نبض أرقام
00:10
توقيت مكة المكرمة

2024/05/19
15:21
14:03
13:49
12:21

عجز الحساب الجاري .. لماذا يحظى بهذا القدر من الاهتمام؟

2018/09/14 أرقام - خاص

في التسعينيات قامت دول جنوب شرق آسيا بإلغاء القيود المفروضة على أسواقها المالية، و كان الهدف من هذا التحرير هو توفير كمية كبيرة من الأموال منخفضة التكلفة للمؤسسات والشركات المحلية.
 

وبالفعل استقبلت هذه الدول كميات كبيرة من الأموال الأجنبية التي كانت تفضل الأسواق الناشئة بسبب انخفاض معدل الفائدة في ذلك الوقت في الاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة واليابان.
 

ثم وقعت الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997، وكانت أشد أزمة مالية تضرب البلدان النامية منذ أزمة الديون في عام 1982. والملحوظة الأهم حول تلك الأزمة هي أنه لم يتوقعها أحد تقريباً سواء من المشاركين في السوق أو المحللين والخبراء.
 

وفي الحقيقة، إن السبب وراء فشل وكالات التصنيف والمقرضين الدوليين ومعظم مراقبي السوق في التنبؤ بتلك الأزمة  أن معظم المتغيرات الأساسية للاقتصاد الكلي في الدول المتضررة كانت سليمة طوال النصف الأول من التسعينيات.



 

فعلى سبيل المثال، كان معدل التضخم لدى دول المنطقة يستقر أدنى 10%، بينما كان وضع الميزانيات العامة جيداً، وحجم الدين السيادي كان أبعد ما يكون عن المنطقة الخطرة، في حين كانت المدخرات والاستثمارات المحلية عند مستويات عالية. ظهور كل المتغيرات السابقة بمستويات طبيعية جعل الأزمة صعبة التنبؤ.
 

لكن في نفس الفترة وتحديداً في عام 1996، كانت هناك عدة مشاهدات تفضح الضعف المالي لدول المنطقة، من بينها ارتفاع قيمة العملات المحلية فوق المستوى العادل وتباطؤ نمو الصادرات، والزيادة الحادة في الاقتراض الخارجي من قبل الشركات المحلية، واستخدام المستثمرين للكثير من الاعتمادات الأجنبية في المضاربة في العقارات بدلاً من استخدامها لزيادة القدرة الإنتاجية لقطاع الصناعات التحويلية.
 

لكن العامل الأهم على الإطلاق الذي لم ينتبه أحد إلى خطورته كان هو الزيادة الكبيرة التي شهدها العجز في الحساب الجاري لدول المنطقة. يشير الكثير من الخبراء إلى أن العجز الكبير الذي كان يعاني منه الحساب الجاري للدول المتضررة كان هو السبب الرئيسي وراء الأزمة المالية الآسيوية وكذلك أزمة العملة في المكسيك.
 

(لاحظ ما يحدث للأسواق الناشئة في الوقت الراهن وتابع وضع الحسابات الجارية للدول التي تراجعت عملاتها)

 

الحساب الجاري .. ماهيته وتكوينه
 

في القرن الحادي والعشرين، اتجهت مجموعة من الدول الصناعية والناشئة إلى الاعتماد بشكل كبير على رأس المال الأجنبي في دعم النمو الاقتصادي، وهو ما تسبب في أن يشهد بعضها ارتفاعاً مستمراً في حجم اختلالات الحساب الجاري. ولهذا السبب أصبح مفهوم عجز الحساب الجاري قضية سياسية واقتصادية حساسة ومهمة.
 

يسجل الحساب الجاري صادرات وواردات الدولة من السلع والخدمات وكذلك التحويلات من جانب واحد وكافة التدفقات المالية من وإلى الاقتصاد، باستثناء الأموال المستثمرة بالأصول واستثمارات الأسواق المالية.

بعبارة أخرى، يشتمل الحساب الجاري على كافة المعاملات (عدا المدرجة في البنود المالية) التي تتضمن قيماً اقتصادية وتقع بين جهات مقيمة وأخرى غير مقيمة. ويتكون هذا الحساب بشكل رئيسي من الحسابات الفرعية التالية:

1- الميزان التجاري للسلع .

2- الميزان التجاري للخدمات .

3- حساب التحويلات من جانب واحد (يشمل التبرعات والإعانات وتحويلات العاملين في الخارج إلى ذويهم).

 

الحساب الجاري في الأساس هو جزء من ما يسمى "ميزان المدفوعات" والذي يتكون بشكل أساسي من الحسابين الجاري والرأسمالي.
 

توجد علاقة مهمة بين الحساب الجاري للدولة وبين حسابها الرأسمالي. وهذه العلاقة موضحة فيما يطلق عليها "معادلة الهوية التجارية" والتي تقول: "إذا كانت الدولة تدير عجزاً في حسابها الجاري فيجب عليها موازنة ذلك العجز بتدفقات مساوية في الحساب الرأسمالي. والعكس، "إذا كانت الدولة تدير فائضاً في حسابها الجاري فيجب أن تتم موازنة هذا الفائض بعجز مساو في حسابها الرأسمالي."



 

يعتبر عجز الحساب الجاري لأي دولة مستداماً ما دام هناك مقرضون دوليون لديهم استعداد لتمويل هذا العجز، ولكن حين يكون هناك شك في استمرار تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى داخل الاقتصاد لتمويل العجز فإنه يصبح عجزاً غير مستدام. وفي هذه الحالة غالباً ما تتدهور قيمة العملة المحلية، ويعاني الاقتصاد من اضطرابات مفاجئة.
 

في عام 1991 عانت الهند من أزمة في ميزان المدفوعات، حيث خرج الجانب الأيسر للميزان – الحساب الجاري – عن نطاق السيطرة، ولكن المشكلة لم تكن في حجم العجز بل كانت عدم كفاية الأموال التي يضخها الأجانب في الاقتصاد لتغطية العجز.
 

كان على الهند أن تحصل على قروض بأي شكل لتغطية عجز الحساب الجاري، حيث إن فوائض حساباتها المالية لم تكن كافية لتغطيته. ولجأت بالفعل إلى سويسرا والمملكة والمتحدة وقامت برهن حيازاتها من الذهب هناك وحصلت مقابلها على قروض مكنتها من تغطية العجز.
 

الفائض ليس أقل خطورة من العجز
 

يظهر فائض في الحساب الجاري حين يتجاوز إنتاج الدولة استهلاكها أو حينما ترتفع معدلات الادخار بالمقارنة مع معدلات الاستثمار. وهذا هو الحال في العديد من دول العالم مثل ألمانيا – التي اعتاد "ترامب" مهاجمتها لهذا السبب – واليابان التي تجاهد منذ سنوات لرفع مستويات الاستهلاك المحلية، وأخيراً الصين التي تمتلك معدلات ادخار عالية جداً.
 

وبما أن هذه الدول لا تستهلك كل إنتاجها فهي في حاجة إلى من يشتري الفائض. وعلى هذا الأساس تقوم الدول التي تدير فوائض في حساباتها الجارية بإقراض مدخراتها إلى بقية دول العالم ليصبح لديها المال اللازم لشراء الفائض من إنتاج الدول المقرضة.
 

باختصار دول مثل ألمانيا والصين في حاجة إلى طلب أجنبي لشراء ناتجهم الفائض، ويلجأون إلى إقراض مدخراتهم إلى الأجانب لشراء هذا الناتج لكي يستمروا في النمو والاحتفاظ بحجمهم.



 

الدول التي لديها فوائض في حساباتها الجارية تبدو وكأنها أكثر استقلالاً من غيرها لأنها قادرة على التصدير أكثر من الاستيراد وبالتالي أكثر كفاءة وأكثر قدرة على المنافسة، ولكن ما لا يدركه البعض هو أن الدول التي لديها فائض في حسابها الجاري لديها مشاكل ونقاط ضعف حقيقية.
 

فلأنها تنتج أكثر مما تستهلكه فهي في حاجة إلى من يشتري الفائض. لنفترض مثلاً أن اليابان تنتج ما قيمته 100 مليار دولار سنوياً من السلع والخدمات، في حين أنها لا تستهلك سوى 80 مليار دولار. إذا لم تستطع اليابان أن تجد من يشتري الـ20 مليار دولار الإضافية فإن ناتجها المحلي الإجمالي سينكمش لأنها ستأتي في العام التالي وتنتج فقط ما تستهلكه.
 

الفكرة هي أنه إذا لم يشتر الأجانب السلع اليابانية فسيتعين على الاقتصاد الياباني أن يتقلص ليصبح الاقتصاد الياباني أقل حجما.
 

متى يمثل العجز مشكلة؟
 

يشهد الحساب الجاري عجزاً حين يتجاوز استهلاك الدولة إنتاجها. أي أنها تنفق أكثر مما تكسبه إما لأن معدلات الادخار منخفضة أو لأن الدولة تميل إلى الاستدانة. هذا يعني أن الدولة تستهلك كامل إنتاجها وتقترض المزيد لشراء إنتاج إضافي. ولكن هل يمثل هذا مشكلة؟
 

لا توجد مشكلة إذا كانت الدول الأخرى مستعدة لإقراضها لكي تتمكن من شراء الإنتاج الإضافي والحفاظ على استهلاكها الزائد. ولكن في نفس الوقت الأمر لا يتوقف فقط على رغبة الدول الأخرى في إقراض الدولة المال، بل يجب أن تكون أسعار الفائدة المفروضة على تلك القروض في النطاق المعقول لكي تستطيع الدولة المقترضة إدارة هذا العجز على المدى الطويل.
 

دولة مثل الولايات المتحدة لطالما شهد حسابها الجاري عجزاً، ولكنها لا تواجه أي مشكلة بسبب أن لديها وفرة في المال. أي بلد في العالم يسعده أن يقرض واشنطن بمعدلات منخفضة.



 

منذ عام 1980 وتشهد الولايات المتحدة عجزاً في حسابها الجاري، وهي في نفس الوقت تعتبر صاحبة أكبر عجز في الحساب الجاري في العالم من حيث القيمة المطلقة، ورغم ضخامة العجز إلا أنه لم يكن أبداً مصدر قلق للساسة في واشنطن وذلك للأسباب التالية:
 

العالم كله ينظر إلى الاقتصاد الأمريكي باعتباره ملاذاً آمناً، وعلى هذا الأساس يتنافس الأجانب على شراء السندات الأمريكية. هذه السندات مقومة بالدولار والجميع يثق في الدولار ويؤمنون أنه بإمكانهم استعادة أموالهم متى أرادوا.
 

لكي يقوموا بشراء السندات الأمريكية يجب أن يحصلوا على الدولار إما بشرائه مباشرة أو من خلال تصدير سلع وخدمات إلى الولايات المتحدة. وعلى خلفية ارتفاع الطلب على الأصول الأمريكية وبالتبعية على الدولار ترتفع قيمة العملة الأمريكية، وهو ما يؤثر سلباً على تنافسية البضائع الأمريكية التي أصبحت أكثر تكلفة.
 

هذا يساهم في حدوث عجز تجاري كبير وهو ما يتم ترجمته إلى عجز أكبر في الحساب الجاري. لذا سنلاحظ أن أغلب الدول التي تمتلك عملة احتياطية يستخدمها العالم مثل الولايات المتحدة تعاني من عجز في الحساب الجاري بسبب تلك الديناميكية.
 

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل عجز الحساب الجاري شيء سيئ أم جيد؟ "على حسب" بمعنى أن النظرية الاقتصادية تخبرنا بأن كون العجز شيئا جيدا أو سيئا يعتمد بشكل أساسي على العوامل التي استدعت وجود ذلك العجز أصلاً.



 

فإذا كان عجز الحساب الجاري يعكس تجاوز قيمة الواردات لقيمة الصادرات فقد يكون ذلك مؤشراً على وجود مشاكل بالقدرة التنافسية للبلد، ولكن بما أن عجز الحساب الجاري من الممكن أيضاً أن يعني أن معدلات الاستثمار تتجاوز معدلات الادخار فقد يشير هذا إلى أن الاقتصاد منتج ومزدهر للغاية.
 

أما إذا كان العجز يعكس انخفاض الادخار أكثر مما يعكس ارتفاع الاستثمار فقد يكون السبب وراء ذلك هو السياسة المالية المتهورة أو الاستهلاك الخارج عن نطاق السيطرة أو صدمة مؤقتة أو تحول ديموغرافي معين.
 

باختصار، بدون معرفتنا لأسباب العجز سيكون من غير المنطقي أن نحكم على كون عجز الحساب الجاري شيئا جيدا أم سيئا، لأن هذا العجز ما هو إلا انعكاس للاتجاهات الاقتصادية الكامنة والتي قد تكون إيجابية أو سلبية بالنسبة للدولة في وقت معين.

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة