ولدت في عام 1935 لعائلة من الطبقة العاملة، والدي كان يدير متجراً ووالدتي تعمل نادلة . كان منزل طفولتي مبنياً من القرميد الأحمر في بلدة ستوكبورت في مدينة مانشستر الكبرى . كان جسر السكك الحديدية القريب من منزلنا يحمل القطارات البخارية الضخمة بالقرب من نافذة غرفة نومي . تحت الجسر على طول الطريق كان الوضع مختلفاً تماماً حيث توجد منطقة جميلة من شوارع تصطف على جانبيه الأشجار والفلل المستقلة وتقطنها الطبقة المتوسطة الأفضل حالاً منا . ثم انتقلت إلى عالم الطبقة المتوسطة مع مستوى من الأمان لم يعرفاه والدي على الإطلاق .
بعد الخدمة العسكرية في سلاح الجو الملكي البريطاني، حصلت على وظيفة مساعد في مكتب هندسة معمارية في مدينة مانشستر . بدأت أتحدث إلى المهندسين المعماريين متسائلاً كيف يمكن لي أن أصبح مهندساً معمارياً؟ كنت في حاجة إلى خبرة، لذلك بدأت تعلم الرسوم المعمارية وبها التحقت بكلية الهندسة المعمارية في جامعة مانشستر في عام 1956 وحصلت في وقت لاحق على منحة لجامعة ييل في الولايات المتحدة ثم عدت إلى بريطانيا لبدء العمل .
إن مانشستر كما أعرفها من نواح كثيرة فهي مقدمة لمدينة عالمية حديثة . منذ أكثر من 200 سنة مضت، حولت الثورة الصناعية مانشستر من بلدة صغيرة إلى مدينة عالمية واسعة وانتقل عشرات الآلاف من عمال المزارع إلى العمل في مصانعها الجديدة للقطن .
في هذه الأيام، أكثر من نصف سكان العالم يعيشون في المدن . في الصين والهند على سبيل المثال يمكن للعمال كسب ثلاثة أضعاف ما يكسبونه في القرى الريفية . هذه التحولات الاقتصادية ستساعد على رفع أسعار المساكن في المدن إلى نسبة تصل إلى 70 في المئة بحلول عام 2050 .
لذا سيضطر معظم الناس إلى التعود على فكرة العيش في المدينة . لكن لن تكون مدينة كما نعرفها نحن . إن أعظم مهمة للمهندس المعماري هو جعل الحياة في المدن الجديدة مريحة وصحية من دون استنزاف موارد الطبيعة . يجب علينا جعل المدن الجديدة أفضل وأكثر أمناً وأكثر ذكاء وارتباطاً وأكثر كفاءة .
ابتكر بكمنستر فولر، الأمريكي المتخصص في مبان المستقبل، القبة الجيوديسية . هي نوع من الخيال العلمي في البناء مثل المستخدم في مشروع عدن في منطقة كورنوال في بريطانيا . قمت بدعوة بكمنستر ليشاهد واحداً من المباني التي قمت بتصميمها، مركز سينسبري في جامعة ايست انجليا . بعد أن نظر إلى المبنى بإعجاب، وجه لي بكمنستر سؤالاً أدهشني قال “نورمان كم وزن مبناك”؟
بطبيعة الحال لم أكن أعرف واستغرق الأمر مني أسبوعاً لكي أعرف الإجابة، 5328 طناً، ومعظم الوزن يتركز في الأساسات الأسمنتية وفي الجانب الأقل جاذبية . أدركت أن علينا دائماً التأكد من الاستخدام الجيد والمناسب لمواد البناء والأراضي، والمدينة هي أفضل وسيلة لتحقيق ذلك .
لكن هناك أشياء في المدن أكثر من ذلك . المدن هي أفضل مكان للتجارة وتبادل الأفكار والمهارات ولكسب الأصدقاء وللعثور على زوجة أو زوج . المدن هي الحياة .
الشيء الوحيد الذي سيكون مختلفاً في المدينة الجديدة هي السيارة . لا أرغب في إلغاء السيارات لأنها توفر حرية شخصية وهي أعجوبة تكنولوجية لكنها تسبب التلوث وصاخبة وخطرة .
سوف تبدو طرق المدينة الجديدة مثل طرق وشوارع الأفلام الخيال العلمي وسيتم ضبطها وتنظيمها، مثلما هو الحال اليوم في المجال الجوي . وسيسمح للمركبات الصغيرة الموفرة للطاقة بالحركة بحرية على الطرق الصغيرة، ولكن بمجرد الانتقال للسير على الطرق السريعة أو الطرق الكبرى سوف تنضم إلى نظام كمبيوتري موجه آمن . سيكون السائق مجرد مشرف، تماماً كقائد الطائرة .
في الواقع، مانهاتن الأمريكية، واحدة من أكثر المناطق ثراءً على هذا الكوكب، وتعتبر واحدة من أكبر المناطق التي تضم ناطحات السحاب . وهي المكان الذي يريد كل مهندس معماري بناء برج هناك .
الخبر السار هو أن شركتي لديها الآن برج في نيويورك . أما النبأ السيئ هو أنه برج صغير جداً من 46 طابقاً . لكن، ويسرني أن أقول، إنه يستهلك طاقة أقل بكثير من أبراج مانهاتن التقليدية في حجمها .
بعد 40 عاماً من العمل كمهندس معماري، يبدو لي أن ما يجعل مدينة مقبولة ليس المباني لكن مدى السهولة التي يتحرك بها الناس وترابط الأماكن العامة والشوارع والممرات والجسور والحدائق والساحات . إنا نفس الأشياء التي رسمتها عن مانشستر عندما كنت مراهقاً، في الوقت الذي لم أكن أعرف حتى ما معنى كلمة مهندس معماري .
عندما بدأت شركتي العمل في واحد من مشروعات مدن المستقبل وهو مدينة مصدر في دولة الإمارات، أخذت هذه العوامل في الاعتبار . عندما تشاهد صور الكمبيوتر، سوف تعتقد أنها صور من الخيال العلمي . لكن مدينة مصدر، المدينة الجامعية والبيئية والتكنولوجية، بالفعل يجري بناؤها خارج مدينة أبوظبي . قمنا بدراسة طريقة الحيوانات على التكيف مع البيئة الصحراوية واستغلالها لإيجاد وسائل جديدة للبناء في حرارة الصحراء . كما تتجمع طيور البطريق معاً من أجل الدفء في القطب الشمالي وتتجمع الجمال من أجل الحصول على الظل في الصحراء . تم تجميع البنايات الشاهقة معاً في مدينة مصدر لتوفير الظل في الممرات الضيقة التي تنتهي وتبدأ على باحات مزينة بالنوافير .
في وقت فراغي، أركب الدراجات الهوائية وأمارس التزحلق على الجليد وأجرب الطائرات الشراعية لأنني أشعر بالحاجة إلى الهدوء وليس للهروب . أحياناً عندما أحلق في السماء أجد نفسي أشارك الطيور في السماء وأتبادل الحرارة معها . هذه المخلوقات المتفوقة في الذكاء عن المعادن التي تحيط بالإنسان تقوم برحلة مدهشة مع أنها تبذل الحد الأدنى من الطاقة والجهد .
بالمثل، تلتقط أبراج الرياح في مدينة مصدر تيارات الهواء العليا لتوفر نسائم باردة وترسلها إلى المدينة . تصل درجة الحرارة إلى 37 درجة مئوية في مدينة مصدر في مقابل 57 درجة مئوية في وسط مدينة أبوظبي . وستوجد شبكة نقل عام كهربائية تحت ممرات المدينة إضافة إلى سيارات شخصية صغيرة “الروبوت” تتميز بالهدوء وخالية من التلوث .
في معظم دول الشرق الأوسط، فواتير الكهرباء هائلة بسبب تكييف الهواء، ولكن مدينة مصدر فعالة من حيث القدرة على بيع فائض الكهرباء إلى شبكة أبو ظبي يتم توفير الطاقة عن طريق ألواح الطاقة الشمسية الخلوية . كما يتم تدوير المياه والنفايات في المدينة .
تعتبر مدينة مصدر تجربة في مراحلها الأولى حيث بدأ البناء منذ أربع سنوات فقط . يوجد مئات من الطلاب يدرسون في جامعة الآن، وسيكون هناك 800 طالب عند الانتهاء من تشييد المدينة عام 2018 .
أنا أدرك أن هذه الرؤية المستقبلية لا تنسجم مع الذوق البريطاني حيث تظهر استطلاعات الرأي في كثير من الأحيان أن الناس يفضلون منزلاً مستقلاً مع حديقة وممر إلى الشقة .
أنا أفهم ذلك، ولا أستطيع أن أقول للناس أين يمكنهم العيش . لقد حولنا كثيراً من المساحات الخضراء إلى مبان، لكن يجب أن يبقى الريف دائماً ويكون مفتوحاً للجميع . عندما نتحدث عن مدن المستقبل، فإنه من السهل جداً أن أتكلم فقط عن الصين والهند . هناك سبب وجيه لذلك، لأن بريطانيا والغرب في خطر من التخلف عن الركب .
يكون الأمر أكثر سهولة إذا كنت تبدأ بناء مدينة مثالية على مساحة خالية مثل صحراء أبوظبي وأموال النفط لتمويل ذلك . بينما مدن مثل لندن تطورت على مدى مئات السنين ولا يمكن تغييرها بين عشية وضحاها .
عندما دمر حريق لندن الكبير معظم المدينة في عام ،1666 دعا المعماري كريستوفر رين إلى تصميم مدينة جديدة . في غضون أيام، كان قد صمم شبكة شوارع واسعة وأنيقة مؤدية إلى ساحات وميادين رائعة، لكن المشروع لم ير النور لأن ملاك الأراضي آنذاك يريدون الأمور كما هي عليه .
في الصين إن كان هناك حاجة إلى شيء فهو يحدث لأن تفكير الأمم الناشئة جرئ وتأخذ زمام المبادرة . كما يتحد رجال الأعمال والسياسيين من أجل إنجاز الأعمال . في حين يتطلب إنجاز مشروع وطني في بريطانيا وقتاً طويلاً وصبراً كبيراً . الأسوأ من ذلك، يتعين علينا الانتظار سنوات للحصول على موافقة لتوسيع مبنى مطار أو تشييد محطة طاقة نووية . إننا نبدأ بالعمل عندما نكون في مأزق إذا لم ننفذ المشروع .
إن لندن هي المدينة الوحيدة الكبرى في العالم التي تسمح للطائرات بالتحليق فوق مركز المدينة؟ وهذا يثير حنق وغضب الناس ليلاً ونهاراً . لو كان شخصاً صينياً مسؤولاً عن لندن، لكان هناك تصميم لمطار جديد يلائم القرن 21 تمت الموافقة عليه وتشييده عند مصب نهر التيمز الآن . بدلاً من مطار هيثرو، الذي يتحول إلى منطقة سكنية أو حتى إلى حديقة وهو الأفضل .
يقع مشروع مدينة مصدر بين مطار أبوظبي الدولي ومدينة أبوظبي في دولة الإمارات وهو ترجمة حقيقية لتشييد مدينة من نوع جديد . تغطي مدينة مصدر مساحة مقدارها نحو ثلاثة ونصف ميل مربع لتكون موطناً لنحو 40،000 شخص ومئات من الشركات والمؤسسات المختلفة .
ستعتمد مدينة مصدر بالكامل على الطاقة الشمسية ومصادر الطاقة المتجددة الأخرى . تم تصميم المباني لكي توفر الظل للحماية من حرارة الشمس، وستتحكم البوابات في الرياح الحارة بالإضافة إلى ندرة وجود السيارات ولا تضم المدينة سوى أربعة طرق .
سيتم تركيب مقياس عالٍ التقنية داخل كل وحدة سكنية من أجل المحافظة على معدل منخفض لاستهلاك الطاقة .
من المتوقع الانتهاء من الجامعة بحلول عام ،2015 ولم يتم تحديد تاريخ للانتهاء من تشييد المدينة . تم تقدير تكلفة المباني في مدينة مصدر بنحو 14 مليار جنيه استرليني .
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: