في خريف 2008، كان "مايكل أندرسون"، وهو مستثمر بريطاني على مشارف التقاعد، يعتقد أن محفظته المتنوعة بين الأسهم والأصول الأخرى مثل الذهب والسندات ستضمن له الأمان.
لكن مع انهيار بنك "ليمان براذرز"، لم يكن أحد من المستثمرين في وول ستريت بمنأى عن العاصفة التي اجتاحت الأسواق المالية العالمية، ووجد "أندرسون" نفسه يخسر ربع مدخراته في بضعة أشهر جراء انهيار الأسواق وتراجع الأصول الأخرى.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
فخلال تلك الأزمة انهارت المؤشرات في غضون أيام، وتبخرت تريليونات الدولارات من الأسواق، وتحوّل التنويع، الذي اعتبره كثيرون خط الدفاع الأول، إلى درع مثقوبة أمام موجة الذعر التي دفعت كل الأصول تقريبًا إلى السقوط في الاتجاه نفسه.
المشهد تكرر بعد أكثر من عقد خلال صدمة جائحة كورونا عام 2020، إذ تهاوت الأسهم، وفقدت السندات بريقها، وحتى الذهب لم يعد يوفّر الملاذ الآمن الذي اعتاد عليه الجميع.
وهنا طُرح السؤال الذي لا يزال يلاحق المستثمرين حتى اليوم: هل يكفي التنويع وحده لحماية المحافظ الاستثمارية من تقلبات السوق؟ فلطالما اعتُبر التنويع قاعدة ذهبية للاستثمار؛ تضمن عوائد أكثر استقرارًا، وتحد من المخاطر، وتوفر حماية للمحافظ خلال فترات الهبوط.
الأساس التقليدي للتنويع
ظهر مفهوم التنويع بقوة في الأدبيات الاقتصادية مع ورقة بحثية قدّمها الاقتصادي "هاري ماركويتز" عام 1952.
ووضع "ماركويتز" من خلالها أسس "نظرية المحفظة الحديثة"، التي أكدت أن توزيع الاستثمارات على مجموعة متنوعة من الأصول يقلّل من المخاطر الإجمالية للمحفظة دون التضحية بالعائد المتوقع.
فعلى سبيل المثال، اعتُبر لفترة طويلة أن الجمع بين فئات أصول مختلفة، مثل الأسهم والسندات الحكومية أو حتى الذهب والعقارات، يوفّر مظلة أمان في أوقات الاضطراب.
فإذا تراجعت الأسهم في أوقات الركود، غالبًا ما تحافظ السندات أو الذهب على قيمته، مما يساعد على تقليص الخسائر حيث أصبح هذا النهج حجر الأساس في بناء المحافظ الاستثمارية لدى المؤسسات والمستثمرين الأفراد على حد سواء.
وتجسّد ذلك في المحفظة الكلاسيكية "60/40" (60% للأسهم، 40% للأصول منخفضة المخاطر مثل السندات أو ما يعادلها)، والتي أثبتت فاعليتها لعقود، حيث مكّنت المستثمرين من تحقيق مكاسب مستقرة على المدى الطويل مع التخفيف من أثر التحركات العنيفة بالأسواق.
حين يخونك التنوع
رغم مكانة التنويع كإحدى الركائز الأساسية في استراتيجيات الاستثمار، فإن التاريخ يكشف أنه ليس درعًا فولاذية لا تخترق، ففي لحظات الأزمات النظامية الكبرى، تنهار الحدود الفاصلة بين الأصول وتذوب الفوارق التي يعتمد عليها المستثمرون.
خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، على سبيل المثال، ارتفعت الارتباطات بين فئات الأصول إلى مستويات غير مسبوقة، فانهارت الأسهم والسندات العقارية وصناديق الاستثمار العقارية بشكل متزامن، تاركة المستثمرين أمام خسائر جماعية.
كما أشار تقرير صادر عن معهد المحللين الماليين المعتمدين إلى أن الأسواق حول العالم تراجعت بوتيرة واحدة تقريبًا بغضّ النظر عن الجغرافيا أو طبيعة الاقتصاد، ما كشف محدودية الملاذات الآمنة التقليدية.
وتكررت القصة في مطلع عام 2020 مع تفشي جائحة كوفيد-19، حيث لم تسلم حتى الأصول التي اعتُبرت تاريخيًا ملاذًا آمنًا مثل الذهب أو بعض السندات، إذ شهدت تراجعات متزامنة مع الأسهم والسلع.
هذا التوازي المفاجئ في الانخفاضات سلّط الضوء على هشاشة فرضية أن التنويع وحده يكفي لحماية المحافظ الاستثمارية تحت الضغط الشديد.
التنوع الزائد.. فخ جديد
مشكلة أخرى يلفت إليها الخبراء هي "فرط التنويع"، إذ إن إضافة عدد كبير جدًا من الأصول في المحفظة الاستثمارية قد يُضعف العوائد المحتملة دون تقليل المخاطر بشكل ملموس، بمعنى آخر، بعد حد معين يصبح التنويع عائقًا أكثر من كونه حماية.
وحذّر تقرير مورنينج ستار لعام 2023 من أن الإفراط في التنويع غالبًا ما يجعل المحافظ شبيهة بالمؤشرات العامة للأسواق، مع تكبد تكاليف إدارية إضافية بلا فائدة كبيرة، لذا فإن التنويع الأكثر فاعلية هو ذاك الذي يتم بشكل مدروس واستراتيجي، لا بشكل عشوائي.
نحو تنويع قائم على المخاطر
في مواجهة هذه التحديات، يتجه العديد من المستثمرين ومديري الأصول إلى إطار أكثر تطورًا وهو التنويع القائم على المخاطر حيث يقوم هذا النهج على توزيع التعرض عبر عوامل المخاطر مثل التضخم، أسعار الفائدة، أو مخاطر الائتمان.
فبدلًا من مجرد الجمع بين الأسهم والسندات، تُبنى المحافظ بحيث لا يهيمن عامل مخاطرة واحد عليها. وأشار تقرير بلاك روك لعام 2024 إلى أن هذه الاستراتيجيات قد توفر مرونة أكبر في مواجهة الصدمات غير المتوقعة.
استراتيجيات التنويع الذكي
الاستراتيجية |
الفكرة ببساطة |
الفائدة الأساسية |
تنويع الأصول |
توزيع بين أسهم، سندات، ذهب، سيولة |
تقليل الخسائر عند هبوط فئة معينة |
التنويع الجغرافي |
استثمار في أسواق متعددة (أمريكا، أوروبا، آسيا…) |
تجنّب الاعتماد على اقتصاد واحد |
التنويع القطاعي |
توزيع الاستثمارات بين قطاعات مختلفة (تكنولوجيا، طاقة…) |
حماية من مشاكل قطاع واحد |
التنويع الزمني |
شراء دوري بمبالغ ثابتة |
تقليل أثر تقلبات الأسعار |
الأصول البديلة |
ذهب، عقارات، مشاريع خاصة |
ملاذ إضافي عند الأزمات |
فالأصول البديلة مثل الذهب، ومشاريع البنية التحتية، والأسهم الخاصة، أثبتت قدرتها على امتصاص الصدمات، بينما ظل الذهب على وجه الخصوص ملاذًا آمنًا في فترات التضخم والأزمات المالية.
وإلى جانب ذلك، يمكن للتنويع الجغرافي وتوزيع الاستثمارات عبر عملات مختلفة أن يوفر طبقة إضافية من الحماية، وإن كانت الأزمات العالمية تقلل أحيانًا من فاعليته.
أهمية العامل البشري
لا يكفي أن تُبنى المحافظ الاستثمارية على أسس رياضية بحتة، فالعامل البشري يظل حاضرًا بقوة. ففي لحظات الذعر، يلجأ كثير من المستثمرين إلى البيع العشوائي، وهو ما قد يُفشل أي استراتيجية حتى تلك المبنية على تنويع مدروس بعناية.
لذلك يشدد المستشارون الماليون على أهمية تبني منظور طويل المدى، فالتنويع لا يمنع الخسائر، بل يهدف بالأساس إلى تقليص حدتها وتسهيل التعافي لاحقًا.
لكن يبقى السؤال مطروحًا: هل يكفي التنويع وحده؟ وإذا كان لا يمكن تقديم إجابة بسيطة، سيظل التنويع خط الدفاع الأول ضد تقلبات السوق، لكنه لم يعد كافيًا في عالم شديد الترابط حيث تنتقل الصدمات بسرعة بين الأسواق والأصول.
فالمستقبل يتطلب استراتيجيات أذكى، تقوم على تنويع الأصول بشكل أوسع، وتوزيع المخاطر بعناية، مع إدارة نشطة للتحركات المفاجئة في السوق.
كما أن استخدام أدوات التحوط بحكمة، والتحلي بسلوك استثماري منضبط يوازن بين العقل والعاطفة، أصبح ضرورة لا غنى عنها.
فالاعتماد على التنويع التقليدي وحده قد يمنح شعورًا زائفًا بالأمان، بينما المزج بين التنويع وأساليب إدارة المخاطر المتقدمة يمنح المستثمرين درعًا أكثر قوة ومرونة لمواجهة عواصف الأسواق.
ولعل أبرز مثال حديث على ذلك ما حدث في عام 2022، حين ضرب التضخم المرتفع معظم الاقتصادات العالمية، فانهارت الأسهم والسندات معًا في آن واحد، عندها أدرك المستثمرون أن الاعتماد على التنويع التقليدي وحده لم يعد كافيًا.
في نهاية المطاف، يظل التنويع عنصرًا محوريًا في أي استراتيجية استثمارية، لكنه ليس عصًا سحرية تحمي من جميع الأزمات.
ويعتمد نجاح هذا التوازن في النهاية على قرار المستثمر نفسه حتى لا يتعرض لمصير "مايكل أندرسون"، وهو ما يتطلب من المستثمر الإجابة عن سؤال هل هو مستعد لتطوير استراتيجيته بما يتجاوز مجرد التنويع، أم سيظل يراهن على درع قد لا تصمد أمام العاصفة القادمة؟
المصادر: أرقام- بلومبرج- مورنينج ستار- ذا جورنال أوف فاينينس- فايننشال تايمز- معهد المحللين الماليين المعتمدين
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: