في عالم المال، حيث تتحرك الأسواق بخطى متسارعة وتتصارع الشركات على كسب ثقة المستثمرين، تأتي توزيعات الأرباح السخية كأحد أبرز المؤشرات على قوة الشركة ومتانة وضعها المالي.
فالشركات التي تحقق تدفقات نقدية مستقرة وعوائد تشغيلية قوية غالبًا ما تلجأ إلى تعزيز ولاء المساهمين من خلال توزيعات دورية ومتنامية، وهو ما أكده "بنيامين جراهام" في كتابه الكلاسيكي المستثمر الذكي.
وأشار في كتابه إلى أن توزيعات الأرباح ليست مجرد تدفق نقدي إلى المساهمين، بل هي انعكاس مباشر لانضباط الإدارة وثقتها في استدامة العوائد المستقبلية.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
لكن الوجه الآخر لهذه السياسة لا يخلو من الجدل؛ فالتوزيعات السخية قد يكون لها جانب مظلم أحيانًا.
ففي بعض الحالات، تلجأ إدارات الشركات إلى زيادة التوزيعات ليس من باب الثقة في الأداء المستقبلي، بل كوسيلة لامتصاص غضب المستثمرين أو لإخفاء ضعف في توسعات الشركة أو تراجع في أرباحها التشغيلية.
وهنا تتحول التوزيعات من مؤشر قوة إلى أداة للحصول على رضا مؤقت، مما قد ينعكس سلبًا على قدرة الشركة الاستثمارية لاحقًا.
وهو ما عبر عنه "جراهام" أيضًا في كتابه حينما حذر من الإفراط في توزيع الأرباح على حساب استثمارها في تطوير الأعمال أو تعزيز الميزانية العمومية، واعتبر أن هذا النهج قد يُرضي المساهمين مؤقتًا لكنه يضعف قدرة الشركة على النمو طويل الأجل.
ويقدم التاريخ المالي نماذج متعددة لكلا النموذجين فبينما رسّخت شركات مثل جونسون آند جونسون وبروكتر آند جامبل سمعتها عبر سياسة توزيعات أرباح تصاعدية امتدت لعقود، واجهت شركات مثل فورد انتقادات حادة بعد توزيع أرباح مرتفعة في سنوات مالية صعبة.
الأرباح السخية كمؤشر على القوة المالية
تُعتبر توزيعات الأرباح السخية من أبرز الإشارات التي يلتقطها المستثمرون عند تقييم متانة أي شركة، فعندما تعلن مؤسسة كبرى عن التزامها بدفع عوائد مرتفعة بشكل دوري، فإن ذلك يعكس غالبًا قدرة مالية قوية وتدفقات نقدية مستقرة.
كما يشير إلى الوضع المالي الجيد الذي تتمتع به، والذي يمكنها من الوفاء بالتزاماتها تجاه المساهمين دون المساس بخططها الاستثمارية المستقبلية.
وفي هذا الإطار أعلنت شركة ويسفارمرز الأسترالية تحقيق أرباح صافية بلغت 2.65 مليار دولار أسترالي للسنة المالية المنتهية في 30 يونيو الماضي لتحقق ارتفاعًا بنسبة 3.8% مقارنة بالعام السابق.
لذا كشفت الشركة عن توزيعات سخية للمساهمين، تضمنت زيادة توزيعات الأرباح لتفوق تلك المقدرة بـ1.11 دولار أسترالي للسهم (مقابل 1.07 دولار العام السابق).
وقررت الشركة توزيعًا خاصًا بقيمة 1.50 دولار للسهم، منها 1.10 دولار كعائد رأسمالي و0.40 دولار كأرباح خاصة، وبذلك يصل إجمالي المبالغ المعادة للمساهمين إلى 1.7 مليار دولار أسترالي.
كما حافظت شركة إيه تي آند تي الأمريكية على توجيه أرباح سنوية بقيمة 2.02 دولار أمريكي للسهم لعام 2025، إلى جانب خطة لإعادة شراء أسهم بقيمة 20 مليار دولار حيث عزز نمو قاعدة المشتركين المستمر استدامة هذه الأرباح، وأثر إيجابيًا على أدائها التشغيلي.
ملوك الأرباح
لطالما شكّلت بعض الشركات العالمية نماذج يُحتذى بها في مجال توزيعات الأرباح، حيث لا تقتصر قوتها على تحقيق نتائج تشغيلية مستقرة، بل تمتد إلى قدرتها على بناء علاقة ثقة طويلة الأمد مع المساهمين.
هذه الشركات تُلقب أحيانًا بـ"ملوك الأرباح" نظرًا لاستمراريتها في رفع التوزيعات لعقود طويلة، ما يجعلها ركيزة أساسية في محافظ المستثمرين الباحثين عن العوائد المستقرة والموثوقة.
وتُعد شركة بروكتر آند جامبل مثالًا كلاسيكيًا على هذا النهج؛ إذ رفعت أرباحها بشكل متواصل لأكثر من 65 عامًا متتالية، مع المحافظة على نسبة توزيع أرباح تقارب 60%.
هذا الثبات يعكس نموذج عمل مرنًا قادرًا على توليد تدفقات نقدية قوية حتى في أوقات الأزمات، مستندًا إلى محفظة منتجات استهلاكية متنوعة تشمل علامات تجارية عالمية مثل جيلت وبانتين وتايد.
أما شركة جونسون آند جونسون، فهي بدورها حافظت على سجل مذهل يقارب 60 عامًا من زيادة التوزيعات، مستفيدة من تنوّع أنشطتها بين الأدوية والأجهزة الطبية والمنتجات الاستهلاكية.
هذا التنوع منحها قدرة على امتصاص الصدمات الاقتصادية والدوائية، وضمان تدفق مستقر للأرباح، ما جعلها خيارًا مفضلًا للمستثمرين الباحثين عن التوازن بين الاستقرار والنمو.
في المقابل، تمثل مايكروسوفت نموذجًا مختلفًا في فلسفة إدارة الأرباح؛ إذ تجمع بين توزيعات منتظمة تعكس قوة مركزها المالي، ومعدلات إعادة استثمار مرتفعة في مجالات الابتكار والتوسع.
فتوزيعات أرباحها لا تتجاوز نسبتها 30%، وهو ما يتيح للشركة تمويل استثمارات ضخمة في مجالات مثل الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، مع الحفاظ على تدفق عوائد مجزية للمساهمين.
الأرباح السخية كوسيلة لاسترضاء المساهمين
رغم أن توزيعات الأرباح عادةً ما يُنظر إليها كرمز للاستقرار والقوة المالية، فإن بعض الحالات تكشف عن استخدامها كأداة لتهدئة المساهمين في فترات عدم اليقين أو الأداء الضعيف.
ففي هذه المواقف، قد تتحول التوزيعات من مؤشر قوة إلى عبء يهدد استدامة الشركة على المدى الطويل.
وفي أستراليا، تمثل شركة ماجيلان فاينانشال مثالًا بارزًا، فرغم انخفاض صافي أرباحها السنوية إلى 165 مليون دولار أسترالي في العام المالي 2023، التزمت الشركة بسياسة توزيع ما يصل إلى 80% من أرباحها بعد الضريبة على المساهمين.
هذا النهج أثار تساؤلات واسعة حول ما إذا كانت الشركة تمنح الأولوية لترضية المستثمرين على حساب تعزيز احتياطياتها المالية لمواجهة التحديات المستقبلية.
أما في الولايات المتحدة، فقد عاشت شركة فورد موتور سيناريو مختلفًا، إذ أوقفت توزيعات الأرباح بالكامل في عام 2020، ثم أعادتها لاحقًا بمستويات متواضعة.
لكنها لجأت بعد ذلك إلى تقديم أرباح خاصة بلغت 63 سنتًا في 2023 و18 سنتًا في 2024، وهو ما اعتبره محللون التزامًا شكليًا بسياسة التوزيع، أكثر من كونه انعكاسًا لأداء مالي قوي أو مستدام.
ويتجلى الوجه الأكثر إثارة للجدل في الاعتماد على الأرباح الخاصة أو الاستثنائية من أجل توزيعات الأرباح للمساهمين، فقد رفعت شركة آوتفرونت الأمريكية توزيعاتها في عام 2022 عبر أرباح خاصة بقيمة 75 سنتًا، ما رفع عائدها السنوي من 6.3% إلى أكثر من 10%.
لكن هذه المدفوعات غير المنتظمة تفتقر إلى عنصر الاستدامة الذي يطمئن المستثمرين على المدى الطويل.
متى تتحول المؤشرات المالية لإشارات إنذار؟
تشير الدراسات إلى أن إعادة استثمار الأرباح ساهمت في نحو 69% من إجمالي عوائد مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" على المدى الطويل.
في المقابل، لا تعني النسب المرتفعة لتوزيعات الأرباح دائمًا قوة مالية أو أداءً مستدامًا؛ فقد تكون هذه المعدلات مضللة إذا جاءت نتيجة تراجع حاد في أسعار الأسهم، ما يؤدي تلقائيًا إلى ارتفاع العائد الموزع كنسبة مئوية من السعر.
وفي بعض الحالات، قد تمثل هذه التوزيعات المرتفعة إشارة إنذار على ضائقة مالية، حيث تلجأ بعض الشركات إلى الإبقاء على توزيعات مجزية رغم تراجع أرباحها التشغيلية، فقط للحفاظ على ثقة المستثمرين مؤقتًا، وهو ما قد يقوّض استقرارها على المدى الطويل.
لذا فإن على المستثمرين أن يدركوا أن التركيز على توزيعات الأرباح وحدها قد يكون مضللًا، وأن الأفضل النظر إليها في سياق أوسع يشمل استقرار التدفقات النقدية، ومستوى المديونية، وخطط الشركة المستقبلية للنمو.
فالأرباح السخية قد تُبهرك في المدى القصير، لكنها لا تساوي الكثير إذا كانت على حساب استدامة أعمال الشركة أو قدرتها على الاستثمار في الابتكار.
المصادر: أرقام- وكالة رويترز- ماركت ووتش- إنفستوبيديا- فوربس- صحيفة ذي أستراليان- موقع بلو تشيب بيكس- موقع مجلة بارونز- يو إس نيوز
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: