في إطار جهودها المتواصلة لتعزيز مسار التنمية المستدامة ضمن رؤيتها الوطنية 2030، رسخت دولة قطر خلال الأعوام الماضية نموذجا مؤسسيا للشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص، مدعوما بإطار تشريعي وتنظيمي متطور ومنظومة تنفيذية مرنة وبنية مؤسسية تساعد على جذب الاستثمارات وتحسين جودة الخدمات العامة.
واستند النموذج القطري للشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص على جملة مرتكزات، أبرزها إقرار القانون رقم 12 لسنة 2020 المنظم لهذه الشراكة، وإنشاء وحدة للشراكة في وزارة التجارة والصناعة تتولى دراسة المشاريع وتقييم الجدوى وتحديد نماذج التعاقد ومراقبة المنافسة العادلة، فضلا عن إطلاق الوزارة منصة إلكترونية لعرض مختلف المشاريع بالدولة بما يضمن الشفافية وإتاحة المعلومات أمام المستثمرين، كما وفرت هيئات متخصصة مثل مركز قطر للمال ومحكمة قطر الدولية، مظلة قانونية واستثمارية متقدمة تختصر الوقت والإجراءات وتؤمن فضاء قضائيا متخصصا للمنازعات التجارية، ما يعزز الطمأنينة لدى رأس المال الخاص.
ومع تواصل هذه الجهود تعززت هذه الشراكة في التعاقدات بين الجانبين الحكومي والخاص، ما أتاح للقطاع الخاص دورا محوريا في تمويل المشاريع وتشغيلها وصيانتها ضمن عقود طويلة الأجل ترتبط فيها العوائد بالأداء وتعاد عند انتهائها الأصول إلى الدولة.
وأوجد هذا المسار المؤسسي بيئة أعمال جاذبة رفعت من ثقة المستثمرين، ودفعت عجلة التنويع الاقتصادي بعيدا عن النفط والغاز، حيث جرى تحويل الشراكات إلى أدوات تنفيذية فعالة، لا تقتصر على سد فجوات التمويل أو تسريع تنفيذ البنية التحتية فحسب، بل تتعداها إلى نقل التكنولوجيا وبناء القدرات وتوطين المعرفة.
ويصف السيد راشد بن حمد العذبة النائب الثاني لرئيس غرفة قطر تجارب دولة قطر في مجال الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص بالناجحة، باعتبارها أداة فعالة للاستفادة من قدرات وإمكانات القطاع الخاص في تنفيذ المشاريع الاستراتيجية في الدولة، وركيزة أساسية لتحقيق أهداف رؤية قطر الوطنية 2030 وتنويع الاقتصاد وتعزيز استدامته.
وأكد العذبة، في تصريحات لوكالة الأنباء القطرية /قنا/، أن القطاع الخاص القطري قطع شوطا كبيرا في عدد المشروعات وفي قطاعات متنوعة مثل التعليم والصحة والبنية التحتية والأمن الغذائي والطاقة المتجددة والسياحة وغيرها من المجالات، ما يؤهله للمشاركة في المشروعات التي تطرحها الدولة في هذه المجالات.
وشدد على أن غرفة قطر، بصفتها ممثلا للقطاع الخاص، تدعم بشكل كامل هذا التوجه الوطني، وتتبني المبادرات التي تساعد في تعزيز الشراكات، وتدعو بشكل مستمر رجال الأعمال والشركات للاستفادة من الفرص المطروحة، كما تقوم من خلال اللجان القطاعية بمناقشة التحديات وتقديم المقترحات التي تسهم في تحسين آليات التنفيذ.
وأشار النائب الثاني لرئيس غرفة قطر إلى أن الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص تحقق فائدة للجانبين بما في ذلك توزيع المخاطر وتوفير الكفاءات والخبرات، وترشيد موازنة الدولة وتشجيع المنافسة والابتكار بين الشركات، كما تشجع على ضخ المزيد من الاستثمارات، وزيادة الاستثمارات الأجنبية بما يعزز مكانة قطر كوجهة جاذبة للاستثمار، فضلا عن توفير فرص للشركات القطرية الصغيرة والمتوسطة لتوسيع نطاق أعمالها والانخراط في سلاسل التوريد المحلية والعالمية.
ونوه بتوفير الدولة الإطار التشريعي والتنظيمي الداعم لهذه الشراكة، سواء من خلال القانون رقم (12) لسنة 2020 بشأن تنظيم الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص، أو من خلال مبادرات الوزارات والجهات الحكومية، وهو ما عزز ثقة المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء.
من جانبه، أكد الدكتور هاشم السيد الخبير المالي والاقتصادي أن دولة قطر تحرص على تشجيع القطاع الخاص وتهيئة الفرص أمامه كشريك أساسي في التنمية المستدامة.
وقال السيد، في تصريحات خاصة لوكالة الأنباء القطرية "قنا"، إن القطاع الخاص يثبت من جهته أنه على قدر المسؤولية، مستفيدا من التطور الاقتصادي الذي تشهده دولة قطر، ليحقق المزيد من الأرباح وليكون داعما حقيقيا في تنفيذ المشروعات الكبرى والنهوض بالخدمات الأساسية التي توفر الرخاء للمواطنين وتعزز من مكانة قطر الاقتصادية.
ونوه بأن القانون رقم 12 لسنة 2020 بتنظيم الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص يوفر بيئة تشريعية داعمة لهذه الشراكة، مثلما يوفر إطارا تشريعيا يدعم جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية لتنفيذ مشاريع مبتكرة في مختلف المجالات، كما يهدف إلى ترسيخ الشراكة والتعاون بين القطاعين وتشجيع المنافسة والابتكار، وتنويع وتوزيع وتخفيف المخاطر، بالإضافة إلى حوكمة وترشيد النفقات الموجهة للموازنة العامة للدولة وخلق القيمة المضافة للمشاريع وتعزيز فرص الحصول على التمويل.
وأضاف الخبير المالي والاقتصادي: "نلمس ثمرة هذه الجهود في الكثير من المشاريع الناجحة المنفذة بنظام الشراكة مثل مشاريع البنية التحتية والتعليم والصحة والرياضة والأمن الغذائي والمناطق اللوجستية وغيرها من المشاريع".
وأكد أن الشراكة تحمل أيضا العديد من الفوائد للقطاع الحكومي من خلال الاستفادة من الخبرة والمعرفة الفنية والتقنية في المشاريع التي يملكها القطاع الخاص، ونقل تلك الخبرات والمعرفة إلى القطاع الحكومي، فضلا عن تعزيز مبدأ التنافس في السوق وزيادة الإنتاجية وتحسين جودة الخدمات التي تقدمها الدولة وزيادة فرص العمل وتحسين وضع الدولة في المؤشرات الاقتصادية الدولية، وأهمها تقرير سهولة ممارسة أنشطة الأعمال، الأمر الذي يساهم في زيادة جذب الاستثمارات الأجنبية ويدعم مكانة قطر كوجهة مثالية للاستثمار.
وأشار في هذا الصدد إلى تقرير لوكالة ترويج الاستثمار لعام 2024، كشف عن نمو اقتصادي ملحوظ شهدته الدولة العام الماضي، إلى جانب تنفيذ إصلاحات استراتيجية في السياسات وتعزيز ثقة المستثمرين، حيث بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة 2.74 مليار دولار من خلال 241 مشروعا استثماريا جديدا، أسهمت في توفير 9,348 فرصة عمل.
ودعا الدكتور هاشم السيد الخبير المالي والاقتصادي، في تصريحاته لـ "قنا"، إلى الدقة في اختيار المشروعات ومراعاة العوامل المتعلقة بالجدوى الفنية والاقتصادية لها، وإبرام عقود تتسم بالتنافسية والشفافية في كافة مراحلها، وتفعيل الرقابة وتحليل المخاطر حتى تؤتي هذه الشراكة أفضل ثمارها، قائلا: "إن الشراكة لا تقوم على التشريعات والأنظمة فقط، ولكن أيضا يستلزم تعزيز الحوكمة والشفافية والإفصاح والمساءلة وتحديد المسؤوليات لضمان رفع الكفاءة وتعزيز التنافسية وهو ما تضعه دولة قطر في الحسبان".
وتشير المعطيات على الأرض إلى إنجازات ملموسة للشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص تجسد جدوى هذا النهج، ففي مسار البنية التحتية والخدمات، يتقدم قائمة المشاريع، مشروع مركز معالجة النفايات وتوليد الطاقة في مسيعيد بقدرات مصممة لمعالجة نحو 960 ألف طن من النفايات الصلبة سنويا وتحويلها إلى كهرباء، كما تتحرك هيئة الأشغال العامة "أشغال" بقوائم مشاريع موجهة للقطاع الخاص تشمل مباني حكومية ومحطات لمعالجة مياه الصرف، بما يعكس نهجا تدريجيا لتوسيع نطاق المشاركة وفق احتياجات كل قطاع.
ففي القطاع الصحي، يشير هذا النهج إلى حزمة مشاريع شراكة تعزز جودة الخدمات، أبرزها خدمات الرعاية المتكاملة للعمال ومراكز لغسيل الكلى، وهي مشاريع تقدم نموذجا لتوزيع المخاطر والمهام بين القطاعين بما يضمن الاستدامة المالية والخدمية، وفي مجال التعليم يظهر هذا النهج توسيع الشراكات في بناء وتشغيل المدارس وفق نماذج تضمن الجودة والاستدامة المالية، ما يعزز تطوير القدرات الوطنية ويربطها باحتياجات سوق العمل، ويزيد حصة المعرفة في الناتج المحلي انسجاما مع رؤية قطر 2030.
وفيما يتعلق بمسار الابتكار، تتبدى الشراكة كرافعة لاقتصاد المعرفة من خلال التعاون مع شركات عالمية لتسريع مشاريع الطاقة المتجددة والمدن الذكية، وتجارب حضرية ريادية في لوسيل ومشيرب قلب الدوحة، حيث تدمج التقنيات النظيفة مع الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء لإدارة الطاقة والنقل والخدمات بكفاءة أعلى.
فعلى صعيد الطاقة المتجددة، دخلت محطة الخرسعة الخدمة بقدرة 800 ميغاواط كأحد أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في المنطقة، وتتكامل معها محطتا رأس لفان ومسيعيد بإضافة إجمالية 875 ميغاواط، ويتقدم مشروع محطة دخان المستهدف بقدرة 2000 ميغاواط، ليصل إجمالي القدرة الشمسية إلى نحو 4000 ميغاواط بحلول عام 2030، ما يسهم في خفض الانبعاثات بنحو 4.7 مليون طن سنويا.
أما بيئة السوق، فتتلقى إشارات قوية من السياسات العامة، منها مشتريات حكومية ضخمة في قطاعات الصحة والأشغال والطاقة بقيمة تقارب 70 مليار ريال، وصادرات غير نفطية للقطاع الخاص بلغت 4 مليارات ريال خلال خمس سنوات، وموازنة عامة لعام 2025 بقيمة 210 مليارات ريال تقود الإنفاق التنموي.
وعلى مستوى التنويع الاقتصادي، تسهم الشراكة في رفع مساهمة القطاعات غير الهيدروكربونية، فمع التوسع في الطاقة النظيفة، تنشط قطاعات كالبحث والتطوير وحلول البرمجيات والخدمات اللوجستية، كما أن توسع "أشغال" في مشاريع البنية التحتية يحفز سلاسل التوريد المحلية من مواد البناء إلى إدارة المنشآت.
وتؤكد هذه المعطيات أن منصة الشراكة تسهم في توسيع قاعدة النشاط الاقتصادي وإشراك رواد الأعمال وسلاسل التوريد المحلية.
وتدعم وزارة المالية هذا التوجه من خلال برنامج "توطين" لرفع المكون المحلي، وتقديم ميزة سعرية بنسبة 10 في المئة للمنتج المحلي وغيرها من الإجراءات التي تحفز التصنيع المحلي وتربط التنمية بالاقتصاد الحقيقي.
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: