نبض أرقام
07:38 م
توقيت مكة المكرمة

2025/06/21
2025/06/20

كنز أمريكا الدفين: كيف أيقظت حرب الرقائق سباق المعادن النادرة؟

07:26 ص (بتوقيت مكة) أرقام

- على الطريق السريع بين بريق لوس أنجلوس وصخب لاس فيجاس، وسط شمس صحراء موهافي الحارقة، يمر يومياً عشرات الآلاف من المسافرين بجوار سرٍ استراتيجي هائل، كنز مدفون في العراء لا يدرك معظمهم قيمته، لكنه اليوم أصبح مسألة أمن قومي.

 

- فهناك، على مرمى حجر من الطريق السريع رقم 15 في منطقة "ماونتن باس" بكاليفورنيا، يقع منجم العناصر الأرضية النادرة الوحيد العامل في الولايات المتحدة.

 

- هذا العملاق الذي غط في سبات عميق لسنوات، عاد إلى الحياة في 2017 بعد أن انتُشل من رماد الإفلاس. واليوم، تدب فيه الحياة من جديد مع بدء عمليات التكرير والتصنيع، في محاولة محمومة لإعادة بناء سلسلة إمداد محلية في لحظة جيوسياسية هي الأكثر حساسية منذ عقود.

 

قبضة التنين: حين يصبح الشريان الحيوي في يد الخصم

 

- تمثل هذه العناصر النادرة، التي كانت في الماضي مجرد مادة غريبة في جداول الكيمياء، اليوم عصب كل شيء تقريباً؛ من رقائق الحواسيب متناهية الدقة ومحركات الطائرات المقاتلة، إلى توربينات الرياح والسيارات الكهربائية.

 

- إنها باختصار، شريان الحياة للصناعات المتقدمة. والمفارقة أن الولايات المتحدة، ومعظم دول العالم، تعتمد بشكل شبه كامل على الصين للحصول عليها.

 

- لم يعد هذا الاعتماد الخانق مجرد بند في الميزان التجاري، بل تحول إلى ورقة ضغط استراتيجية في خضم إعادة الصياغة المتوترة للعلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم، وهي مواجهة تلقي بظلالها على استقرار الكوكب بأسره.

 

لماذا تتخلى الولايات المتحدة عن صناعاتها الحيوية؟ سؤال الماضي الذي يطارد الحاضر

 

 

- تطرح قضية المعادن النادرة سؤالاً وجودياً تكرره الدول دائماً في أوقات الأزمات: إذا كانت هذه العناصر بهذا القدر من الأهمية، فلماذا توقفت أمريكا عن إنتاجها بنفسها؟

 

للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام

 

- الحقيقة أن هذه العناصر ليست "نادرة" كما يوحي اسمها، لكن طريقة استخراجها وتصنيعها محفوفة بالتحديات: فهي تتطلب استثمارات ضخمة، وتكنولوجيا معقدة، ومهارات فنية دقيقة، وموافقات تنظيمية صارمة.

 

- أضف إلى ذلك المخاطر البيئية الجسيمة مثل تلويث المياه الجوفية، فتصبح المهمة التي تبدو بسيطة على الورق، عبئاً اقتصادياً وبيئياً تفضل الدول التخلص منه.

 

- وهكذا، وبدافع من منطق التكلفة والكفاءة، بدا نقل هذه الصناعات "المُكلفة" إلى الخارج قراراً حكيماً، قبل أن يثبت لاحقاً أنه كان قصر نظر استراتيجي.

 

والأمثلة تملأ الخارطة العالمية:
 

بريطانيا: تحلم باستعادة مجد صناعة النسيج التي كانت شرارة ثورتها الصناعية.
 

- أستراليا: تسعى جاهدة لإحياء قطاع صناعة السيارات الذي تركته ينهار.
 

- اليابان: تضخ تريليونات الينات لإنعاش صناعة أشباه الموصلات التي كانت رائدتها.

- في كل هذه الحالات، كان القرار واحداً: دع الآخرين يصنّعون، ونحن نستورد. واليوم، في عصر يتسم بتصدع التحالفات التجارية وعودة سياسات الحمائية، أصبح هذا القرار خطيئة استراتيجية تسعى هذه الدول للتكفير عنها.

 

من التلفاز الملون إلى السيارة الكهربائية: قصة صعود وهبوط منجم "ماونتن باس"

 

 

- بدأت حكاية منجم "ماونتن باس" في منتصف القرن العشرين، حين اكتُشف فيه معدن "الباستناسايت" الغني بالعناصر النادرة.

 

- وسرعان ما كشفت الأبحاث أن أحد هذه العناصر يمكنه تعزيز اللون الأحمر في أجهزة التلفاز الملونة، التي كانت آنذاك أحدث صيحات التكنولوجيا، فازدهر المنجم.

 

- لكن السوق متقلب؛ فمع تراجع استخدام هذه المعادن في تكرير النفط خلال الثمانينيات، وتصاعد موجة العولمة، بدا أن منافسة الإنتاج الصيني منخفض التكلفة ضرب من الجنون.

 

- وفي عام 2002، توقف التعدين بالكامل في "ماونتن باس"، خاصة بعد توثيق حالات تلوث بيئي. وفي نفس الفترة تقريباً، أغلقت آخر شركة أمريكية لصناعة المغناطيسات النادرة في إنديانا أبوابها ونقلت عملياتها إلى الصين، بعد أن كانت تخسر 5 ملايين دولار سنوياً. لقد بدا حينها أن شراء المواد الخام من الصين هو القرار الأكثر منطقية.

 

العصر الجديد: عودة الصناعة بثمن باهظ

 

- بحلول عام 2023، كانت المعادلة قد حُسمت: تستحوذ الصين على 69% من إنتاج المعادن النادرة عالمياً، ونحو 90% من صناعة المغناطيسات النهائية التي لا غنى عنها في السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح.

 

- لكن في العام نفسه، حدث تحول لافت. لم يكتف المالك الجديد لمنجم "ماونتن باس" في استخراج الخامات فحسب، بل بدأ في فصلها وتكريرها داخل أمريكا، منهيًا بذلك الاعتماد على الصين في هذه المرحلة الحرجة، ووصف الخطوة بأنها "إعادة توطين قدرة حيوية للأمن القومي".

 

- واليوم، تعود الوظائف إلى أروقة المنجم، حيث يتقاضى العامل في الكسّارة أجراً يصل إلى 36.80 دولار في الساعة، أي ما يعادل أربعة أضعاف ما يجنيه نظيره في الصين. كما باشرت الشركة بالفعل إنتاج المغناطيسات في مصنع جديد بولاية تكساس.

 

ما بعد الحمائية: الحل في التعاون لا الانعزال

 

 

- قد تبدو عودة الصناعات المحلية هي الحل السحري، لكن الواقع أشد تعقيداً؛ فعلى الرغم من تضاعف أعداد الوظائف العائدة إلى أمريكا 26 مرة بين 2010 و2023، فإن القيمة الإجمالية لقطاع التصنيع كنسبة من الاقتصاد آخذة في التراجع في معظم الدول المتقدمة، بل وحتى في الصين نفسها.

 

- إن السعي لمعالجة هذا الاختلال الجذري بقشرةٍ رقيقة من السياسات الحمائية قد يغدو ضرباً من الانتحار الاقتصادي، تماماً كالتفريط في الصناعات الحيوية في المقام الأول.

 

- إذ تتطلب معالجة قضية بمثل هذا التعقيد تخطيطاً استراتيجياً بعيد المدى، وشراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص، والأهم من ذلك كله، إدراكاً بأن الحل لا يكمن في الانغلاق على الذات، بل في الانفتاح على الآخرين.

 

- فبينما قد تكون هذه العناصر أكثر وفرة مما يوحي به اسمها، فإن بعض الدول تحظى باحتياطيات تفوق غيرها بكثير.

 

- إذ تشير التقديرات الراجحة اليوم إلى أن فيتنام تمتلك احتياطيات تناهز ضعف ما لدى أمريكا، وأن أستراليا والهند تملكان ما لا يقل عن ثلاثة أضعافها، أما البرازيل فقد تحوز عشرة أضعافها. وتطمح كل هذه الدول إلى تعزيز إنتاجها.

 

- وهنا يكمن التحدي الأكبر، وفي طياته تكمن الفرصة العظمى: بناء شبكة إمداد مرنة وموثوقة بين هؤلاء الموردين المحتملين، ليصبح الترابط قوة جماعية، لا أن تُستخدم هذه الثروات كأداة ضغط ورافعة جيوسياسية. ففي خضم هذا السباق المحموم، قد لا يكون هناك سبيلٌ لتحقيق المصالح العليا للجميع سوى بالتعاون البنّاء، لا بالتناحر الهدّام.

 

المصدر: المنتدى الاقتصادي العالمي

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.