رغم العناوين المتفائلة التي تتحدث عن نمو الاقتصاد الأمريكي بأسرع وتيرة له منذ عامين، وقف "مايكل جونز" يراجع فاتورة الكهرباء للمرة الثالثة، فالأرقام أمامه واضحة، لكنها لا تمنحه أي طمأنينة.

ورغم أن دخله لم ينخفض، ولم يفقد وظيفته يشعر "جونز" -مثل ملايين الأمريكيين- أن حياته أصبحت أكثر صعوبة رغم أن الأخبار تخبره يوميًا أن الاقتصاد الأمريكي ينمو بل وسجل أسرع وتيرة له منذ عامين.
ويعمل "جونز"، البالغ من العمر 42 عامًا، في شركة لوجستية متوسطة الحجم، وقد ارتفع راتبه هذا العام، لكن الزيادة لم تكن كافية لمجاراة ارتفاع أسعار السكن، والطاقة، والتأمين الصحي.
وقبل خمس سنوات، كان يستطيع الادخار بنهاية كل شهر، ولكن اليوم بالكاد يغطي التزاماته الأساسية، وبينما تتحدث التقارير الرسمية عن نمو اقتصادي قوي وناتج محلي إجمالي يتجاوز التوقعات، يتساءل مايكل بصوت خافت: أين يذهب كل هذا النمو؟
قصة مايكل ليست استثناءً، بل تمثل شريحة واسعة من الأمريكيين الذين يعيشون مفارقة اقتصادية غير مسبوقة: اقتصاد يحقق أرقامًا قوية على الورق، لكن تأثيره لا يصل إلى الحياة اليومية للمواطنين.
فالنمو الذي تحتفي به المؤشرات الكلية لا يعني بالضرورة تحسنًا في الأجور الحقيقية أو شعورًا بالأمان الوظيفي، ولا ينعكس دائمًا على القدرة على الادخار أو التخطيط للمستقبل، بل يقاس بالناتج المحلي الإجمالي على اعتبار أنه المؤشر الأهم لصحة الاقتصاد.
ويكشف الأداء الاقتصادي في السنوات الأخيرة، ولا سيما في الولايات المتحدة، مفارقة متزايدة، وكيف يمكن أن ينمو الاقتصاد بقوة دون أن ينعكس ذلك على حياة المواطنين اليومية.
تركز النمو واتساع الفجوة
كشفت بيانات صدرت الأسبوع الماضي عن أن الناتج المحلي الأمريكي سجل نموًا قويًا بلغ 4.3% ومع ذلك، أظهرت استطلاعات الرأي وتراجع ثقة المستهلكين أن شريحة واسعة من الأمريكيين لا تشعر بتحسن أوضاعها المعيشية، وأصبح القلق الاقتصادي حاضراً بقوة.
هذه الفجوة بين الأرقام الكلية والتجربة المعيشية والتي تعد ظاهرة عالمية تتغذى على عوامل مثل اتساع فجوة عدم المساواة، وتركيز مكاسب النمو لدى فئات محدودة، وتغير طبيعة سوق العمل بفعل التكنولوجيا، إضافة إلى تأثير السياسات الاقتصادية والجيوسياسية.

ويعد أبرز أسباب عدم شعور المواطنين بالنمو الاقتصادي هو أن ثمار هذا النمو لا تتوزع بالتساوي، فالناتج المحلي الإجمالي يقيس حجم الإنتاج، لكنه لا يوضح كيف تُوزّع العوائد بين فئات المجتمع.
فعلى سبيل المثال يشير تقرير شبكة سي إن إن، إلى أن تسارع النمو الأمريكي في 2025 جاء مدفوعًا بارتفاع إنفاق المستهلكين، والاستثمار في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وتحسن الصادرات.
غير أن هذه الصورة الإيجابية تخفي واقعًا أكثر تعقيدًا، يتمثل في اقتصاد منقسم على شكل حرف كيه (K)، حيث تتركز مكاسب النمو لدى الفئات الأعلى دخلًا التي تستفيد من ارتفاع أسعار الأسهم والعقارات وتعاظم قيمة الأصول.
في حين تواجه الطبقة المتوسطة وذوو الدخل المحدود ضغوطًا متزايدة نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع القدرة الشرائية، ما يعمّق الفجوة الاقتصادية ويجعل أثر النمو محدودًا على شرائح واسعة من المجتمع.
وتشير بيانات بنك أوف أمريكا إلى أن نمو الأجور الحقيقي تفوق على التضخم فقط لدى أصحاب الدخول المرتفعة، في حين لم تلحق أجور الطبقات الأخرى بارتفاع الأسعار.
هذه الظاهرة تتجاوز حدود الولايات المتحدة، فوفق تقرير حديث نشرته صحيفة لوموند الفرنسية فإن الشريحة الأعلى ثراءً في العالم باتت تستحوذ على حصة متزايدة من الثروة العالمية، ويمتلك قلة قليلة من الأثرياء ثروة تفوق ما يملكه أفقر نصف سكان العالم مجتمعين.
ويؤكد التقرير أن العائد على رأس المال ينمو بوتيرة أسرع بكثير من الأجور، ما يعني أن الاقتصادات قد تنمو عبر أرباح الشركات والاستثمارات المالية، دون أن تتحسن دخول العاملين.
ويصف الاقتصاديون هذا الاتجاه بمصطلح "انفصال الأجور عن الإنتاجية"، حيث يزداد الإنتاج الاقتصادي، لكن الأجور لا تواكب هذا النمو، ونتيجة لذلك، لا يشعر العامل العادي بتحسن حقيقي في مستوى معيشته، رغم تحسن المؤشرات الاقتصادية العامة.
ضعف سوق العمل وتباطؤ نمو الأجور
حتى في ظل نمو اقتصادي قوي، قد تبقى أوضاع سوق العمل دون المستوى الذي يجعل المواطنين يشعرون بتحسن ملموس في حياتهم اليومية.
فجزء كبير من النمو الاقتصادي في الفترة الأخيرة تحقق من خلال تحسين الإنتاجية والتوسع في استخدام التقنيات الحديثة، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، بدلًا من الاعتماد على خلق وظائف جديدة.

وأشارت تحليلات نشرتها وكالة رويترز إلى أن العديد من الشركات باتت قادرة على زيادة إنتاجها وأرباحها دون الحاجة إلى توسيع التوظيف بالوتيرة نفسها، وهو ما يُعرف اقتصاديًا بظاهرة «النمو بلا وظائف»، حيث ترتفع المؤشرات الكلية فيما تبقى فرص العمل محدودة.
وفي الوقت ذاته، لا تزال الأجور عاجزة عن مجاراة الضغوط التضخمية التي يلمسها المواطنون بشكل مباشر.
فعلى الرغم من تسجيل زيادات اسمية في الأجور، فإن ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية يلتهم جزءًا كبيرًا من هذه الزيادات.
ووفق بيانات حكومية أمريكية، ارتفعت أسعار الكهرباء بنحو 7%، وزادت أسعار الغاز الطبيعي المستخدم في التدفئة بنسبة 9%، في حين قفزت أسعار اللحم المفروم بنسبة 15% على أساس سنوي.
في المقابل، لم يتجاوز نمو الأجور لدى الطبقة المتوسطة 2.3%، ولدى ذوي الدخل المحدد 1.4%، ما يعكس تراجعًا فعليًا في القوة الشرائية واتساع الفجوة بين الدخل وتكاليف المعيشة.
ويضاف إلى ذلك تراجع الشعور بالأمان الوظيفي، الذي بات عاملًا أساسيًا في تشكيل المزاج الاقتصادي العام.
فبحسب بيانات مجلس المؤتمرات الأمريكي، انخفضت نسبة المستهلكين الذين يتوقعون تحسنًا في فرص العمل خلال الأشهر المقبلة، في حين ارتفعت المخاوف المرتبطة بفقدان الوظائف.
كما بلغ معدل البطالة 4.6% في أواخر عام 2025، وهو أعلى مستوى له خلال أربع سنوات.
هذا القلق المتزايد يعمّق الإحساس بأن الاقتصاد، رغم أرقام نموه القوية، لا يعمل بالضرورة لصالح المواطن العادي، ولا يوفر له الاستقرار الذي يفترض أن يصاحب فترات الانتعاش الاقتصادي.
السياسات الحكومية والأهداف الجيوسياسية
تلعب السياسات الاقتصادية والجيوسياسية دورًا محوريًا في تفسير الفجوة بين معدلات النمو الاقتصادي ورفاه المواطنين، إذ قد تسهم بعض هذه السياسات في تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي، بينما تترك آثارًا مباشرة وسلبية على الحياة اليومية للأفراد.

ومن بين أبرز هذه الأدوات، استخدمت واشنطن العقوبات الاقتصادية على مدى عقود كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية، غير أن التجارب التاريخية تُظهر أن كلفة هذه العقوبات غالبًا ما تتحملها الشعوب.
ولعل الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" مؤخرًا على الواردات القادمة من الصين وعدد من الشركاء التجاريين الآخرين تسلط الضوء على الكلفة الداخلية للسياسات الحمائية والعقوبات الاقتصادية.
ورغم أن هذه الإجراءات رُوج لها باعتبارها وسيلة لحماية الصناعة الأمريكية ودعم النمو، فإن بيانات اقتصادية أظهرت أنها أسهمت في رفع تكاليف الإنتاج على الشركات المحلية المعتمدة على المكونات المستوردة، ما انعكس في زيادة أسعار السلع النهائية على المستهلكين.
كما دفعت حالة عدم اليقين المرتبطة بالسياسة التجارية العديد من الشركات إلى تأجيل خطط التوسع والتوظيف، وهو ما حدّ من تحسن سوق العمل.
ومع ارتفاع كلفة الواردات والمواد الأولية، تتآكل المكاسب الحقيقية للنمو الاقتصادي، فيسجل الاقتصاد نموًا رقميًا في الناتج المحلي الإجمالي، بينما يدفع المواطن ثمنًا أعلى للسلع الأساسية التي يعتمد عليها في حياته اليومية.
ويُضاف إلى ذلك أن الناتج المحلي الإجمالي، رغم أهميته كمؤشر اقتصادي، يبقى أداة قاصرة عن قياس الرفاه الحقيقي للمجتمعات، فهو لا يعكس كيفية توزيع الدخل بين فئات المجتمع، ولا يقيس جودة الوظائف أو مستوى الأمان الاجتماعي.
وإدراكًا لهذه الحدود، بدأت بعض الدول، مثل نيوزيلندا، بتبني مؤشرات بديلة تركز على جودة الحياة والرفاه الاجتماعي إلى جانب النمو الاقتصادي، في محاولة لتقديم صورة أشمل عن أداء الاقتصاد وتأثيره الفعلي على حياة الناس.
ورغم أهمية النمو الاقتصادي، فهو في نهاية المطاف ليس ضمانة لتحسن حياة المواطنين، فقد تنمو الاقتصادات عبر أرباح الشركات وارتفاع قيمة الأصول المالية، بينما تبقى الأجور راكدة، وتزداد تكاليف المعيشة، ويتعمق القلق الوظيفي.
ومن هنا، يصبح من الضروري تجاوز التركيز الأحادي على الناتج المحلي الإجمالي، والانتقال إلى مقاربة أشمل تأخذ في الاعتبار جودة الحياة، والاستقرار المعيشي، فالنمو الحقيقي هو ذلك الذي يشعر به المواطن في حياته اليومية، لا فقط في التقارير الاقتصادية.
المصادر: أرقام- وكالة رويترز- شبكة سي إن إن- مكتب إحصاءات العمل الأمريكي- بنك أوف أمريكا- البنك الدولي- صحيفة لوموند- وزارة الخزانة الأمريكية
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: