نبض أرقام
05:38 ص
توقيت مكة المكرمة

2025/12/26
2025/12/25

المعالجات فائقة الأداء .. هل ستصبح سلعة استراتيجية مثل النفط؟

2025/12/24 أرقام

"البرمجيات تلتهم العالم" بهذه العبارة الموجزة لخص رائد الأعمال والمستثمر في مجال التكنولوجيا الأمريكي "مارك أندريسن" التحول العميق الذي يشهده الاقتصاد العالمي، في مقال نشره بصحيفة ذا وول ستريت جورنال منذ نحو 14 عامًا.

 

بالطبع "أندريسن" الذي يُعد من أكثر الشخصيات تأثيرًا في تطور الإنترنت وصناعة رأس المال الجريء لم يكن يقصد البرمجيات وحدها، بل أيضًا المعالجات فائقة الأداء التي تعمل على تشغيلها.

 

 

وكما أن النفط كان محركًا للثورة الصناعية، أصبحت القدرة الحاسوبية اليوم أساساً رئيسياً للقوة الاقتصادية والتكنولوجية.

 

ففي القرن العشرين، أصبح النفط أهم سلعة استراتيجية في العالم، حيث شكل السياسة الجغرافية والاقتصاد والتنمية العسكرية، لكن مع انتقال الاقتصاد العالمي بشكل أعمق إلى العصر الرقمي تغير الوضع.

 

وبدأت فئة جديدة من التقنيات من بينها المعالجات فائقة الأداء ورقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة تكتسب أهمية لا تقل عن النفط، إذ إن هذه المحركات الحسابية عالية الأداء تدعم الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، وأنظمة الدفاع، وغيرها من القطاعات.

 

ومع ازدياد الطلب على الحوسبة وتركيز الإنتاج في عدد قليل من الشركات، بدأت هذه المعالجات تشبه النفط في أهميتها الاستراتيجية.

 

ولم يعد هذا التشابه مع النفط مجرد استعارة لغوية، بل أصبح واقعًا تفرضه الأرقام والسياسات مع تحول المعالجات فائقة الأداء إلى عنصر حاسم في سباق الابتكار العالمي، ومحدد رئيسي لقدرة الدول والشركات على المنافسة، والنمو، وحماية أمنها القومي.

 

ومع تركز سلاسل التوريد العالمية لهذه المعالجات في مناطق جغرافية محدودة، واحتدام التوترات الجيوسياسية حول تصديرها وإنتاجها، بدأت الحوسبة المتقدمة تكتسب طابعًا سياديًا يشبه الطابع الذي اكتسبه النفط خلال القرن الماضي.

 

هذا الواقع طرح تساؤلات عديدة: هل تتحول المعالجات فائقة الأداء إلى سلعة استراتيجية تتحكم في موازين القوة الاقتصادية والجيوسياسية؟ وهل ستصبح السيطرة على القدرة الحاسوبية، كما كانت السيطرة على الطاقة، أحد محددات النفوذ العالمي في العقود المقبلة؟

 

صعود دور المعالجات فائقة الأداء

 

يشهد الطلب العالمي على المعالجات فائقة الأداء، ولا سيما تلك المصممة لأعباء عمل الذكاء الاصطناعي، نموًا متسارعًا يعكس التحول العميق في بنية الاقتصاد الرقمي.

 

ورغم أن مصطلح المعالجات فائقة الأداء قد يفهم تقليديًا على أنه يشير إلى المعالجات المركزية أو الحواسيب الفائقة، فإن الواقع التقني الحالي يوسّع هذا المفهوم ليشمل رقائق الذكاء الاصطناعي ومحركات تسريع مراكز البيانات.

 

 

فهذه الرقائق مثل وحدات معالجة الرسومات والرقائق المخصصة أصبحت اليوم تمثل العمود الفقري للحوسبة فائقة الأداء، إذ تتولى تنفيذ أعباء العمل الأكثر تعقيدًا وكثافة حسابية، والتي لم تعد المعالجات التقليدية قادرة على التعامل معها بالكفاءة المطلوبة.

 

وبلغت قيمة سوق رقائق الذكاء الاصطناعي نحو 67.9 مليار دولار أمريكي في عام 2024، مع توقعات بارتفاعها إلى ما يقرب من 227.5 مليار دولار بحلول عام 2034، بمعدل نمو سنوي يصل إلى 12.9%.

 

ويعود هذا النمو إلى عدة عوامل متداخلة، أبرزها الانفجار في حجم البيانات المنتجة عالميًا، والتوسع السريع في تبني تطبيقات الذكاء الاصطناعي عبر مختلف القطاعات، إضافة إلى تنامي متطلبات الحوسبة الطرفية التي تحتاج إلى قدرات معالجة عالية ومرنة في آن واحد.

 

وفي السياق ذاته، تشهد محركات تسريع مراكز البيانات ورقائق المعالجة المتقدمة مثل وحدات معالجة الرسومات، والمصفوفات المنطقية القابلة للبرمجة، والشرائح المخصصة، دورًا متزايد الأهمية في إعادة تشكيل طريقة توزيع واستغلال الموارد الحاسوبية.

 

وتشير التقديرات إلى أن هذا السوق مرشح للنمو من 29.4 مليار دولار في عام 2025 إلى نحو 178.4 مليار دولار بحلول عام 2032، ما يعكس التحول من الاعتماد على المعالجات التقليدية إلى بنى حوسبية متخصصة قادرة على التعامل مع أعباء العمل المعقدة بكفاءة أعلى.

 

ولم تعد المعالجات فائقة الأداء حكرًا على المختبرات البحثية أو المؤسسات الأكاديمية، بل أصبحت عنصرًا أساسيًا في البنية التحتية الرقمية للشركات الكبرى والدول على حد سواء.

 

وتُعد الحواسيب الفائقة المخصصة للذكاء الاصطناعي، مثل نظام «كولوسوس» التابع لشركة إكس إيه آي، مثالًا بارزًا على هذا التحول.

 

ويجمع النظام مئات الآلاف من رقائق الذكاء الاصطناعي ضمن منصة واحدة، باستثمارات تُقدّر بمليارات الدولارات، وباستهلاك طاقة يوازي استهلاك بعض المدن الصغيرة، وتُستخدم هذه الأنظمة في تدريب النماذج المتقدمة، وتحليل البيانات الضخمة.

 

وعلى نطاق أوسع، تسهم المعالجات فائقة الأداء في إعادة تشكيل قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية، من خلال تسريع تطوير الأدوية والتشخيص الطبي، وقطاع المركبات الذاتية القيادة، عبر معالجة كميات هائلة من البيانات في الزمن الحقيقي، إضافة إلى أنظمة الدفاع المتقدمة.

 

تركز الإمدادات والمخاطر الاستراتيجية

 

على عكس النفط، الذي يتوزع جغرافيًا في العديد من الدول، فإن تصنيع المعالجات فائقة الأداء يتركز بشكل كبير إذ تقوم شركات قليلة مثل إنفيديا، وإيه إم دي بتصميم الشرائح المتقدمة، بينما تتولى شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات (TSMC) معظم التصنيع المتقدم.

 

 

يؤدي تركيز إنتاج المعالجات فائقة الأداء في مناطق جغرافية محدودة إلى خلق نقاط ضعف استراتيجية، فمثلاً، أي اضطراب في تايوان—سواء بسبب كوارث طبيعية أو توترات جيوسياسية—قد يؤدي إلى تعطيل سلاسل التوريد العالمية بشكل واسع.

 

لذا بدأت الحكومات تعامل المعالجات المتقدمة كأصول استراتيجية، كما كان يحدث مع الطاقة سابقًا حيث قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتطبيق ضوابط تصدير على الرقائق المتقدمة للذكاء الاصطناعي وتقنياتها لمنع نقل التكنولوجيا إلى المنافسين الاستراتيجيين مثل الصين.

 

وتشمل هذه الضوابط مشاريع قوانين مثل قانون سيف تشيبس (SAFE Chips) الأمريكي لعام 2025 الذي يهدف إلى تقييد تصدير المعالجات عالية الأداء.

 

ويرى صانعو السياسات أن الحد من الوصول إلى المعالجات فائقة الأداء أمر حيوي للأمن القومي والسيطرة التكنولوجية، وتعكس هذه القيود الجيوسياسية مثل تلك التي كانت قائمة حول النفط في الماضي.

 

وأصبحت صناعة الرقائق في تايوان أيضًا محورًا جيوسياسيًا رئيسيًا، فيما يعرف بـ "الدرع السيليكوني"، حيث إن الاعتماد العالمي على إنتاجها يثني عن أي صراع عسكري محتمل.

 

تشابهات مع النفط

 

كما هو الحال مع النفط، تسعى الدول لتأمين الوصول إلى الموارد الحاسوبية الموثوقة، إذ أصبحت القدرة على إنتاج الشرائح أساسًا للتنافس الاقتصادي والقوة الصناعية.

 

وتشير الوثائق الرسمية الأمريكية إلى أن المعالجات فائقة السرعة والرقائق المستخدمة في الذكاء الاصطناعي تعد "استراتيجية وذات أهمية فريدة" للأمن الصناعي والوطني، ما يعكس مكانتها الحيوية في الاقتصاد الحديث.

 

وفي الصين، ارتفعت أهمية تطوير هذه الصناعة ضمن مبادرة "صنع في الصين 2025" لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية، وهو ما يشبه الدور الذي لعبه الاستقلال في الموارد التقليدية مثل النفط.

 

كما أن الاستثمارات في التصنيع المحلي، ودعم البحث، والتحالفات الاستراتيجية مثل قانون الرقائق الأوروبي تعكس جهودًا عالمية لتقوية سلاسل التوريد وتقليل المخاطر المرتبطة بالاعتماد على مصادر خارجية.

 

 

وتشير الأبحاث الأكاديمية إلى أن أسواق المعالجات والرقائق شديدة الحساسية للتوترات الجيوسياسية، إذ يمكن أن تؤثر قرارات الدول والمستثمرين بشكل كبير على مسار الصناعة العالمي.

 

ورغم ذلك، تواجه المعالجات فائقة الأداء تحديات تحول دون اعتبارها سلعة قابلة للتداول بنفس سهولة النفط.

 

فالنفط مورد متجانس عالميًا، بينما تختلف المعالجات في بنيتها وأدائها وتطبيقاتها، بحيث لا يمكن استبدال معالج مثل إنفيديا H100 بمعالج آخر في كثير من الاستخدامات، مما يصعب تحويلها إلى سلعة قياسية.

 

وبعكس السلع التقليدية مثل النفط التي تستمد قيمتها من ندرتها وثبات خصائصها، فإن القيمة الاستراتيجية للمعالجات فائقة الأداء تنبع من سرعتها الابتكارية وتنوعها التقني، وهو ما يخلق تحديًا جوهريًا أمام معاملتها كسلعة موحدة.

 

لتصبح المعالجات فائقة الأداء ورقائق الحوسبة المتقدمة موارد استراتيجية أساسية في الاقتصاد العالمي للقرن الحادي والعشرين، تمامًا كما كان النفط في القرن العشرين.

 

ورغم أن تلك المعالجات لا تتطابق مع النفط من حيث القابلية للتبادل أو ثبات الخصائص، فإن مسار تطورها المتسارع لم يقلل من وزنها الاستراتيجي، بل عزّز مكانتها كأصل حاسم في موازين القوة الحديثة.

 

هذا التطور جعل قيمة اقتصادات الدول لم تعد تقاس فقط بالموارد الطبيعية، بل بقدرتها على امتلاك البنية التحتية للحوسبة المتقدمة، وتأمين سلاسل توريدها، وتوظيفها في الابتكار والصناعة والأمن القومي.

 

المصادر: فورتشن بيزنس إنسايتس- إمرجن ريسيرش- آركايف- كونسغرس.غوف- رويترز- سي إس آي إس- أومديا- تومز هاردوير

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.