة، والبحث بدلًا من ذلك عن لحظات مختلفة يعيشونها ويمارسونها مع الأرض والطعام والمجتمعات الصغيرة.


اتجاه متنامٍ


في السنوات الأخيرة، ظهر اتجاه سياحي جديد يزداد انتشارًا حول العالم وهو سياحة المزارع أو السياحة الزراعية حيث لم تعد الرحلات تقتصر على الفنادق والطبيعة والمطاعم؛ بل أصبح المسافرون يبحثون عن تجارب مختلفة.


يسعون خلالها إلى العودة للجذور، سواء من خلال حصاد الفاكهة بأنفسهم، أو تعلم الطهي باستخدام مكونات مزروعة محليًا، أو قضاء يوم كامل في مزرعة عاملة.


هذا التحول لم يحدث صدفة، بل جاء نتيجة مجموعة من العوامل مثل رغبة العائلات في الترابط عبر أنشطة مفيدة، وحرص الكثيرين على فهم مصدر طعامهم.



وبالنسبة للمزارعين، أصبحت هذه التجارب مصدر دخل جديد يساعدهم على الاستدامة في ظل تقلبات أسعار المنتجات الزراعية، بل ويوفرون في العديد من الأحيان تكاليف جني المحصول.


وتُظهر بيانات صادرة عن منظمة السياحة العالمية أن الطلب على التجارب "غير التجارية" ارتفع بنسبة 20% بين 2019 و2023، مع ازدياد اهتمام المسافرين بأنشطة مثل حصاد العنب، حلب الأبقار، أو خبز الخبز الريفي.


في الولايات المتحدة، تشير دراسات من جامعة كورنيل إلى أن 70% من الزوار الذين يشاركون في أنشطة المزارع يفعلون ذلك بحثًا عن الهدوء وتجربة حياة أبسط.


كما تُظهر منصة إير بي آند بي إكسبيرينسز أن تجارب الطهي مع المزارعين ارتفع حجزها بنسبة 35% في 2024، وهو نمو يعكس تعطش المسافرين للتعلم بدل المشاهدة فقط.


على سبيل المثال، في إيطاليا، يقدم المزارع لوكا بيانكي تجارب طهي تعتمد على مكونات مزروعة في مزرعته، هذه التجربة أصبحت من أعلى التجارب تقييمًا في منطقة توسكانا.


وفي اليابان، يشارك زوار مقاطعة ناغانو في تجربة "حصاد التفاح وشواء الريزن"، وهي تجربة جذبت آلاف السياح بعد انتشارها على مواقع التواصل.


وتؤكد عدة دراسات أن العائلات تمثل أكبر شريحة من زوار المزارع، حيث يختار الآباء هذه الرحلات لتعليم أطفالهم مصدر الطعام وفهم الطبيعة.


القطاع يلاقي رواجًا لدى المزارعين


لقد تحوّلت المزارع في كثير من المناطق من كونها تعتمد على بيع المحاصيل فقط، إلى مراكز ترفيهية للسائحين تشمل أنشطة متعددة من حصاد الفاكهة إلى طبخ وجبات محضّرة من منتجات المزرعة بحيث أصبح استقبال السياح جزءًا من دورة الإنتاج والدخل.


هذا التحوّل يوفر للمزارعين إمكانات جديدة للاستقرار المالي ويخفف من الاعتماد على أسعار السوق المتقلبة أو المحاصيل الموسمية التي قد تتأثر بالجفاف أو التكاليف المرتفعة.


وبحسب بيانات وزارة الزراعة الأمريكية فقد تضاعفت إيرادات سياحة المزارع أربع مرات خلال عقد واحد، لتصل إلى 1.1 مليار دولار أمريكي في 2022.



وفي فرنسا، تشير بيانات وزارة الزراعة الفرنسية إلى أن أكثر من 30 ألف مزرعة تقدّم حاليًا خدمات سياحية تشمل جولات في الحقول، حصاد الفواكه، إقامة ريفية، وورشًا تعليمية.


ومع انتشار ونجاح نموذج “ازرع واقطف وادفع"، حيث يزور الزوار المزارع ويحصدون الفاكهة بأنفسهم ثم يدفعون لقاء ذلك، تُشير التقارير إلى أن مزرعة شيري هيلز فارم في كندا تحقق ما بين 50–60% من دخلها السنوي من حصاد الكرز الذي يقوم به الزوار.


أما في كوريا الجنوبية، فالمزارع المتخصصة في حصاد الفراولة تستقبل أكثر من مليون زائر سنويًا وفق بيانات وزارة الزراعة الكورية.


إلى جانب ذلك، ظهر نموذج "من المزرعة إلى الطاولة" كرافد دخل مهم، ففي أستراليا يقدّم المزارع والطاهي "ديفيد جونسون" تجارب طهي تبدأ مع حصاد الخضراوات وتنتهي بوجبة معدّة من منتجات المزرعة وتبلغ تكلفة المشاركة 120 دولارًا أمريكيًا للشخص.


فضلاً عن ذلك، لا يكتفي الزوار بتجربة الحصاد أو الطهي فقط، بل غالبًا يشترون منتجات المزرعة مثل مربى الفواكه، العسل، الجبن البلدي، وزيت الزيتون.


وتظهر دراسة من جامعة فورمينت أن متوسط إنفاق الزائر على هذه السلع الإضافية يرتفع بنسبة تتراوح بين 20 و40%.


وبهذا الشكل، لاقت سياحة المزارع رواجًا كبيرًا لدى المزارعين حيث توفر دخلاً إضافيًا ومستقرًا قد يكون أعلى ربحية من الاعتماد على بيع المحاصيل فقط.


تغير استراتيجيات التسويق والسفر لدعم هذا القطاع


أصبحت السياحة الزراعية اليوم جزءًا أساسيًا من صناعة السفر العالمية، ولم يعد نموها قائمًا على جهود المزارعين وحدهم، بل على منظومة كاملة تضم شركات التكنولوجيا ومنصات السفر والحكومات وحتى صُنّاع المحتوى.


هذا التكامل غيّـر شكل التسويق للمزارع وفتح أمامها أبوابًا جديدة للوصول إلى جمهور عالمي يبحث عن تجارب أصيلة ومباشرة مع الطبيعة، فنجد أن منصات مثل إير بي إن بي، وتريب أدفايزور، وجِت يور جايد سهّلت اكتشاف تجارب الريف والمزارع بضغطة زر.


وبحسب سكيفت ريسيرش، ارتفعت الحجوزات الرقمية للأنشطة الريفية بنسبة 62% بين عامي 2020 و2024، وهو ما يوضح حجم التحوّل الذي أحدثته المنصات الرقمية في خلق الطلب على التجارب الزراعية.



كما لعبت الحكومات دورًا داعمًا في دفع هذا القطاع إلى الأمام، ففي إيطاليا، يدعم برنامج هناك أكثر من 25 ألف مزرعة سياحية توفر أنشطة تشمل الإقامة الريفية، ودروس صنع الجبن، وجولات الحقول.


أما في نيوزيلندا، فتقوم الحكومة بتمويل برامج تدريب للمزارعين لمساعدتهم على تطوير تجارب ترفيهية وتعليمية ملائمة للسياح.


كما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا محرّكًا رئيسيًا لانتشار السياحة الزراعية؛ فالمحتوى المرئي مثل حصاد الفراولة، وصناعة الجبن التقليدي، أو الطهي فوق الفحم وسط الحقول، بات يجذب ملايين المشاهدات ويحوّل المزارع الصغيرة إلى وجهات معروفة عالميًا.


وتعتبر مزرعة "أوجيس فارم" في كاليفورنيا مثالًا حيًا على ذلك، إذ تحولت إلى محطة سياحية شهيرة بعد انتشار فيديو لحصاد الخوخ في المزرعة على تيك توك، محققًا 15 مليون مشاهدة دفع آلاف الزوار إلى زيارتها خلال أشهر قليلة.


كما أن الاهتمام العالمي المتزايد بسلامة الغذاء والاستدامة عزّز الطلب على هذه التجارب. وتظهر دراسة لشركة ماكينزي أن 60% من المستهلكين حول العالم يفضلون الطعام المزروع محليًا، ويثقون أكثر بالمنتجات التي يشاهدون طريقة إنتاجها ويعرفون مصدرها.


وبذلك، لم تعد سياحة المزارع مجرد نشاط جانبي أو ترفيهي، بل أصبحت ظاهرة عالمية تعكس رغبة متزايدة لدى المسافرين في استكشاف العالم بطريقة تفاعلية، تعليمية، وصحية. وفي الوقت نفسه تمنح المزارعين مصدر دخل إضافيًا ووسيلة للتواصل المباشر مع المستهلكين.


وبين تطلع الزوار إلى الهروب من صخب المدن، وسعي المزارعين إلى بناء مصادر دخل مستدامة، يبدو أن هذا النوع من السياحة ماضٍ في صعود قوي خلال السنوات المقبلة.


المصادر: أرقام- منظمة السياحة العالمية- جامعة كورنيل- وزارة الزراعة الأمريكية- إير بي آند بي إكسبيرينسز- وزارة الزراعة الفرنسية- وزارة الزراعة الكورية- جامعة فيرمونت- سكيفت ريسيرش- ماكينزي العالمية

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.