في صباحٍ مشمس من شتاء مدينة برشلونة، كان "ميجيل دومينجيز"، البالغ من العمر 69 عامًا، يقف على ضفاف البحر، يستعد لجولته الصباحية على دراجته الهوائية.
لم يكن مشهدًا مألوفًا لكثيرين، لكنه بالنسبة لـ"دومينجيز" أصبح عادة لا يتخلى عنها منذ سبع سنوات، حين قرر أن يغيّر نمط حياته من أجل تحسين وضعه الصحي مع دخوله مرحلة الشيخوخة.
فبعد تقاعده من عمله كمحاسب، شعر بفراغٍ كبير تسلل إلى يومه وصحته على حد سواء، إذ بدأ يعاني ارتفاعاً في ضغط الدم، ونقصاً في النشاط البدني، وشعوراً متكرراً بالإرهاق.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
إلا أن لحظة فارقة قلبت موازين حياته، عندما شاهد فيلماً وثائقياً عن "الشيخوخة الصحية"، حينها أدرك أن أمامه خيارين: إما أن يستسلم لتدهورٍ بطيء في صحته وحيويته، أو أن يغيّر نمط حياته تمامًا.
وبالفعل بدأ "دومينجيز" بممارسة الرياضة بانتظام، كما عدّل نظامه الغذائي، وأعاد التواصل مع أصدقاء الطفولة، واشترك في فعاليات عديدة بغرض تنشيط الذهن.
وبعد عام واحد فقط، لمس "دومينجيز" تحسنًا ليس في صحته الجسدية فحسب، بل أصبح أكثر سعادة ورضًا عن حياته.
واليوم، لا يُنظر إلى "دومينجيز" كـ"عجوز نشيط"، بل كنموذج لشخص يعيش مرحلة الشيخوخة بجودة حياة عالية، رغم تقدمه في العمر.
ووفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2023، فإن أكثر من 70% من أسباب التدهور الصحي لدى كبار السن يمكن الوقاية منها عبر أسلوب حياة نشط ومتوازن.
فقصة "دومينجيز" ليست استثناء، بل تمثل اتجاهًا متصاعدًا حول العالم نحو "الشيخوخة الإيجابية"، حيث يدرك الأفراد أن التقدّم في العمر لا يعني التراجع، بل قد يكون فرصة للانطلاق من جديد بشروط مختلفة وأكثر وعيًا.
تعريف جديد للشيخوخة
في عالمٍ يتسارع فيه التقدّم التكنولوجي والعلمي، ويزداد فيه متوسط العمر المتوقع عامًا بعد عام، لم تعد الشيخوخة مجرد مرحلة نهائية من الحياة، بل أصبحت فرصة لإعادة تعريف مفاهيم الصحة والرفاه في مراحل العمر المتقدمة.
وبحسب تقرير الأمم المتحدة لعام 2023 فإنه من المتوقع أن يتضاعف عدد الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فأكثر في العالم من 761 مليونًا في عام 2021 إلى أكثر من 1.6 مليار بحلول عام 2050.
لذا فإن الصورة النمطية التي كانت تُعتبر فيها الشيخوخة مرادفًا للتدهور والاعتماد الكامل على الآخرين آخذة في التراجع، حيث أصبح مصطلح "الشيخوخة الصحية" أكثر انتشارًا والذي يشير إلى نمط حياة يمكن التخطيط له، والعمل على تحقيقه، والاستمتاع به.
دول سيكون لديها النسبة الأعلى من كبار السن الذين يصل عمرهم 65 عامًا فأكثر بحلول 2050 |
||
الترتيب |
الدولة |
النسبة |
1 |
الصين |
%40.6 |
2 |
كوريا الجنوبية |
%39.4 |
3 |
اليابان |
%37.5 |
4 |
إيطاليا |
%37.1 |
5 |
إسبانيا |
%36.6 |
6 |
تايوان |
%35.3 |
7 |
اليونان |
%34.8 |
8 |
البرتغال |
%34.5 |
فالتقدّم في العمر لا يعني بالضرورة فقدان الحيوية أو العزلة أو الاستسلام للأمراض المزمنة.
بل أظهرت الدراسات الحديثة أن الإنسان يستطيع، من خلال مجموعة من العادات والسلوكيات الصحية، أن يبطئ من وتيرة التدهور الجسدي والعقلي، ويحافظ على استقلاليته وجودة حياته حتى سنوات متقدمة من عمره.
ويتطلب تحقيق ذلك وعيًا متجددًا بأهمية العناية بالجسم والعقل والروح في آنٍ واحد. فالغذاء المتوازن، والنشاط البدني المنتظم، والعلاقات الاجتماعية الداعمة، والصحة النفسية المستقرة، جميعها تشكّل ركائز أساسية لحياة صحية في مرحلة الشيخوخة.
كما تلعب الفحوص الدورية، وإدارة التوتر، والنوم المنتظم، وتقبّل التغيرات العمرية دورًا محوريًا في تمكين الأفراد من العيش باستقلالية.
وفي ظل تزايد الاهتمام العالمي بمسألة الشيخوخة، خصوصًا مع ارتفاع نسبة كبار السن في العديد من المجتمعات، بات من الضروري تسليط الضوء على الاستراتيجيات الفعّالة التي تُمكّن الأفراد من تبني أسلوب حياة صحي ومستدام.
وتعد شرق آسيا وأوروبا من أكثر المناطق التي تشهد تسارعًا في نسبة الشيخوخة، حيث من المتوقع أن تبلغ نسبة من هم فوق 65 عامًا أكثر من 30% من السكان في بعض الدول بحلول عام 2050.
خطوات نحو شيخوخة صحية
الشيخوخة عملية حتمية يمر بها الجميع، لكنها لا تعني بالضرورة التدهور السريع في الصحة أو التراجع في جودة الحياة.
فقد أثبتت الدراسات أن تبني مجموعة من العادات الصحية اليومية يمكن أن يبطّئ وتيرة التدهور البدني والعقلي، ويعزز من الإحساس بالعافية والاستقلالية مع التقدم في العمر.
وفيما يلي بعض العوامل التي يمكن أن تسهم في تحقيق شيخوخة صحية:
التغذية
النظام الغذائي المتوازن يُعد حجر الزاوية في الصحة الجيدة، خاصة في مراحل العمر المتقدمة. فاختيار الأطعمة الغنية بالعناصر الغذائية يحسن أداء أجهزة الجسم المختلفة.
تشمل هذه الخيارات الفواكه والخضراوات الغنية بمضادات الأكسدة والألياف، والحبوب الكاملة التي تمد الجسم بالطاقة وتحافظ على استقراره.
فعلى سبيل المثال تناول البروتينات قليلة الدهون له دور كبير في دعم الكتلة العضلية والصحة العامة، إلى جانب الدهون الصحية الموجودة في مصادر مثل الأفوكادو وزيت الزيتون، والتي تحمي القلب وتغذي الدماغ.
في المقابل، يُنصح بالتقليل من الأطعمة المُصنعة والسكريات المضافة والدهون المشبعة.
النشاط البدني والعقلي
ممارسة الرياضة بانتظام تُعد من أهم استراتيجيات الشيخوخة الصحية، فالتمارين الهوائية، مثل المشي أو السباحة، تُعزز من صحة القلب، بينما تسهم تمارين القوة في الحفاظ على الكتلة العضلية وكثافة العظام.
أما التمارين التي تركز على التوازن والمرونة فتلعب دورًا كبيرًا في تقليل احتمالات السقوط، وحتى الأنشطة اليومية البسيطة، كالمشي أو العمل في الحديقة، يمكن أن تكون ذات فائدة كبيرة للصحة العامة.
وكما يحتاج البدن إلى تمارين رياضية، يحتاج الدماغ أيضًا إلى تحفيز وتمرين مستمر.
فالحفاظ على القدرات الإدراكية يبدأ من تحفيز العقل من خلال القراءة، أو حل الألغاز، أو تعلم مهارات جديدة.
كما أن الحفاظ على شبكة اجتماعية نشطة يساعد على الحد من مشاعر العزلة والاكتئاب، ويُعزز الصحة النفسية، في حين يسهم تجنب التوتر، والنوم الجيد المنتظم في تجديد خلايا الدماغ وتقوية الذاكرة.
وتشكل الأمراض المزمنة المرتبطة بالعمر مثل الزهايمر وأمراض القلب نحو 60% من تكاليف الرعاية الصحية في بعض الدول المتقدمة.
الرعاية الوقائية
تبنّي نهجٍ وقائيٍّ في الرعاية الصحية يساعد على اكتشاف المشكلات في مراحلها الأولى، ويزيد من فرص التعامل معها بفاعلية.
وتشمل الرعاية الوقائية الفحوصات الدورية لمراقبة ضغط الدم والكوليسترول ومستوى السكر في الدم، إضافة إلى الالتزام بالتطعيمات اللازمة للوقاية من الأمراض الشائعة.
ومن الضروري أيضًا مراجعة الأدوية بشكل دوري مع الطبيب، لتفادي التفاعلات أو الجرعات غير الملائمة.
وتُشكّل العادات اليومية والأهداف الشخصية عناصر جوهرية في دعم الشيخوخة الصحية، فوجود أهداف في الحياة، والانخراط في أنشطة ذات معنى، يعزز النظرة الإيجابية ويمنح الشعور بالإنجاز.
كما أن التفاعل المجتمعي والمشاركة في الفعاليات التطوعية أو الثقافية يقوي الروابط الاجتماعية ويُسهم في رفع مستوى السعادة.
وعلى الجانب الآخر، فإن الامتناع عن العادات المضرة بالصحة مثل التدخين يُعد من العوامل المؤثرة بشكل كبير.
كل تلك العوامل تعكس أن الشيخوخة الصحية ليست وليدة الحظ، بل ثمرة وعي مستمر وخيارات مدروسة.
ومن خلال الجمع بين التغذية السليمة، والحركة المنتظمة، والتحفيز العقلي، والرعاية الطبية الوقائية، ونمط الحياة المتوازن، يمكن لكل فرد أن يضع بصمته الخاصة في مسيرة التقدم في العمر.
وتشير التقديرات إلى أن 80% من كبار السن حول العالم سيعيشون في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بحلول عام 2050، مما يستدعي سياسات صحية فعالة لضمان شيخوخة صحية.
وفي عالم يشهد ارتفاعًا في متوسط الأعمار، تصبح هذه الاستراتيجيات ضرورة، لا رفاهية، لضمان أن يعيش الأشخاص مرحلة الشيخوخة بكامل كرامتهم واستقلاليتهم، بعيدًا عن الاعتماد المُرهق على الآخرين أو المعاناة المزمنة من الأمراض.
ولعل أفضل وقت، لبدء هذا التحول نحو حياة أكثر وعيًا وصحة، هو الآن.
المصادر: أرقام- ميدلاين بلس- برينستون هيلث- إيتينج ويل- سما هيلث- فيري ويل مايند- الأمم المتحدة- منظمة الصحة العالمية
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: