مع كل خطوة تُقطع في طريق القيادة، يتعزز اليقين بأن الطبيعة الانطوائية تمثل تحديًا حقيقيًا، خصوصًا في بيئة تتطلب تفاعلًا اجتماعيًا مستمرًا يُعد بمثابة شريان الحياة لأي منصب قيادي.
ثمة شعور بأن الساحة مهيأة بالفطرة للقادة الانبساطيين، وهو ما تؤكده الأبحاث العلمية الرصينة، بعيدًا عن الشعارات الرائجة التي تُروّج لها بعض المنصات الإعلامية.
فهل من المنطقي أن نُصغي لمن يروّج لفكرة أن "الانطوائيين هم قادة أعمال أفضل"؟
في ظل الضجيج الإعلامي الذي يغذّي هذا التصور المريح، عبر المقالات والبودكاست التي تداعب غرور الانطوائيين، آن الأوان لقول كلمة صادقة وصريحة؛ كلمة يحتاج القادة الانطوائيون إلى سماعها فعلاً.
من المريح أن نُصدّق أن قادة الأعمال الانبساطيين منشغلون بحصد الأضواء ونيل المجد، بينما يعمل الانطوائيون، في هدوء وسكينة، على صقل قواهم القيادية الخارقة.
وبلا شك، تُدرك وسائل الإعلام كيف تستثمر هذا المعتقد وتغذّيه. لكن، عندما يخبرك "العلم" بما تتوق لسماعه، يجدر بك أن تتوقف قليلًا وتتساءل: هل يتم خداعك؟ أم أن الحقيقة تُقدَّم لك كما هي؟
تشريح المفاهيم: الانطوائية والانبساطية في ميزان علم النفس
يُقسّم علماء النفس سمة الانبساطية إلى مكونين رئيسيين:
- السعي الحازم: ويتضمن سمات مثل الحزم، النشاط، الهيمنة، والمبادرة.
- الانتماء والود: ويشمل الميل للاجتماع، التفاؤل، والدفء في العلاقات.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
إذا سجلت درجات مرتفعة في كلا الجانبين، فأنت على الأرجح انبساطي. وإذا كانت درجاتك منخفضة، فأنت أقرب إلى الانطوائية.
اللافت أن معظم الانبساطيين يسجلون درجات عالية في كلا الفئتين، مما يجعل الصورة النمطية التي يرسمها أنصار "تفوق الانطوائيين" للانبساطيين كشخصيات صاخبة وأنانية، صورة مشوهة ومناقضة للواقع الإحصائي؛ فالانبساطيون، وفقًا للبيانات، أكثر ميلًا لإظهار الدفء والاهتمام الحقيقي بالآخرين.
وهنا تتهاوى أولى المزاعم الشائعة:
"الانطوائيون مستمعون أفضل" — فلا يوجد أي دليل علمي موثوق يدعم هذا الزعم.
الاستماع الفعّال يتطلب اهتمامًا صادقًا بالطرف الآخر، وهي سمة يميل الانبساطيون لإظهارها بشكل أكبر.
بل على العكس، تشير أبحاث في علم الأعصاب إلى أن الانطوائيين يجدون الاستماع النشط أكثر صعوبة، نظرًا لعدم تفضيلهم لتعدد المهام، مثل فك شيفرة الإشارات غير اللفظية مع الحفاظ على تدفق المحادثة في الوقت ذاته.
وبالمثل، تفتقر حجج أخرى مثل:
"الانطوائيون أكثر هدوءًا تحت الضغط" إلى أي أساس علمي.
فهذا الربط يوحي بأن الانطوائية ترتبط بالاستقرار العاطفي، بينما الحقيقة أن العلاقة بينهما ضعيفة، بل تسير في الاتجاه المعاكس في بعض الحالات!
استراتيجية النجاح: 3 قواعد ذهبية للقائد الانطوائي
هل يعني ذلك أن على الانطوائيين تجنب القيادة؟ إطلاقًا.
لكن عليهم أن يتعاملوا معها بذكاء استراتيجي، مسلحين بالأدلة لا بالأوهام.
3 قواعد ذهبية للقائد الانطوائي |
||
1- تصرّف كانبساطي، ولكن بذكاء استراتيجي. |
|
- تُظهر الدراسات أن قادة الأعمال الانطوائيين قادرون تمامًا على تبني سلوكيات انبساطية عند الحاجة، وعندما يفعلون ذلك، فإنهم يحصدون نفس ثمار القيادة التي يحصدها الانبساطيون بالفطرة.
- والمثير في الأمر، أن هذا السلوك يجعلهم يشعرون بسعادة ورضا أكبر.
- قد يحتج البعض: "لكن هذا تزييف للشخصية!". في الواقع، حين يُطلب من الانطوائيين التصرف بانبساطية، غالبًا ما يشعرون بأنهم أكثر أصالة، لا أقل.
- والسبب أن الانبساطية ليست مجرد سمة ثابتة، بل هي أيضًا "حالة" مؤقتة.
- كل انطوائي لديه لحظات يتصرف فيها بشكل منفتح وحازم. عندما تستدعي هذا الجانب من شخصيتك، أنت لا تتظاهر، بل تستخدم عضلة حقيقية وإن كانت أقل استخدامًا.
- نصيحة عملية: خطط للحظاتك "الانبساطية" بحكمة. خصص بعدها وقتًا للانفراد وإعادة شحن طاقتك.
- ولا تبالغ في الأداء، فهدفك هو استدعاء نسختك الانبساطية، وليس تقليد شخص آخر.
|
2- قم بصقل مهاراتك الاجتماعية، فالكفاءة تُكتسب. |
|
- لا تعتمد على طبيعتك، بل استثمر في تعلم فنون التواصل وممارستها، من الإلقاء العام إلى فن الاستماع الحقيقي.
- تذكر أن الاستماع لا يعني الاكتفاء بالصمت (وهو ما يجيده الانطوائيون)، بل هو طرح الأسئلة الذكية، والسعي للوضوح، وإشعار الآخرين بأنهم مسموعون بحق.
- قم بصقل ذكاءك العاطفي ومهاراتك في التأثير؛ فالقادة الانطوائيون الأكثر نجاحًا هم أولئك الذين بنوا كفاءتهم التفاعلية بجهد ومثابرة.
|
3- تخلَّ عن سردية "الشهيد المظلوم" |
|
- احذر من قصة "القائد الانطوائي النبيل الذي تم تجاهله"؛ فقد تبدو هذه السردية مُنصِفة، لكن تظهر الأبحاث أنها قد تأتي بنتائج عكسية تمامًا.
- إن تبني هوية "الضحية الانطوائية" وتحويلها إلى قضية شخصية يلغي التأثير الإيجابي للسلوك الانبساطي، ويعزز الشعور الزائف بانعدام الأصالة عند ممارسته.
|
لمسة إنسانية في عصر الذكاء الاصطناعي
- يجلب الانطوائيون العديد من نقاط القوة إلى بيئة العمل. ولكن عندما يتعلق الأمر بالقيادة على وجه التحديد، فإن "الانبساطية الاستراتيجية" ليست خيارًا، بل ضرورة.
- وستصبح هذه الضرورة أكثر إلحاحًا في عالم يتشكل باطراد بفعل الذكاء الاصطناعي. وفي القريب العاجل، لن تتمكن كقائد انطوائي من الاكتفاء بإرسال رسالة بريد إلكتروني، مهما كانت بليغة ودافئة، لأن فريقك سيشك حتمًا في أنها صيغت بمساعدة الذكاء الاصطناعي.
- ولكن، ماذا لو مررت بمكتب أحدهم، أو أجريت مكالمة سريعة لا تتجاوز خمس دقائق، وأظهرت فيها دفئًا واهتمامًا وطاقة حقيقية؟ ستكون تلك الدقائق القليلة هي العملة النادرة: حقيقية، وإنسانية، ومحفزة.
- لذا، حينما تحين تلك اللحظة الحاسمة، استدعِ ذاتك الانبساطية بثقة. أنت لا تتظاهر. إنها واحدة من أصدق أدواتك القيادية وأكثرها تأثيرًا.
المصدر: سيكولوجي توداي
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: