في عالم تحكمه التقلّبات وتُعيد فيه الأحداث الجيوسياسية والتطورات التكنولوجية رسم المشهد المالي يومًا بعد يوم، لم يعد اتخاذ القرار الاستثماري مهمة سهلة يُعتمد فيها على التحليل وحده.
فإيقاع الأسواق لم يعد يسير بشكل متناغم، وأصبحت البورصات تميل إلى التحرك في موجات من الغموض والانفعال، لتخالف التوقعات، وتتحول الإشارات الاقتصادية إلى ألغاز متعددة التفسيرات.
وتكررت تلك المشاهد منذ جائحة كوفيد-19، مرورًا بارتفاعات التضخم، والحروب التجارية، وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي والتحولات المفاجئة في السياسات النقدية.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
تلك التحركات جعلت المستثمر مطالبًا ليس فقط بفهم المؤشرات الاقتصادية، بل تفسيرها في سياق متغير ومفتوح على جميع الاحتمالات.
وسط هذا الضباب، تتفاوت استراتيجيات المستثمرين: من أولئك الذين يهربون إلى الأصول الآمنة، إلى من يغامرون بحثًا عن فرص مخفية في الزوايا المظلمة للأسواق.
وفي مثل هذه الأوقات، يتحوّل الاستثمار من علمٍ مبنيّ على التحليل والنماذج إلى فنٍ يرتكز على الحدس، وإدارة المخاطر، وقراءة الإشارات الخفية، لكن يبقى السؤال كيف تُتخذ القرارات الاستثمارية عندما لا توجد رؤية واضحة؟
الأنماط السلوكية في ظل الغموض
في فترات الغموض والتقلبات، غالبًا ما ينحرف سلوك المستثمرين عن النماذج الاقتصادية الكلاسيكية التي تفترض عقلانية القرار.
فالقرارات لا تُتخذ دائمًا بناءً على التحليل المنطقي البحت، بل كثيرًا ما تتأثر بانحرافات سلوكية لها جذور في علم النفس المالي، ومن أبرز هذه الأنماط:
أولًا: تجنب الخسارة
يُظهر المستثمرون ميلًا فطريًا إلى تفضيل تجنّب الخسارة على تحقيق مكاسب مساوية لها، هذا الانحياز يقودهم إلى اتخاذ قرارات محافظة للغاية، مثل بيع الأصول خلال الهبوط الحاد رغم أن أساسيات السوق قد لا تبرر هذا التصرف.
على سبيل المثال، خلال الهبوط العنيف في مارس 2020 بسبب جائحة كوفيد-19، قام المستثمرون بسحب نحو 326 مليار دولار أمريكي من صناديق الأسهم في الولايات المتحدة، رغم تعافي السوق بشكل قوي بعد ذلك بوقت قصير.
ثانيًا: عقلية القطيع
في ظل غياب وضوح الرؤية، يندفع كثير من المستثمرين إلى اتباع ما يفعله الآخرون، في ظاهرة تُعرف بعقلية القطيع.
وقد ساهم هذا السلوك في تضخيم فقاعة الإنترنت أواخر التسعينيات، حيث دخل ملايين المستثمرين إلى أسهم التكنولوجيا لمجرد أن السوق كانت ترتفع، دون النظر إلى التقييمات.
مثلما حدث في 2021 مع "أسهم الميم" مثل "جيم ستوب" و"إيه إم سي"، حيث ارتفعت الأسعار بأكثر من 1000% نتيجة موجة شراء جماعي على منصات التداول الإلكترونية، دون وجود مبرر مالي فعلي.
ثالثًا: ردود الفعل المفرطة
ويُقصد به اتخاذ رد فعل مبالغ فيه تجاه بعض الأحداث على حساب الرؤية طويلة الأجل، وهو ما يُعرف بالتحيّز للحداثة، فقد تؤدي قراءة مرتفعة للتضخم لشهر واحد فقط إلى قرارات بيع هستيرية في الأسواق، رغم أن الاتجاه العام لا يمثل هذا المستوى من الخطورة.
حدث ذلك في يونيو 2022 عندما صدرت بيانات تضخم مرتفعة في الولايات المتحدة، فتراجعت الأسواق بقوة، رغم أن بيانات الأشهر التالية أظهرت تباطؤًا ملحوظًا في التضخم.
مقارنة سلوكية بين المستثمر المنضبط والعاطفي |
||
السلوك |
المستثمر المنضبط |
المستثمر العاطفي |
التعامل مع الهبوط |
إعادة التوازن للمحفظة |
بيع الأصول خوفًا من الهبوط |
اتخاذ القرار |
مبني على خطة واستراتيجية |
يتأثر بالأخبار والانفعالات |
الرؤية الزمنية |
يركز على الأهداف طويلة الأجل |
يميل إلى ردود أفعال قصيرة المدى |
إدارة المخاطر |
يستخدم أدوات التحوّط والتنوع |
يعتمد على الحدس أو العشوائية |
معدل التداول |
منخفض ومدروس |
مرتفع ومدفوع بالخوف أو الطمع |
رابعًا: الثقة الزائدة
يُبالغ بعض المستثمرين في تقدير قدرتهم على توقّع اتجاه السوق، وهو ما يُعرف بسلوك الثقة الزائدة.هذا السلوك يدفعهم إلى الإفراط في التداول، وغالبًا ما تكون النتائج دون التوقعات.
فهم هذه الانحرافات السلوكية ليس مجرد معرفة نظرية، بل أداة عملية تُترجم إلى آليات تساعد المستثمرين على اتخاذ قرارات أكثر توازنًا، مثل التذكير السلوكي، ووضع قواعد مسبقة للتعامل مع التقلبات، أو الاعتماد على أنظمة تداول مؤتمتة تقلل من تأثير الانفعالات.
الاستراتيجيات المستخدمة لمواجهة عدم اليقين
في مواجهة الضبابية التي تكتنف الأسواق، ينبغي للمستثمرين ألا يضعوا أنفسهم تحت رحمة التقلبات، ويتبنوا مجموعة من الاستراتيجيات المصمّمة لإدارة المخاطر وتحقيق العوائد في بيئات تتسم بالغموض، ومن أبرزها:
أولًا: التنويع
يُعد التنويع من أبسط وأهم قواعد تقليل المخاطر، إذ يقوم على توزيع الاستثمارات عبر فئات أصول متعددة مثل الأسهم، والعقارات، وربما حتى السلع والعملات، هذا التنوع يقلل من تأثير أداء قطاع معين على المحفظة ككل.
على سبيل المثال، أظهرت بيانات شركة بلاك روك في تقريرها السنوي لعام 2023 أن المحافظ المتنوعة التي شملت الأسهم الأمريكية والعالمية، بالإضافة إلى أدوات الدخل الثابت، قدمت أداءً أكثر استقرارًا خلال اضطرابات الأسواق مقارنة بالمحافظ ذات الفئة الواحدة.
ثانيًا: تخصيص الأصول
تخصيص الأصول هو عملية ديناميكية تتضمن تعديل نسب الأصول في المحفظة استنادًا إلى التغيرات في التوقعات الاقتصادية ومدى تحمل المستثمر للمخاطر.
ففي بيئات عدم اليقين، يختار البعض تقليل نسبة الأسهم وزيادة مكونات الأصول الدفاعية مثل التحول إلى النقد.
وخلال النصف الأول من عام 2022، خفّض صندوق التقاعد الحكومي النرويجي – أحد أكبر الصناديق السيادية عالميًا – نسبة استثماراته في الأسهم، ورفع حصته من السندات الحكومية بسبب التوترات الجيوسياسية وارتفاع التضخم.
ثالثًا: التحوّط
يستخدم المستثمرون أدوات مالية مثل الخيارات والعقود الآجلة لتقليل الخسائر المحتملة من تحركات السوق غير المتوقعة، دون الحاجة إلى تصفية الأصول الأساسية.
فعلى سبيل المثال، إذا كان لدى مستثمر محفظة من الأسهم ويخشى من هبوط السوق، يمكنه شراء "خيار بيع" الذي يمنحه الحق في بيع الأسهم بسعر محدد، حتى لو انخفض في السوق لاحقًا.
كذلك، تستخدم الشركات والمستثمرون العقود الآجلة لتثبيت أسعار الشراء أو البيع المستقبلية لمواد أولية أو عملات، بما يساعدهم على حماية هوامش أرباحهم من التغيرات المفاجئة في الأسعار.
هذا النهج تبناه صندوق "بريدجووتر أسوشيتس"، عندما تحوط ضد تراجع الأسواق الأوروبية في عام 2020 باستخدام عقود مشتقة، مما جنّبه خسائر جسيمة خلال الانكماش الناجم عن جائحة كوفيد-19.
رابعًا: الاستثمار المعاكس
الاستثمار المعاكس يعني اتخاذ مواقف مخالفة لاتجاه السوق السائد، مثل شراء الأسهم عند الذعر أو بيعها عند النشوة، وقد يبدو هذا محفوفًا بالمخاطر، لكنه مربح لمن يُحسن توقيته.
ولعل أبرز من مثّل هذا النهج هو المستثمر الشهير "وارن بافيت" الذي طبّق هذا النهج حين اشترى أسهمًا في "بنك أوف أمريكا" و"جولدمان ساكس" خلال الأزمة المالية عام 2008، عندما كانت معظم الأسواق في حالة هلع، وقد جنى منها أرباحًا ضخمة بعد التعافي.
خامسًا: الانضباط النفسي
في خضم التقلبات، يبقى الانضباط النفسي والنظرة طويلة الأجل من أقوى أسلحة المستثمر.التمسك بالخطة الاستثمارية، وتجنّب القرارات العاطفية مثل البيع خلال الهلع، يميز المستثمرين الناجحين عن غيرهم.
وأظهر تقرير صادر عن شركة الأبحاث "دالبار" في عام 2022 أن متوسط عوائد المستثمرين الأفراد كان أقل بكثير من السوق بسبب ردود فعلهم المفرطة على التغيرات قصيرة الأجل.
في عالم تتزايد فيه التقلّبات وتُصبح فيه الرؤية المستقبلية أكثر غموضًا، لم يعد اتخاذ القرار الاستثماري مجرّد عملية حسابية تعتمد على الأرقام والنماذج، بل أصبح تحدّيًا نفسيًا وسلوكيًا، تتداخل فيه العواطف مع الحقائق، ويُختبر فيه الانضباط بقدر ما يُختبر التحليل.
وأظهرت الأزمات المتعاقبة، من الجائحة إلى اضطرابات سلاسل التوريد، ومن ارتفاع التضخم إلى التحولات الجيوسياسية، أن الأسواق لم تعد محكومة فقط بالأساسيات الاقتصادية، بل أيضًا بالعوامل النفسية وسرعة تدفق المعلومات، وحتى بالخوارزميات.
ومع ذلك، لا يعني هذا أن المستثمر ضائع في بحر الغموض، بل يمكنه أن يصنع فارقًا مع الفهم العميق للأنماط السلوكية، والاعتماد على استراتيجيات استثمارية مبنية على الانضباط، والتنويع، والقدرة على التعامل مع عدم اليقين.
وفي نهاية المطاف، لا يوجد استثمار دون مخاطرة، لكن توجد مخاطر يمكن إدارتها.
والأسواق، وإن بدت أحيانًا بلا بوصلة، تظل البوصلة الحقيقية تكمن في عقل المستثمر بين المنطق، والانضباط، والقدرة على قراءة الحقائق الخفية.
المصادر: أرقام- رويترز- إنفستوبيديا- فاينانشيال تايمز- ساكسو بنك- مكتب إحصاءات العمل الأمريكي- جورنال أوف فاينانس- سي إن بي سي- وول ستريت جورنال- فوربس- بلومبرج
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: