في خضم عالم يموج بالمتغيرات المتسارعة، وتطغى عليه فوضى المعلومات، وتُعيد فيه خوارزميات الذكاء الاصطناعي رسم ملامح كل شيء، بدءًا من الاقتصاد إلى التواصل الإنساني، يبرز سؤال جوهري: ما السمة التي تميّز القائد الفذ عن المدير العادي؟

- هذا المشهد الضبابي، تتجه الأنظار نحو صفة واحدة أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى: الرؤية. إذ لم تعد الرؤية مجرد ترفٍ فكري، بل أضحت ضرورة استراتيجية للبقاء والريادة.
- أن تكون قائدًا صاحب رؤية يعني أنك تمتلك بوصلة داخلية توجه سفينتك وسط العواصف، لا مجرد مجاديف تدفعها في أي اتجاه. إنها القدرة على رؤية ما هو أبعد من الأفق المباشر، وتخيل مستقبل لم يوجد بعد، ثم إلهام الآخرين لبنائه.
جوهر القيادة الملهمة: ما يقوله الخبراء
- يؤكد خبراء القيادة والإدارة على الدور المحوري للرؤية، حيث يرى آدم جالينسكي، الأستاذ ورئيس قسم الإدارة في كلية كولومبيا للأعمال، أن القيادة الملهمة ترتكز على ثلاثة أعمدة: أن تكون مرشدًا، ومثالًا يُحتذى به، وصاحب رؤية.
- ويُفصّل جالينسكي مكوّنات القائد صاحب الرؤية في 3 خطوات عملية:
- أولًا، صياغة صورة كلية للمستقبل تكون متفائلة وقائمة على قيم راسخة.
- ثانيًا، تبسيط هذه الصورة وتجسيدها في جوهرها الأساسي لتكون واضحة وقابلة للتخيل.
- ثالثًا، تكرار هذه الرؤية مرارًا وتكرارًا حتى تترسخ في وعي الفريق وتصبح جزءًا من ثقافته.
- هذا الرأي لا ينفرد به جالينسكي. فقد أجرى جيمس كوزيس وباري بوسنر، أستاذا القيادة في جامعة سانتا كلارا، مسحًا شمل آلاف الأشخاص حول العالم لسؤالهم عما يتطلعون إليه في قادتهم.
- كانت النتيجة مذهلة؛ حيث احتلت صفة "التطلع إلى المستقبل" (أي أن يكون القائد صاحب رؤية، وبصيرة، ومهتمًا بالمستقبل) المرتبة الثانية مباشرة بعد "الصدق والأمانة" كأكثر صفة قيادية إثارة للإعجاب.
- ويضيف مايكل واتكينز، الأستاذ في كلية "آي إم دي" للأعمال، إلى هذا الإجماع بقوله: "يقدم القادة أصحاب الرؤى أهدافًا ملهمة تساعد المؤسسات على تجاوز المصالح الذاتية الضيقة والانقسامات الداخلية".
- فالرؤية تعمل كقوة توحيد، تحشد الطاقات نحو غاية أسمى تتجاوز الأهداف الفردية.

بيتر دراكر: مهندس الإدارة الحديثة
- إذا أردنا أن نبحث عن مثال حي يجسد معنى القائد صاحب الرؤية، فمن الصعب أن نجد من يضاهي بيتر دراكر، الذي يُلقب عن جدارة بـ "أبو الإدارة الحديثة".
- على مدار مسيرته المهنية التي امتدت لأكثر من سبعين عامًا حتى وفاته في عام 2005، كان دراكر أول من نظر إلى "الإدارة" كتخصص علمي وفني قائم بذاته.
- لم يكتفِ بذلك، بل صقل هذا المفهوم عبر عشرات الكتب والمحاضرات والاستشارات، محولًا إياه من مجرد مجموعة من الإجراءات البيروقراطية إلى فن إنساني يهدف إلى تحقيق الإنتاجية والفعّالية.
- امتدت رؤيته لتشمل قطاعات لم تكن تُعتبر ميدانًا للإدارة، حيث أسس لبرامج تعليم المديرين التنفيذيين الرائدة في كلية دراكر للإدارة بجامعة كليرمونت للدراسات العليا.
- والأهم من ذلك، أنه كان لديه إيمان عميق بأن المنظمات غير الربحية الناجحة يمكن أن تقدم دروسًا إدارية لا تُقدر بثمن لقطاع الأعمال، وهو ما كان يُعتبر فكرًا ثوريًا في حينه.
مجالس العمالقة: بصحبة أصحاب الرؤى
- حافظ دراكر على حدة بصيرته ورؤيته عبر العقود من خلال إحاطة نفسه بنخبة من أصحاب الرؤى الآخرين.
- ففي مذكراته التي صدرت عام 1978 بعنوان "مغامرات متفرج"، يكشف دراكر أن بكمنستر فولر ومارشال ماكلوهان كانا صديقين له قبل وقت طويل من أن يصبحا من المشاهير.
- أما بكمنستر فولر، فقد كان معماريًا، وكاتبًا، ومصممًا، وفيلسوفًا، ومستقبليًا. لقد كان تجسيدًا للشخصية الكاريزمية ذات الرؤية التي تجد دائمًا مستثمرين في وادي السيليكون.
- في حين لا تزال أفكار مارشال ماكلوهان حول الإعلام والنظرية الثقافية ترشدنا حتى اليوم. في كتبه الكلاسيكية مثل "فهم وسائل الإعلام: امتدادات الإنسان" الصادر عام 1964، منحنا فكرتين خالدتين:
- "الوسيط هو الرسالة"، وهو المفهوم الذي يعني أن طبيعة الوسيلة التكنولوجية التي نستخدمها تشكّل مجتمعنا وإدراكنا أكثر من المحتوى الذي تنقله.
- كما بشرنا بقدوم "القرية العالمية"، حيث تلغي وسائل الاتصال الفوري المسافات وتجعل العالم مكانًا مترابطًا.

دروس خالدة في فن صناعة المستقبل
- من خلال استخلاص الحكمة من الأعمال التراكمية لهؤلاء العمالقة، يمكننا رسم خارطة طريق لأي شخص يطمح إلى أن يصبح قائدًا صاحب رؤية، سواء في مجال عمله أو في حياته. وهذه بعض الدروس الأساسية:
1- خالط أصحاب الرؤى وتعلم منهم: أحط نفسك بأشخاص من مختلف المجالات يمتلكون بصيرة نافذة. إن التلاقح الفكري يوسع الآفاق ويشعل شرارة الإبداع.
2- ادرس سير العظماء: اقرأ عن حياة أصحاب الرؤى في الماضي والحاضر. تقدم قصصهم نماذج ملهمة حول كيفية التغلب على التحديات وتحويل الأفكار الجريئة إلى واقع.
3- ابقَ على اطلاع دائم: كن واعيًا بالتغيّرات التي تحدث في العالم، ليس فقط في مجالك، بل في مختلف الميادين. الفضول المعرفي هو الوقود الذي يغذي الرؤية.
4- كن يقظًا في تنفيذ رؤيتك: لا يكفي أن تحلم. يجب أن تكون هناك نية واضحة واستراتيجية لتحويل الرؤية إلى أفعال، حتى لو تطلب ذلك وقتًا وجهدًا هائلين.
5- تحدث واكتب بلغة البساطة والوضوح: إن أعظم الأفكار هي تلك التي يمكن التعبير عنها ببساطة. لقد أصبحت عبارات مثل "القرية العالمية" لماكلوهان خالدة لقدرتها على تكثيف فكرة معقدة في كلمتين.
6- لا تخشَ تحدي المسلمات: غالبًا ما تولد الرؤى العظيمة من التمرد على الحكمة التقليدية والأفكار السائدة. الشجاعة في طرح الأسئلة الصعبة هي سمة أساسية للقائد صاحب الرؤية.
7- اجعل رؤيتك في خدمة الآخرين: تتجلى أعظم الرؤى عندما تكون موجهة لخدمة قضية أكبر من الذات. إن ربط الرؤية بالغاية والهدف يمنحها قوة أخلاقية وإنسانية هائلة.
- في النهاية، أن تصف نفسك بأنك "صاحب رؤية" شيء، وأن تكون كذلك بالفعل شيء آخر تمامًا. إنها ليست مجرد تسمية تطلقها على نفسك، بل شرف رفيع يمنحه لك الآخرون، اعترافًا بالأثر الإيجابي الذي تركته.
- قد لا تتحقق رؤيتك بالكامل في حياتك، وقد يكون تأثيرها الأكبر على أجيال لم تلتقِ بها شخصيًا. إن الحكم النهائي على ما إذا كنت صاحب رؤية حقيقيًا أم لا، هو قرار يتركه التاريخ والناس الذين تأثروا بعملك، الآن وفي المستقبل.
المصدر: سيكولوجي توداي.
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: