لا يزال نظام بيع السلم الذي طرحه مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورتها التاسعة عشرة، كبديل عن بيع التورق في الصيرفة الإسلامية مثار جدل ومحط خلاف بين المصارف الإسلامية المحلية . فبينما تبنى بعضها قرار المجمع، تجنبا للشبهات الذي أثارها اعتماد التورق واستغلاله من قبل بعض المصارف لمنح عملائها تسهيلات نقدية مباشرة (كاش)، رفض البعض الآخر التخلي عن التورق بحجة أن المشكلة ليست في النظام وإنما في سوء استغلاله، وبالتالي التزام المصارف الإسلامية بالأنظمة المصرفية الشرعية الصحيحة أو المتفق عليها، هو الذي يبقيها خارج دائرة الشبهات، وليس استبدال نظام بآخر .وبين الرفض والقبول، تقف فئة ثالثة من المصارف الإسلامية تدرس قبول النظامين أو رفضهما، وفقاً لسياسة المصرف وأهدافه فقط، مع الالتزام بالمعايير والشروط الشرعية المطلوبة في النظامين .
عرف مجمع الفقه الإسلامي في اجتماعه الذي عقد في أبريل (نيسان) الماضي بالشارقة، التورق المنتظم في الاصطلاح المعاصر بأنه شراء المستورق سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمن مؤجل يتولى البائع (الممول) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك، وذلك بثمن حال أقل غالبا، أما التورق العكسي فهو صورة التورق المنظم نفسها مع كون المستورق هو المؤسسة والممول هو العميل . وبناء على هذا أصدر المجمع القرار رقم 179 الذي ينص على عدم جواز التورقين (المنظم والعكسي) لأن فيهما تواطؤا بين الممول والمستورق، صراحة أو ضمنا أو عرفا، تحايلا لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو ربا، ودعا المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية إلى تجنب الصيغ المحرمة والمشبوهة واستخدام صيغ الاستثمار والتمويل المشروعة كبيع (السلم) .
يقول الدكتور حسين حامد حسان، الخبير في الصيرفة الإسلامية وعضو الهيئة الشرعية في العديد من المصارف الإسلامية، إن السلم أحد عقود التمويل الشرعية التي أجمعت عليها الأمة، وفوائده كثيرة جدا، ومنها أن المنتج يستطيع أن يمول إنتاجه بعقد شرعي وأن يبيع إنتاجه أو المحصول حتى قبل أن يبدأ بالإنتاج، فيفيده في تكلفة الإنتاج وأيضا معناه أنه سوق لإنتاجه حتى قبل أن ينتج، ويبدأ في حساب مصاريف وتكلفة الإنتاج بناء على الثمن الذي باع به .
وبحسب حسان يجب أن يتقيد بيع السلم، أو بيع المفاليس (الذين لا يملكون مالا) كما يسمى أحيانا، بشروط هي، دفع الثمن عند التعاقد، أو خلال ثلاثة أيام على الأكثر، وصف البضاعة وصفا دقيقا (محددا ومعلوما)، أن تكون الكمية وموعد التسليم معلومين . ويؤكد الدكتور حامد أن عقد السلم طبق في بعض البنوك الإسلامية بشكل صحيح تماما ولا يثير الشبهات، على عكس التورق الذي يكون في غالب الأحيان بيعا صوريا، لا يحتاج فيه المشتري البضاعة الممولة، وإنما يأخذها بغرض الربح وتوفير النقد لطالب التمويل، فيكون التورق بذلك أقرب للاقتراض بفائدة .
ويوضح حسان أن حكم المجمع الفقهي حول التورق أو السلم، ليس ملزما للمصارف الإسلامية، والقرار المباشر أو النهائي في هذه المسألة أو غيرها، يعود للهيئة التشريعية الخاصة بكل مصرف على حدة . كما أن العديد من المصارف الإسلامية لم تعتمد التورق في عملها أصلا كي تستبدله ببيع السلم، ويبقى استخدامها للأخير قراراً خاصاً بها تحدده هيئاتها التشريعية وفق استراتيجية المصرف وأهدافه .
ويعتبر بنك أبوظبي التجاري أول بنك يقوم بطرح برنامج التمويل النقدي للأفراد وفق مبدأ بيع السلم . ويقول عصام أحمد باعطب، رئيس منتجات تمويل الأفراد في دائرة الصيرفة الإسلامية “ميثاق” بالبنك، أن اعتماد البنك لهذا المبدأ جاء بغرض التميز أولا وللابتعاد عن الشبهات التي يمكن أن تثار حول تقديم بعض المنتجات الإسلامية الأخرى مثل التورق ثانيا، ونظرا لقلة الشركات المحلية أو الإقليمية، التي تتعامل مع مثل هذه العمليات قرر البنك التعامل في شراء السلع مع شركات دولية لها الخبرة الكافية، ويتعامل البنك حالياً في 9 سلع من السلع المعدنية غير الثمينة .
وأضاف باعطب أن عملية تنفيذ بيع السلم تتم عبر مراحل وترتيبات عدة لضمان حقوق البنك والعميل، بدءاً من التقدم لطلب هذا النوع من التمويل ووصولا للتسديد، مشيرا إلى أن البنك قام بوضع آلية دقيقة وآمنة جدا أتاحت له، خلال ،2009 تقديم تمويلات (للأفراد والشركات) بملايين الدراهم، وفق مبدأ السلم دون أن يتعرض لأي إشكاليات أو صعوبات .
وحول مخاطر تقلب الأسعار مع الزمن، أوضح باعطب أن هيئة الفتوى والرقابة الشرعية لدى بنك أبوظبي التجاري ثبتت قيمة السلعة المسلمة من العميل بغض النظر عن حجم وكمية السلع المقابلة لهذه القيمة في موعد السداد، منوها إلى أنه من الممكن تغير السلعة في حال وقوع طارئ ما، لكن بشروط محددة تضمن حقوق البنك وتوافق قيمة السلع السابقة .
ويرى حسين القمزي الرئيس التنفيذي لمجموعة نور الاستثمارية، المالكة لبنك نور الإسلامي،أنه من المعروف أن عقود “السلم” و”التورق” هي عقود مقبولة لدى علماء الشريعة البارزين الذين يقدمون استشاراتهم للمؤسسات المالية الإسلامية في جميع أنحاء العالم . حتى أن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، وهي المنظمة المعنية بإعداد وإصدار المعايير في هذا المجال، أصدرت المعيار المحاسبي رقم 10 والمعيار المحاسبي رقم 30 لتكون بمثابة المرشد في إدارة المنتجات التي تعمل على أساس هذه العقود .
وقال “وحول المنتجات القائمة على التورق فإنها تستند إلى قدرة المؤسسات على الامتثال الكامل لمتطلبات الشريعة الإسلامية كما حددتها معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية . ونود هنا أن نؤكد أننا في بنك نور الإسلامي، قمنا بتطوير آلية مراقبة فعالة للتأكد من إدارة المنتجات مع الامتثال الصارم لتلك المتطلبات” . وتبعاً لذلك، وباعتبار بنك نور الإسلامي مؤسسة مالية مبتكرة وحيوية، فإننا قد نقوم بتطوير حلول مالية مبنية على كلا المفهومين، دون إعطاء الأولوية لأحدهما، وسنحرص دائماً على أخذ عوامل المخاطرة في الاعتبار عند تطوير المنتجات وإبرام العقود مع الأطراف المعنية . ويمكن تطبيق عقود السلم والتورق في منح التمويل للعملاء، واستثمار الأموال في المؤسسات الأخرى (منتجات الأصول)، وقبول النقد أو الودائع من الأطراف الأخرى (منتجات الالتزامات) . ومع ذلك، يبقى موقف البنك بالنسبة لعقود السلم أكثر خطورة مما هو عليه مع عقود التورق . على سبيل المثال، في إطار منتجات الأصول، يتعرض البنك الذي يقوم بدور “مانح النقد” في عقود التورق لمخاطر الائتمان المتعلقة بالعملاء فقط، في حين يكون العميل مسؤولاً عن المبلغ الأساسي إضافة إلى أرباح البنك . أما في إطار عقود السلم، فيقوم البنك بتوفير رأس المال للعميل من خلال شراء السلع التي سيتم تسليمها في المستقبل من قبل العميل، وهنا يتعرض البنك لنوعين من المخاطر، هما مخاطر التسليم من قبل العميل بالإضافة إلى مخاطر السوق بالنسبة للسلع التي سيتم تسليمها . وهناك احتمال أن تكون أسعار السلع الأساسية أقل من القيمة السائدة في السوق، مما سيعرض البنك لموقف سلبي . كما سيتعرض البنك لنفس الموقف فيما يتعلق بمنتجات الالتزامات، حيث يكون البنك الذي يقوم بدور “مستلم النقد” - من خلال بيع السلع التي من المقرر تسليمها في المستقبل إلى الطرف الثاني - هو المسؤول عن شراء السلع من السوق في تاريخ التسليم قبل تسليمها للطرف الثاني . ونتيجة لذلك، يمكننا أن نلاحظ الإمكانيات التي تتمتع بها عقود السلم من حيث إدارة السيولة في المؤسسات المالية الدولية، بمعنى أن تتمكن المؤسسات المالية الدولية من الحصول على السيولة من البنوك المركزية . وانطلاقاً من تفهمها لهذه القضية، ستقوم هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية قريباً بإصدار معيار يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية حول إدارة السيولة المالية والذي يشمل تطبيق عقود السلم .
ويقول الدكتور عبد العظيم أبو زيد الخبير الشرعي في مصرف الإمارات الإسلامي “لما كانت الشريعة الإسلامية تمنع الإقراض بالفائدة، فقد واجهت البنوك الإسلامية التي تريد أن تحاكي البنوك الربوية التقليدية في كل منتجاتها مشكلة ما يسمى بالتمويل الشخصي للأفراد، فهذا النوع من التمويل لا تلبيه عقود بيع السلع والمنافع المعروفة من مرابحة وإجارة واستصناع وغير ذلك . فالمتعامل هنا يريد نقداً لبعض حوائجة الشخصية وليس له حاجة في سلعة معينة كسيارة أو منزل ونحو ذلك مما تلبيه عقود تمويل السلع المعروفة” .
وهكذا، عمدت بعض مؤسسات التمويل الإسلامي إلى ابتكار طرق لتمويل الأفراد بالنقد، لكن هذا النوع من التمويل وكما يملي المنطق السليم لن يكون قابلاً للتحقق تحت عباءة الشريعة، إذ الغرض منه تقديم نقد للمتعامل مع تحقيق الاسترباح، والشريعة لا تقبل أن أدفع إليك مالاً وأستوفي أكثر منه على نحو مضمون . بل الشريعة تقول: إذا أردت الاسترباح من جراء دفع مال إلى آخر، فلا سبيل لك إلا بدفع هذا المال إلى الغير بصيغ الاستثمار الشرعي المعروفة من مضاربة ومشاركة ووكالة بالاستثمار، وفي كل الأحوال لا يستطيع الشخص الذي دفعت إليه المال أن يضمن لك ربحاً فضلاً عن أن يضمن لك رأسمالك . أما إذا أردت أن يكون ما تدفعه إلى الغير من نقد مضموناً عليه، فلا سبيل لك إلا أن تدفعه إليه بصيغة القرض، لكن عقد القرض في الشريعة من عقود الإحسان والتبرع، ولا يجوز فيه الاسترباح، بل أي نفع زائد يناله المقرض بالشرط إنما هو ربا حرام . فالنتيجة أنك لا تستطيع أن تستربح ممن دفعت إليه النقد إلا إن جرى ذلك الدفع في إحدى صيغ الشراكات الاستثمارية التي تجعلك شريكاً مع الطرف الآخر في الربح والخسارة .
بناءً على هذا الأصل الشرعي، فإن أي محاولة لتسويغ الاسترباح عن التمويل الشخصي للأفراد لن تعدو كونها تحايلاً على الشريعة باتباع شكليات معينة تجعل الأمر يبدو في الظاهر مقبولاً، لكنه في الحقيقة ربا ممنوع، والتحايل على الربا حرام بالاتفاق وقد تضافرت الأدلة الشرعية على تهويله والتحذير منه، ومن المحاولات التي أريد بها التحايل على الربا بصورة عقود البيع، ما يسمى بالتورق المصرفي المنظم، وحديثاً وجِد ما يمكن تسميته بالسلم المصرفي المنظم .
وصورة الأول باختصار أن توقع عند تقديم طلب التمويل الشخصي من المصرف على طلب يخبرك فيه موظف المصرف أنك تتعهد فيه بشراء سلعة معينة من المصرف لا تعلم عنها شيئاً ولا يهمك أمرها بعد أن يقوم المصرف بشراء تلك السلعة من مصدرها، وهو سوق للسلع الدولية في غالب الأحوال، فيراسل المصرف على الفور أحد السماسرة في تلك السوق بشراء تلك السلعة لحساب المصرف، ثم يطلب منك موظف المصرف الآن أن توقع على عقد يخبرك أنك بمقتضاه تشتري هذه السلعة بثمن يتضمن زيادة معلومة عن الثمن الذي اشترى به المصرف وتدفعه على أقساط . ثم يقوم المصرف بمراسلة أحد سماسرة السوق الدولية لبيع تلك السلعة بالنيابة عنك في السوق الدولية بسعر حال أقل يضعه المصرف في حسابك، فتكون بذلك قد نلت المبلغ الذي أردت وتوجب عليك أن تدفع زيادة عما أخذت بطريقة ظاهرها البيع، لكنها من حيث المآل والنتيجة لا تختلف في جوهرها عن القرض الربوي . وقد صدر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي وكذلك مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي قرار بتحريم التورق المصرفي المنظم لما ينطوي عليه من التحايل على الربا على النحو المتقدم .
أما مع السلم المنظم، فالشكليات المتبعة تختلف قليلاً، فهنا يطلب منك موظف البنك أن توقع مع المصرف عقد بيع تبيع بموجبه سلعة ذات مواصفات محددة في العقد بطريق السلم . أي أنك لا تكون مسؤولاً عن تسليمها فوراً بل يتأخر تسليمها إلى أجل محدد مذكور في العقد، وبالمقابل تقبض ثمنها فوراً . وبمجرد هذا العقد يضع المصرف ثمن السلعة في حسابك فتحصل على التمويل المطلوب . ولتكتمل العملية، عليك الآن أن تشتري تلك السلعة التي أخبرك موظف المصرف أنك بعتها إليه، فتوقع توكيلاً للبنك بأن يتولى عنك الدخول في تعهد بشراء سلعة تحمل ذات المواصفات من سوق دولية ما، ويجري الاتفاق على تسليم المورد لهذه السلعة مباشرة إلى المصرف في وقت حلول أجل تسليم السلعة في عقد السلم . ويقوم المصرف بالنيابة عنك بدفع ثمن تلك السلعة التي يزيد عن الثمن الأول في عقد السلم، فتصير بذلك مديناً للمصرف بأكثر من المبلغ الذي أودعه في حسابك أولاً . يقوم المصرف بعد ذلك ببيع السلعة في السوق الدولية بسعر أقل لحسابه .
وفي الحقيقة تنفذ عقود البيع السابقة في التورق والسلم على الورق فقط، ولا تقبض السلع أو حتى تنتقل من مكانها، وقد تكون السلع المباعة على الورق فاسدة وغير صالحة للبيع . ولا يهم ذلك أياً من المصرف او المتعامل أو السمسار، فالكل يعلم أن السلعة إنما أدخلت في العملية لغرض تحليل عملية خروج المال من المصرف إلى العميل ثم عوده إليه بزيادة، ولا غرض لكل من الأطراف الثلاثة في السلعة غير ذلك .
هذه هي صورة التورق والسلم المنظمين، وخطرهما يتعدى دائرة شرعية العقد الذي ينتظمهما، ليهدد مستقبل التمويل الإسلامي، إذ مع وجود أحدهما في مصرف إسلامي تنعدم الحاجة إلى طرق التمويل الأخرى ليأتي تدريجياً على التمويل الإسلامي كاملاً، فأي حاجة بعد ذلك للمرابحات أو المشاركات أو الإجارت! وبالتالي يلتقي المصرف الإسلامي مع الربوي في المضمون ويتقلص الفارق بينها إلى الشكليات المتبعة والمصطلحات المستخدمة .
إن التمويل الإسلامي لا يمكن أن يحقق التمويل النقدي الشخصي للأفراد أو المؤسسات، فسبيل ذلك القرض، وليس المصرف الإسلامي مؤسسة خيرية ليقدم القرض الحسن لمن يطلب، بل يقوم التمويل الإسلامي على تلبية الحاجات التي يأتي يقصد لأجلها المال، فإن كنت تريد اقتناء سيارة أو عقار أمكن للمصرف أن يشتريه شراءً حقيقياً ثم يبيعه إليك، وإن كنت تريد ما لا يقتنى، كتعليم وتطبيب وسفر، فبوسع التمويل الإسلامي كذلك أن يمولك في ذلك عبر ما يسمى بمرابحة الخدمات، حيث يشتري المصرف الخدمة لنفسه ثم يبيعها إليك كذلك، وهو ما عليه العمل في بعض المصارف الإسلامية التي تنأى بنفسها عن شبهات التمويل الشخصي بالنقد، وبالتالي تتقلص إلى حد كبير الأشياء التي لا يحققها إلا التمويل الشخصي بالنقد، فلا تبقى مع هذا حاجة للتلوث بشبهاته وآفاته .
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: