في عام 1921، برزت منطقة غرينوود في تولسا، ولاية أوكلاهوما الأمريكية، كمنارة نادرة لتقرير المصير الاقتصادي لأصحاب البشرة السوداء في عصرٍ من الإقصاء المنهجي، حيث لُقبت بـ"وول ستريت السود"، وكانت رمزًا للتحرر والمرونة وريادة الأعمال والثروة التي يبنيها المجتمع.
غير أن نجاحها نفسه أصبح نقطة ضعفها، عندما انقضّت حشود البيض على غرينوود، بسبب شائعة عن اعتداء على فتاة بيضاء، وأحرقت المنازل والشركات والبنوك. لم يتدخل القانون ولم تتحرك أي جهة تنظيمية، ولم تحمي أي مؤسسة سكانها، أو ببساطة كان آوان التحرك قد فات.
إلى جانب إزهاق عشرات الأرواح -ربما مئات وفق بعض المصادر المستقلة- في مذبحة عرقية شارك فيها رجال إنفاذ القانون، فقد السكان الأمريكيون من أصول إفريقية ثرواتهم ومصادر دخلهم في ساعات، والأسوأ أن كثيرًا منهم فقد الأمل في نظام عادل ينافسون فيه وفق معايير واحدة ويحققون من خلاله أحلامهم كبشر متساوين.
الحقيقة المؤلمة في هذه القصة أن غرينوود كمركز تجاري وشاهد على نهضة فئة ضعيفة مهمشة، لم تدمر بسبب فشلها؛ بل لأنها ازدهرت دون حماية، ودمرت لأن فئة أخرى رأت أنها صاحبة المكانة العليا والقرار رفيع، وأنها ببساطة تستطيع "أن تأخذ ما تشاء".
على مر الزمان، كانت هناك دراما موازية - ليس في الشوارع، بل في الأسواق، حيث صغار المستثمرين يحاولون بناء محافظهم الاستثمارية، ويسعون وراء العوائد والمجد الذاتي والتحرر المالي، معتقدين أنهم حلوا اللغز.
ثم، بين عشية وضحاها، تتبخر أحلامهم، ليس في انهيار عشوائي، بل في حلقات من التلاعب المنظم، تُمكّنها ثغرات تنظيمية وتُضخّمها فخاخ نفسية، والمتأمل في أحداث حي غرينوود عام 1921، والانهيارات المالية، يجد التشابهات حاضرة رغم اختلاف الزمن، حيث يعاد إنتاج نفس المأساة، لكن بأسلحة أقل عنفًا وأكثر أناقة.
فقاعة المسيسيبي: الثقة المفرطة بالنظام
- في أوائل القرن الثامن عشر، حيث عانت فرنسا، عقب وفاة "لويس الرابع عشر"، من ديون حرب هائلة وضعف اقتصادي، عيّن الوصي، "فيليب الثاني"، "جون لو"، الاقتصادي والمغامر الاسكتلندي، لإصلاح الأوضاع المالية للبلاد.
- كانت خطة "لو" جريئة ولكن خطرة وحزينة بالنهاية، حيث بدأ بتأسيس البنك العام في 1716، وأصدر أوراقًا نقدية غير مدعومة بالذهب أو الفضة، وفي 1718، أممه باسم "البنك الملكي"، مانحًا إياه قوة احتكارية للخدمات المصرفية والقدرة على إصدار كميات هائلة من العملات الورقية غير القابلة للاسترداد.
- في الوقت نفسه، استحوذ "لو" على شركة المسيسيبي، التي كانت تحتكر التجارة مع مستعمرة لويزيانا الفرنسية، وسرعان ما وُسِّع نطاق عملياتها ليشمل تجارة فرنسا خارج أوروبا، وتحصيل الضرائب، وحتى دار سك العملة.
- ثم استحوذت الشركة على جزء كبير من الدين الوطني الفرنسي مقابل أسهم، وكان لهذه الخطوة نتيجتان مدمرتان، أولًا، خلقت حافزًا هائلًا لدى الحكومة للحفاظ على سعر سهم الشركة مرتفعًا بشكل مصطنع، لأن ملاءتها المالية تعتمد على ذلك.
- ثانيًا، أغرقت السوق بأسهم جديدة، ما سهّل على المطلعين على شؤونها الداخلية والحكومة الاستحواذ على حصة مسيطرة، مع جذب الجمهور عبر التأكيد بأنهم يستثمرون في ازدهار الأمة ومستقبلها وليس مجرد شركة.
- كانت آلية التلاعب هجومًا متعدد الجوانب على كل من العملة وسوق الأسهم، ومع استيعاب شركة الهند المزيد من الديون، استخدم "لو" البنك الملكي لطباعة كميات متزايدة باستمرار من النقود الورقية.
كيف انتهت المغامرة؟
- عند مستوى الذروة، بلغ تداول الأوراق النقدية للبنك ملياري ليفر، أي خمسين ضعف مستواه الأولي، متجاوزًا بكثير قيمة الذهب والفضة المتداولة، ومسببًا تضخمًا متسارعًا.
- ارتفع سعر سهم الشركة إلى 10 آلاف ليفر (جنيه فرنسي) بنهاية عام 1719 من 500 ليفر فقط في بداية العام، مدفوعًا بوعود تحقيق الثروة الهائلة من مناجم الذهب والفضة في وادي المسيسيبي.
- كان المشروع بأكمله أشبه ببيت من ورق مبني على سلطة مدعومة من الدولة، ومنح منصب "لو" كمستشار مالي رئيسي مشروعه هالة من الشرعية التي كبحت الشكوك، فجذب المستثمرين الأفراد، بما في ذلك الخدم وغيرهم من المواطنين العاديين، إلى قصة التأييد الملكي ووعد الثراء السريع.
- حدث الانهيار الحتمي عام 1720، فمع انتشار الشائعات بأن الثروة الاستعمارية الموعودة كانت مجرد وهم، تبخرت ثقة الجمهور، وتبع ذلك فوضى في البنك الملكي، حيث سارع المواطنون إلى استبدال نقودهم الورقية بالذهب والفضة اللذين لم يعد يمتلكهما المصرف.
- حاول "لو" دعم النظام من خلال حظر حيازة المعادن الثمينة وتحديد سعر السهم عند 9 آلاف ليفر، لكن هذه الإجراءات لم تؤدِ إلا إلى إثارة أعمال شغب ومزيد من الذعر، وانخفض سعر السهم بشكل حاد، وأصبحت العملة عديمة القيمة، وفرّ "لو" من فرنسا مُفلسًا، وتوفي في البندقية عام 1729.
- كان التأثير الكمي على الاقتصاد قاسيًا، مما تسبب في عدم الاستقرار المالي طويل الأمد وتآكل ثقة الجمهور في المؤسسات المالية، وهو شعور استمر لعقود وساهم في الاضطرابات الاجتماعية التي أدت إلى الثورة الفرنسية، وانقسم المؤرخون بشأن "لو"، فالبعض يرى أنه مصلح فشل، والبعض يراه محتالاً ذكياً.
ذعر 1825: عندما يتآمر النظام
- يتميز ذعر عام 1825 بكونه أول أزمة مالية حديثة، لم تكن ناتجة عن الحرب أو الكوارث الطبيعية، بل بسبب الضخب حول أراضي العالم الجديد وقوة الخطاب السياسي المقنعة.
- بعد انتهاء الحروب النابليونية، شهدت بريطانيا طفرة اقتصادية، ودفع انخفاض أسعار الفائدة على سندات الخزانة الحكومية المستثمرين الباحثين عن الدخل نحو الأصول عالية المخاطر.
- اتجهت أنظارهم جنوبًا، نحو جمهوريات أمريكا اللاتينية حديثة الاستقلال، مثل المكسيك وتشيلي، التي كانت تُصدر سندات سيادية وتُؤسس شركات تعدين لتمويل حكوماتها الناشئة.
- بين عامي 1824 و1825، تأسس في لندن عدد مذهل من الشركات المساهمة الجديدة بلغ 624 شركة، ارتبط العديد منها بهذه المشاريع، وجمعت ما مجموعه 372 مليون جنيه إسترليني (أكثر من 30 مليار إسترليني اليوم).
- غذّت السرديات الترويجية والحماسة القومية هذا الهوس الاستثماري، حيث صوّرت هذه الدول الجديدة كمصادر لثروات طائلة، ومنح الاعتراف الدبلوماسي بهذه الجمهوريات طابعًا قويًا لهذه المخططات.
- فيما تولّى سياسيون إدارة الشركات التي كانوا يشجعون الجمهور على الاستثمار فيها، بمن فيهم 45 عضوًا في البرلمان البريطاني، إلى جانب تعيين عدد من النبلاء في مناصب مختلفة بالشركات المرتبطة بالتعدين في أمريكا الجنوبية.
كيف انتهى الهوس؟
- كانت آليات التلاعب سافرة ومتعددة الطبقات، حيث استخدم المروجون لغة مبالغًا فيها في نشرات الاكتتاب لبيع أسهم في شركات بأسماء غريبة، مثل شركة "القيامة للمعادن"، التي زعمت أنها تستعيد قذائف المدافع من مواقع المعارك البحرية.
- كانت عملية الاحتيال الأكثر شهرة هي مخطط "بويايس"، الذي دبره المغامر الإسكتلندي "غريغور ماكغريغور"، حيث باع سندات بملايين الجنيهات الإسترلينية مقابل أسهم في إمارة في أمريكا الوسطى لم يكن لها وجود من الأساس، ومات أغلب المستوطنين الذين وصلوا ليجدوا أرض غابة بلا حياة.
- تسبب بنك إنجلترا، بصفته مؤسسة شبه خاصة آنذاك، في تفاقم الوضع باتباعه سياسة نقدية تيسيرية، حيث خفض أسعار الفائدة، وزاد المعروض من الأوراق النقدية، مما عمق جنون المضاربة.
- كان الانهيار سريعًا بمجرد تراجع الثقة، فبعد انتشار تقارير تفيد بأن "بويايس" كانت خدعة، انهار السوق في 1825، وشدد بنك إنجلترا ظروف الائتمان، مما فاقم حالة الذعر، قبل أن يعكس مساره أخيرًا ويتصرف كمقرض الملاذ الأخير، مقدمًا ما يقرب من 17 ملايين جنيه إسترليني في عمليات إنقاذ.
- لكن الأوان قد فات، حيث انهارت العشرات من بنوك الريفية، بالإضافة إلى 5 بنوك في لندن، وكانت للأزمة تكلفة شخصية باهظة على المتورطين فيها، وتكبد الشباب ديونًا باهظة وتأثرت الحياة السياسية لبعض الشخصيات العامة، حتى دور النشر الكبرى أفلس بعضها.
وتستمر المعاناة..
- هذه الوقائع، وما تلاها، مثل ظاهرة متاجر رهانات الأسهم (Bucket shop) في بداية القرن العشرين، و"غارات الدببة" (bear raid) قبل الأزمة المالية العالمية، مرورًا بانهيار شركة "إنرون" عام 2001، ووصولًا إلى الانهيارات المتعلقة بالبيتكوين وتداولات الميم، دائمًا ما تكون ذات السمات مشتركة.
- في غرينوود، كانت الشرارة شائعة كاذبة، والسلاح عنفاً مباشراً، والمتواطئ القانون نفسه، وفي أسواق المال، الشرارة دعاية مضللة، والسلاح تلاعب بالأسعار، والنظام إما متواطئ أو ضعيف.
- القصتان تختلفان في الأدوات، لكنهما تتفقان في النمط الجوهري: ازدهار مرئي، استهداف منظم من الأقوى، غياب الحماية المؤسسية، ثم خسارة جماعية مدمرة.
- الدرس الأقسى هو أن النجاح المكشوف يجذب المفترسين، وعندما تغيب المؤسسات الحامية، يصبح الازدهار نفسه فخاً قاتلاً خاصة للفئات الضعيفة، والتاريخ يؤكد أن الخسائر المالية الجماعية ليست سوء حظ في أغلب الأحوال.
- بين الماضي والحاضر خيط رفيع من الأمل، وهو الوعي، فعقل المستثمر هو درعه الأخير، لأن التلاعب سيظل يتغيّر شكله، من شائعة في شارعٍ إلى إشاعة في منصة، ومن مضاربٍ إلى خوارزمية، ومن سندات وهمية إلى عملات رقمية مضللة، لكن الفارق سيبقى في من يفهم اللعبة قبل أن تبتلعه.
المصادر: أرقام- إنفستوبيديا- فولتيد- بريتانيكا- ذا بور- إيدلوايس كابيتال- ذا بابل بابل- مكتبة الكونجرس الأمريكية- الفيدرالي في نيويورك- جامعة ييل- كتاب تاريخ الأزمات المالية البريطانية منذ 1825- إنفستور أمنيجاك- تونتين كوفي هاوس- مدونة بيانكا وايت رايت- بنك إنجلترا- كوين- شات جي بي تي
أوراق بحثية:The Role of Bank of England Note Issues Amongst the Causes of the Panic of 1825- United Kingdom: Bank of England Lending during the Panic of 1825
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: