ربما إذا سُئل البعض عن أعظم اختراع للبشرية، فسوف يجيبون الإجابة التقليدية الخاصة بالتكنولوجيا مثل الطباعة أو الكهرباء، لكن ما من أحد ستكون إجابته بأنه العقد الاجتماعي، رغم الدور الكبير الذي لعبه في تطور البشرية لما لا يقل عن 7 آلاف عام.
فالنظام المالي بمثابة آلة زمن تنقل فائض دخل المدخرين إلى المستقبل، أو يُمكن المقترضين من الحصول على أرباح في المستقبل، كما يُمكن أن يكون بمثابة شبكة أمان للتأمين ضد الحرائق والمرض والفيضانات.
وفي عام 2008 وقعت أزمة اقتصادية عالمية اعُتبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير، وقد خلفت وراءها بطالة وديونا ومشكلات عالمية، والآن بعد مرور 8 سنوات يجب طرح سؤال لمعرفة ما إذا كانت الأمور تسير بشكل جيد لدعم النظام المالي.
وطالما أن التاريخ هو أفضل ما يُمكن الرجوع إليه لمعرفة الإجابات، فقد نشرت "الإيكونوميست" تقريرًا عن 5 أزمات اقتصادية تاريخية للتعلم من دروسها.
1- 1792 وتأسيس النظام المالي الحديث
يرجع الفضل في تأسيس النظام المالي الحديث الأمريكي إلى " ألكسندر هاميلتون"، فهو أول وزير خزانة للولايات المتحدة، حين كانت الدولة خالية من أي شيء، وفي عام 1790 أي بعد 14 عامًا من الاستقلال، صار هناك خمسة بنوك وبعض شركات التأمين.
كما يرجع له الفضل في إنشاء بنك مركزي مملوك للقطاع العام “BUS” للاقتراض بأسعار زهيدة، فمن بين الـ 10 ملايين دولار في أسهم بنك "بي يو إس" كانت هناك 8 ملايين دولار متاحة للجمهور، في مزاد أولي عام 1971، وسارت الأمور بشكل جيد، حيث كان "هاميلتون" يخطط أن يدعم كلا من البنك والديون بعضهما البعض.
إلا أن خطة "هاميلتون" تعرضت لاثنتين من المخاطر، فقد قام صديق قديم يُدعى "ويليام ديور" ويُوجه إليه اللوم في الأزمة المالية الأمريكية، بالتواطؤ مع آخرين لاحتكار السوق، وقام بالاستدانة من أصدقائه الأثرياء ومن الشركات لدعم هذا المخطط، المشكلة الأخرى كانت متعلقة بالبنك نفسه، مما أضاف نحو 2.7 مليون دولار من القروض الجديدة في أول شهرين، واعترت سكان فيلادليفيا ونيويورك حمى المضاربة، وكان هناك سباق بين سكان المدينتين لاستغلال الفرص المتاحة.
وبدأت المخاوف تظهر في مارس/آذار 1972، حين بدأ البنك يخفض العملة الصعبة التي تدعم أوراقه النقدية، وخفض المعروض من الائتمان بنفس السرعة، وانخفضت القروض بنسبة 25% بين نهاية يناير/كانون الأول ومارس/آذار، مع تشديد الإجراءات على الائتمان، وبدأ "ديور" والمتواطئون معه يشعرون بضرورة تسديد قيمة ديونهم.
وقد انتشرت الشائعات حول مشكلات "ديور"، واجتمعت مع الإجراءات المشددة التي يفرضها البنك على الائتمان، مما أدى إلى انخفاض حاد في أسعار السوق الأمريكية، فقد انخفضت أسعار السندات الحكومية وأسهم البنك وبعض الأسهم المتداولة للشركات بنسبة 25% في غضون أسبوعين، وفي الثالث والعشرين من مارس/آذار أودع "ديور" السجن، لكن ذلك لم يوقف المشكلة، فقد بدأت الشركات في الانهيار، وكان المستثمرون الغاضبون يقصفون سجن نيويورك المُحتجز به "ديور" بالحجارة.
ومن أجل حل هذه الأزمة حارب "هاميلتون" على جبهات عديدة، فقد استخدم المال العام لشراء السندات الاتحادية ورفع أسعارها، للمساعدة في حماية البنوك والمضاربين الذين اشتروا بأسعار مرتفعة، وضخ أموالاً للمقرضين المتعثرين.
وقد تمكن ببراعة من استعادة الثقة وتحقيق ازدهار في النظام المالي، وفي غضون نصف قرن صارت نيويورك قوة مالية عظمى، فقد زاد عدد البنوك والأسواق، وارتفع الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن خطة الإنقاذ أدت إلى تحقيق مكسب آخر، فقد تسببت الأزمات اللاحقة في زيادة اعتماد النظام المالي على الدعم الحكومي.
2- 1825 وأول أزمة الأسواق الناشئة
في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر كان المستثمرون متحمسين للاستثمار في بريطانيا، حيث كانت الأسواق مزدهرة هناك، وكانت ويلز مصدرًا للمواد الخام ومُصدرة للحديد إلى جميع أنحاء العالم، وصارت مانشستر أول مدينة صناعية في العالم، ونما الإنتاج بنسبة 34% بين عامي 1820 و1825.
وقد ظلت السندات الحكومية وفيرة بسبب الحرب مع "نابليون"، وبعد انتهاء العمليات القتالية خفض وزير المالية معدل السندات، واضطرت الحكومة لخفض معدلاتها، وانخفض العائد على الدين الحكومي من 5% عام 1822 إلى 3.3% في عام 1824، وبلغ التضخم نحو 1% بين عامي 1820 و1825.
وكان لدى المستثمرين خيار لإحلال أمستردام محل لندن كمركز مالي رئيسي في أوروبا، مما أدى إلى صعود سوق السندات العالمية الجديد بشكل سريع، وبعد أن كان للندن سند أجنبي واحد فحسب عام 1820، صار لديها 23 سندًا عام 1826، إلا أن أفضل استثمارات هي التي كانت تحدث في العالم الجديد، فالإمبراطورية الإسبانية المتداعية كانت قد تركت خلفها مستعمرات خالية يُمكن إقامة دول مستقلة عليها، وقد باعت كولومبيا وتشيلي وبيرو والمكسيك وغواتيمالا بين عامي 1822 و1825 سندات بقيمة 21 مليون إسترليني أي ما يساوي 2.8 مليار دولار في وقتنا الحالي.
ورغم ذلك كانت هناك مشكلة كبيرة وهي بُعد المسافة، فالذهاب إلى أمريكا الجنوبية والعودة منها يتطلب 6 أشهر، لذا كان يتم عقد الصفقات على أساس معلومات غالبًا ما تكون متذبذبة في معظم الأحوال.
وفي عام 1823 بات واضحًا أن إسبانيا على وشك التخلف عن سداد عوائد السندات، وبدأت أسعار السندات في الهبوط، وبدأت البنوك البريطانية تتعرض للدين، واضطرت البنوك البريطانية أن توفر الأموال اللازمة للمقرضين وللشركات المتعثرة، وبحلول عام 1826 تم إغلاق أكثر من 10% من البنوك في إنجلترا وويلز.
كان أكثر شيء ملحوظ في أزمة 1825 هذا الاختلاف الشديد في وجهات النظر، فقد ألقى البعض اللوم على المستثمرين لأنهم قاموا بالاستثمار في بلدان ليس معروفًا حجم ديونها، أو التعدين لاستكشاف بلدان ليس بها خامات، وكان هناك غضب ومطالبة للمستثمرين للقيام باستكشاف الأسواق الناشئة قبل وضع الأموال في خطر.
بينما ألقى المسؤولون في بريطانيا اللوم على البنوك، ومن أجل حل هذه الأزمة استعانت بريطانيا بتجربة أسكتلندا، إذ تعتمد بنوكها على مساهمة المُقرضين، وإصدار الأسهم لمن يشتريه فحسب، وكان المقرضون الأسكتلنديون أفضل حالاً خلال الأزمة.
وفي عام 1826 أقر البرلمان قانونًا جديدًا للبنوك، ورغم أن إنجلترا كانت بالفعل مركزًا عالميًا للسندات، إلا أنه بعد رفع القيود المفروضة على الملكية، صارت البنوك تجتذب المنافسين.
3- الهلع العالمي 1857
رغم أن بريطانيا في بداية خمسينيات القرن التاسع عشر كانت تبدو من على السطح منتعشة اقتصاديًا وتُرسل صادراتها إلى جميع بلدان العالم، إلا أنه قد حدث تغييران كبيران تحت السطح، تمثل التغيير الأول في تكون شبكة من العلاقات الاقتصادية الجديدة، فبحلول عام 1857 كانت أمريكا تعاني من عجز مالي قدره 25 مليون دولار، فقد اشترت أمريكا سلعا أكثر مما تبيع، واشترت إنجلترا أصولا أمريكية لتوفير التمويل، وبحلول منتصف الخمسينيات كانت بريطانيا قد اشترت أسهما وسندات أمريكية تُقدر بـ 80 مليون دولار، بينما تمثل التغيير الثاني في ظهور موجة من الابتكارات المالية.
وفي أواخر ربيع عام 1857 بدأت أسهم السكك الحديدية في الانخفاض، وبدأت شركة "أوهايو لايف" للتأمين في الانهيار بسرعة، وانتشرت المشكلة شرقًا، مما أدى إلى هبوط أسهم سماسرة الأوراق المالية الذين يستثمرون في مجال السكة الحديد، وفي يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول كانت شوارع وول ستريت ممتلئة بالمودعين المطالبين بأموالهم، ورفضت البنوك تحويل الودائع إلى أموال، وانهار النظام المالي الأمريكي.
وواصلت الأزمة المالية انتشارها ووصلت إلى بريطانيا، وبدأ التجار الذين كانوا يستثمرون مع الشركات الأمريكية في الخسارة في أكتوبر/تشرين الأول، كما صارت الأزمة عالمية.
ومن أجل حل الأزمة غيّر بنك "إنجلترا" سياساته عام 1858، ولم تعد بيوت الخصم قادرة على الاقتراض لمجرد الاقتراض، وكان لا بد لهذه البيوت أن تمتلك تأمينًا ذاتيًا، للحفاظ على الاحتياطيات النقدية التي تمتلكها بدلاً من الاعتماد على البنك المركزي، وجعلت هذه الخطوة أزمة 1857 مثالًا نادرًا على محاولة الدولة استعادة دعمها.
4- الذعر المصرفي الأمريكي 1907
شهدت فترة ما بعد الحرب الأهلية في أمريكا تضخما في عدد البنوك، وبحلول عام 1907، كان بأمريكا 22 ألف بنك، وقد شهدت بنوك نيويورك سحبا للسيولة وفقدان الثقة لدى المودعين وعدم وجود صناديق ضمان للودائع، مما أدى إلى أزمة مالية ضخمة، وانهارت سوق البورصة بصورة مفاجئة فاقدة ما يقرب من 50% من الحد الأقصى للقيمة المالية التي حققتها في العام السابق.
وقد حدث هذا الذعر في فترة ساد فيها الكساد إثر عمليات سحب للأموال المودعة في البنوك التي تقدم خدمات مصرفية عامة للأفراد وبنوك الاستثمار، وقد عم هذا الذعر أرجاء البلاد عام 1907 وطال أرجاء البلاد، مما أدى إلى إفلاس العديد من البنوك والشركات.
وكان من الممكن أن تزيد وطأة هذه الأزمة لولا تدخل رجل الأعمال "جون بيربونت مورجان" الذي دفع بأمواله الخاصة وأقنع باقي المصرفيين أن يحذوا حذوه لدعم النظام المصرفي الأمريكي، وانتهت الأزمة فعليا في نوفمبر/تشرين الثاني حينما استعاد الاقتصاد عافيته، وانتهى المطاف بهذه الأزمة في 22 ديسمبر/كانون الأول 1913 بإنشاء نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
5- الكساد الكبير 1929-1933
تعتبر هذه الأزمة أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين، وقد بدأت مع انهيار سوق الأسهم الأمريكية في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1929 والمسمى بالثلاثاء الأسود، نتيجة ارتفاع العرض عن الطلب، فعجز بذلك المضاربون عن تسديد ديونهم مما أدى الى إفلاس البنوك.
وكان تأثير الأزمة مدمرًا على كل الدول تقريباً، وانخفضت التجارة العالمية ما بين النصف والثلثين، كما انخفض متوسط الدخل الفردي وعائدات الضرائب والأسعار والأرباح، وكانت المدن أكثر المتأثرين بالأزمة وخاصة المعتمدة على الصناعات الثقيلة كما توقفت أعمال البناء تقريباً في معظم الدول، وتأثر المزارعون بهبوط أسعار المحاصيل بحوالي 60% من قيمتها.
وقد جاءت الموجة الأسوأ عام 1931 والتي بدأت بتهافت على سحب الودائع من المصارف بسبب الذعر المصرفي، وأغلق 1350 بنكًا أبوابه هذا العام، وضربت الموجة الثانية شيكاغو، كليفلاند وفيلادلفيا في أبريل/نيسان عام 1931، وأدت الضغوط الخارجية إلى تفاقم المخاوف الداخلية، إذ أدى انخفاض سعر الذهب في بريطانيا إلى انخفاض سعر عملتها، مما ممثل ضغوطًا على المصدرين الأمريكيين.
ووصلت حالة الذعر إلى ألمانيا والنمسا، ولم يعد هناك ثقة عامة، ورغم أن الاحتياطي الفيدرالي قام بحملة لشراء السندات، لكن ذلك أدى إلى استراحة مؤقتة، لأن البنوك التي بقيت دون غلق كانت في حالة سيئة.
ولم يبدأ الانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة إلا عام 1933 ، حيث تم وضع حلول للأزمة المصرفية في ذلك العام، وإعادة فتح المصارف السليمة، وإصدار قوانين عاميّ 1933 و1935 التي تمنع المصارف من التعامل بالأسهم والسندات، وكذلك إنشاء مؤسسات لرعاية ضحايا الأزمة الاقتصادية من العاطلين عن العمل.
بالإضافة إلى إصدار قوانين تحقق الاستقرار في قطاع الزراعة وإصدار قانون الإصلاح الصناعي عام 1933، وتصحيح استخدام الأوراق المالية من خلال إنشاء لجنة تبادل الأوراق المالية في العام التالي.
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: