نبض أرقام
03:50 م
توقيت مكة المكرمة

2025/10/26
2025/10/25

رحلة في فكرة .. الرأسمالية في عيون نقّادها

08:01 ص (بتوقيت مكة) أرقام

يُعدّ جون كاسيدي، الكاتب البريطاني-الأمريكي في مجلة ذا نيويوركر، أحد أبرز الصحفيين الاقتصاديين في العالم.

 

اشتهر بكتابيه Dot.con الذي تناول فقاعة الإنترنت في تسعينيات القرن الماضي، وكيف تفشل الأسواق (How Markets Fail  ) الذي قدّم رؤية معمقة لأسباب الأزمة المالية الكبرى في 2008.

 

في كتابه الجديد Capitalism and Its Critics (الرأسمالية ونقّادها)، يعود كاسيدي إلى رحلة فكرية تمتد من القرن الثامن عشر حتى اليوم، عبر قراءة الرأسمالية من خلال أعين أبرز من انتقدوها وتأملوا آثارها المتقلبة على البشرية.

 

 

الطريقة الأذكى

 

يرى كاسيدي أن سرد تاريخ الرأسمالية من خلال ناقديها هو الطريقة الأذكى لفهمها، فالنظام الاقتصادي الذي أعاد تشكيل العالم مرارًا ما زال يثير إعجابًا وريبة في آن واحد.

 

يبدأ الكاتب من الحقبة الاستعمارية التي جسدتها شركة الهند الشرقية، حيث رأى الموظف الساخط وليم بولتس كيف يمكن للاحتكار أن يتحول إلى آلة نهب منظّم. وينتهي إلى أزمات عصرنا الراهن: التفاوت الصارخ في الثروة، والاضطرابات المالية، والأوبئة، والحروب، وتغير المناخ، وثورة الذكاء الاصطناعي.

 

يسمي البعض هذه المرحلة «الأزمة المتعددة» أو polycrisis، بينما يرى آخرون فيها بداية النهاية للرأسمالية ذاتها.

 

تعريف كاسيدي للرأسمالية

 

لكن ما هي الرأسمالية؟ يعرّفها كاسيدي بأنها «نظام اقتصادي يقوم على السوق حيث يمتلك الأفراد وسائل الإنتاج ويُوظفون العمال والمديرين لتسييرها».

 

نظام بسيط في جوهره، لكنه يتميز بقدرته الفريدة على إحداث «ثورة دائمة» في كل مرة يتطور فيها.

 

يستعرض كاسيدي في كتابه مجموعة غير متجانسة من النقّاد: من الراديكاليين مثل كارل ماركس وفريدريك إنجلز، إلى الإصلاحيين مثل جون ماينارد كينز.. ومن المنظّرين الليبراليين مثل فريدريش هايك وميلتون فريدمان، إلى الناشطات اللواتي ناضلن من أجل العدالة الاجتماعية مثل آنا ويلر وفلورا تريستان وسيلفيا فيديريتشي التي طالبت بأجر لعمل المرأة المنزلي.

 

كما يخصص صفحات لرموز الفكر الاجتماعي مثل روزا لوكسمبورغ، وتوماس كارلايل، وهنري جورج، وجون هوبسون.

 

لحظات مفصلية

 

ويُبرز الكتاب اللحظات المفصلية في مسار الفكر الاقتصادي، خصوصًا بعد الحربين العالميتين.

 

في عام 1944، صدرت مؤلفتان شكلتا اتجاهين متناقضين: الطريق إلى العبودية لفريدريش هايك الذي حذّر من أن الاشتراكية تقود إلى الديكتاتورية، والتحول العظيم لكارل بولاني الذي رأى العكس تمامًا، معتبراً أن السوق الحرة هي من ولّدت السلطوية وردّات الفعل الجماعية.

 

أما في النصف الثاني من القرن العشرين، فظهرت موجات فكرية جديدة: من الماركسيين الجدد مثل بول سويزي وميخال كاليكي، إلى منظّري «الاعتماد المتبادل» في أمريكا اللاتينية الذين اعتبروا أن اندماج الدول الفقيرة في النظام الرأسمالي العالمي يعمّق تخلفها.

 

وبرز في هذا السياق الاقتصادي المصري سمير أمين، إضافة إلى مفكرين معاصرين مثل جوزيف ستيغليتز وداني رودريك اللذين طرحا رؤى نقدية للعولمة والأسواق المفتوحة.

 

 

مقاربات بيئية

 

وتتجلى في الكتاب أيضاً المقاربات البيئية المبكرة التي سبقت عصر الوعي بالمناخ، مثل أفكار جي. سي. كومارابا، مستشار غاندي، والاقتصادي الروماني نيكولاس جورجيسكو-روغن، مؤسس الاقتصاد البيئي، الذي رأى أن وقف النمو لا يكفي، بل يجب خفض الإنتاج والاستهلاك جذريًا.

 

في الفصل الأخير، يبرز كاسيدي الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي كأحد أبرز نقاد الرأسمالية المعاصرين، رغم أنه ليس ماركسيًا. فقد أعاد عبر أبحاثه حول عدم المساواة إحياء الفكرة الجوهرية التي طرحها ماركس: أن الرأسمالية بطبيعتها تُعمّق الفوارق الطبقية بمرور الزمن.

 

ويستخلص كاسيدي ثلاثة دروس كبرى من هذه الرحلة الفكرية الممتدة:

 

أولها، أن الاتهامات الجوهرية الموجهة إلى الرأسمالية لم تتغير كثيرًا عبر القرون: فهي منظومة «بلا روح، استغلالية، غير عادلة، غير مستقرة، ومدمرة، لكنها في الوقت نفسه طاغية ولا تُقهر.

 

وثانيها، أن الرأسمالية تعيش دائمًا بين حالتين: ازدهار وذعر. فهي — كما يقول — «دائمًا في أزمة، أو خارجة من أزمة، أو تتجه نحو أخرى.

 

أما الدرس الثالث، فهو قدرة الرأسمالية على التكيّف والتحوّل، من الثورة الصناعية إلى صعود الشركات العملاقة، وصولًا إلى ثورة الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي.

 

صعود الدولة الكبرى

 

ورغم تنبؤ كثيرين بانهيار الرأسمالية، يلاحظ كاسيدي أن النظام نجا في كل مرة، بفضل ما لم يتوقعه النقاد الأوائل: «صعود الدولة الكبرى»، والتي تتسم بدورها في الرعاية الاجتماعية، ودورها في تحقيق التوازن.

 

ومع الوقت، تطورت السياسة من الملكية إلى الديمقراطية، ومن الإمبراطوريات إلى الدول الوطنية، ومن الدولة الحارسة إلى دولة الرفاه.

 

غير أن الكاتب يرى أن الرأسمالية تواجه اليوم منعطفًا خطيرًا: تصاعد النزعات السلطوية التي تهدد التحالف التاريخي بين الرأسمالية والديمقراطية، وانهيار النظام الليبرالي العالمي، وصعود قوى جديدة تجمع بين الشيوعية والرأسمالية، إلى جانب أزمات المناخ والتكنولوجيا التي تضع المجتمعات أمام معضلات أخلاقية وسياسية عميقة.

 

ومع أن البعض يصرّ على أن «هذه المرة مختلفة» وأن النهاية اقتربت، يرفض كاسيدي هذا التشاؤم، ويختتم قائلاً: «لن تستقر الرأسمالية أبدًا، وستبقى في حالة تحول دائم... حتى يثبت التاريخ يومًا ما أن نقّادها كانوا على حق».

 

المصدر: فاينانشال تايمز

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.