في عالم المال، لا يحتاج الأمر دائمًا إلى أزمة اقتصادية حقيقية حتى تبدأ الأسواق المالية في الهبوط، يكفي مجرد إشاعة، أو تغريدة غامضة ليتحول كل شيء للون الأحمر.
ورغم أن الأسواق تتفاعل مع عوامل متعددة في وقت واحد مثل البيانات الاقتصادية، وأرباح الشركات، وإشارات البنوك المركزية إلا أن هناك جانباً آخر مهماً لا يمكن إغفاله وهو العوامل الإنسانية، وعلى رأسها الخوف.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
فالخوف غالبًا ما يتفوق على التحليل المنطقي للأحداث، إذ يكفي شعور جماعي بالذعر ليدفع المستثمرين إلى البيع بسرعة غير محسوبة، وهو ما يفسر أحيانًا الهبوط الحاد الذي يحدث في دقائق، بينما استيعاب الأخبار الاقتصادية الحقيقية يستغرق أيامًا أو أسابيع.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما حدث خلال جائحة كوفيد-19، حيث سبقت موجة البيع الحادة في الأسواق العالمية صدور بيانات رسمية أكدت الانكماش الاقتصادي ومع ذلك لم يكن هناك استجابة سلبية مباشرة جراء تلك التقارير، مقابل وقوع صدى أكبر لموجات الذعر.
كذلك، التصريحات السياسية المفاجئة أو أخبار التوترات الجيوسياسية قد تدفع الأسواق إلى تقلبات حادة حتى وإن لم تتضح بعد النتائج الفعلية على الاقتصاد.
ويعود ذلك إلى ما يسميه علماء السلوك المالي بـ"التحيزات العاطفية"، مثل ميل المستثمر إلى تجنب الخسارة أكثر من سعيه وراء المكسب، وهو ما يجعل رد الفعل على الأخبار السلبية مضخمًا مقارنةً بالأخبار الإيجابية.
يطرح ذلك تساؤلًا مهمًا حول ما إذا كانت الأسواق تتحرك بدرجة أكبر بفعل الخوف أم بفعل الأخبار الاقتصادية؟ هذا التساؤل ليس مجرد جدل لا قيمة له، بل هو قضية تمسّ مباشرة كيفية بناء المحافظ الاستثمارية، وصياغة السياسات الاقتصادية، واستراتيجيات إدارة المخاطر.
ويشكل كلٌّ منهما عاملًا مهمًا، لكنهما يعملان على أُطر زمنية وقنوات مختلفة.
فالأخبار الاقتصادية توفّر المعلومات مثل الناتج المحلي الإجمالي، والتضخم، والتوظيف، وأرباح الشركات حيث تسهم هذه البيانات في تقديرات المستثمرين للتدفقات النقدية المستقبلية وأسعار الفائدة وغيرها من المعلومات التي تلعب دورًا رئيسيًا في القرار الاستثماري.
أما الخوف، فهو مضخّم سلوكي؛ يمكن أن يضاعف تأثير الأخبار الاقتصادية، أو يحرك الأسواق حتى دون تغيّر ملموس في الأساسيات.
حين يقود الخوف عجلة السوق
أثبتت الدراسات الحديثة وتجارب الأسواق الأخيرة أن الخوف والعوامل الاقتصادية يسيران معًا في تشكيل حركة الأسواق، لكن تأثير الخوف غالبًا ما يكون أسرع وأقوى.
فعندما يتصاعد القلق في الأسواق، يقفز مؤشر "الخوف" بسرعة، فيبدأ المستثمرون بالمطالبة بعوائد أعلى مقابل المخاطرة بالاحتفاظ بالأسهم، وعندها ترتفع تكلفة التأمين على الاستثمارات (عبر عقود الخيارات)، تتراجع السيولة المتاحة، وتشتعل موجات بيع متتالية.
وحتى البنوك المركزية والهيئات المالية تعترف بأن ارتفاع تقلبات السوق يرتبط مباشرة بزيادة تكاليف التمويل وتشديد الأوضاع الائتمانية، بمعنى آخر، يمكن للخوف أن يرفع تكلفة رأس المال ويكبح الاستثمار والائتمان بوتيرة أسرع بكثير مما قد تفعله أي بيانات سلبية عن النمو.
وتكشف الأمثلة العملية بوضوح قوة هذا العامل النفسي، ففي مارس 2020، تسببت صدمة جائحة كوفيد-19 في حالة ذعر عالمية غير مسبوقة حيث انهارت الأسواق خلال أيام قليلة، فيما أصيبت أسواق الائتمان بالشلل، واندفع المستثمرون إلى السيولة بشكل مضاعف.
جاءت تلك التحركات رغم أن البيانات الاقتصادية الرسمية لم تكن قد عكست بعد حجم الانكماش.
الأمر ذاته تكرر مع قفزات مؤشر الخوف في أزمات متتالية وقعت خلال العام الماضي حيث كان الخوف من صدمات سياسية أو قرارات مفاجئة هو المحرك الأساسي للتقلبات، أكثر من أي تغيير جوهري في المؤشرات الاقتصادية.
وأظهر تحليلًا لتقلبات السوق الأمريكية في أغسطس 2024، أن اتساع فروق الأسعار وتراجع السيولة كانا نتيجة مباشرة للخوف وهيكل السوق، لا لتدهور اقتصادي ملموس.
متى يكون الخوف محرّكًا أساسيًا؟
يحدث ذلك عند تصاعد عدم اليقين أو ظهور أحداث غير مسبوقة، مثلما حدث في أغسطس من العام الماضي، عندما شهد مؤشر الخوف قفزة هائلة يوم 5 أغسطس، فاقت أيّ قياسات لليلة ما قبل افتتاح السوق حتى، رغم أن البيانات الاقتصادية لم تكن آنذاك قد انعكست بالكامل.
في هذه الحالة، الخوف من تضخّم غير متوقع، ومن سياسات نقدية أو تغيّرات في الاقتصاد العالمي لا تزال ضبابية، كان سببًا رئيسيًا في ردود الفعل السريعة من المستثمرين.
ومن بين الأسباب التي تجعل الخوف محركًا أساسيًا في الأسواق هو عندما يكون هيكل السوق هشًّا والسيولة ضعيفة.
ففي ظل ضعف السيولة، اضطرت بعض الصناديق الاستثمارية إلى بيع أصولها بسرعة لتلبية طلبات تغطية الخسائر (المعروفة بـ نداءات الهامش).
هذا البيع القسري ضاعف الضغوط على السوق، فتراجعت الأسعار بشكل حاد، رغم أن المؤشرات الاقتصادية الأساسية لم تكن قد تدهورت بما يكفي لتبرير هذا الهبوط الكبير.
ومن بين الأسباب أيضًا، غموض البيانات أو تضارب في الإشارات، فعندما تكون البيانات الاقتصادية ضبابية أو متناقضة، تملأ المشاعر هذا الفراغ.
ويُمكن أن تضغط السلبية المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي على الأسعار في الأسواق، حتى لو بقيت الأساسيات مستقرة، لكن الأدلة الأكاديمية تؤكد أن هذا التأثير عادةً قصير الأمد من الأخبار الاقتصادية الرسمية.
في مثل هذه الفترات، يستجيب المستثمرون للنبرة السلبية عبر وسائل الإعلام والتحليلات الأولية بدلاً من التركيز فقط على الأرقام المؤكدة، ما يدفع السوق إلى تقلبات مؤقتة قوية.
الأخبار الاقتصادية أم الخوف
رغم قوة المشاعر وتأثير الخوف اللحظي، لا يمكن إنكار أهمية الأخبار الاقتصادية. فقد أظهرت الدراسات التي تفرّق بين الأخبار الجوهرية وضوضاء الرأي العام أن البيانات الاقتصادية تحمل محتوى معلوماتيًا أثقل، وتترك بصمة أطول على العوائد.
وقد أظهرت دراسات حديثة استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل نبرة الأخبار — سواء كانت إيجابية أم سلبية — أن لهذه النبرة قدرة ملموسة على التنبؤ بحركة الأسواق، لأنها غالبًا ما تعكس مؤشرات جوهرية مثل الأرباح واتجاهات أسعار الفائدة.
بمعنى آخر، عندما تكون البيانات الاقتصادية واضحة ومتماسكة، فإن الأسواق تميل إلى التحرك وفق أسس الاقتصاد الحقيقي، لا وفق تقلبات المزاج أو العواطف العابرة.
لكن هذه الحقيقة تفتح الباب أمام سؤال عملي: كيف يتعامل المستثمرون وصنّاع القرار مع واقع تتحكم فيه أحيانًا الأساسيات، وأحيانًا أخرى المشاعر؟
بالنسبة للمستثمرين، التنويع وحده لا يكفي، ففي الأزمات، تميل الأصول المختلفة إلى التحرك في الاتجاه نفسه.
لذلك، يصبح التحوط الذكي ضرورة من خلال تبني استراتيجيات لمواجهة المخاطر، والاستثمار في أصول منخفضة الارتباط مثل بعض الأصول البديلة، والاحتفاظ بهوامش سيولة آمنة.
أما البنوك المركزية والسلطات المالية، فدورها يكمن في تقليل حالة عدم اليقين عبر التواصل الواضح والشفاف، وضخ السيولة عند الحاجة لاحتواء دوامات الخوف.
فعلى سبيل المثال أكد الفيدرالي الأميركي، مرارًا أن ارتفاع حالة الغموض يرفع علاوة المخاطر ويشدد الظروف المالية، ما يبرر أحيانًا التدخل الطارئ لإعادة الاستقرار للأسواق.
لذا فإن الإجابة على سؤال من الأقوى الأخبار الاقتصادية أم الخوف؟ تعتمد على عدة عوامل.
ففي الأوقات الطبيعية، تمسك الأساسيات الاقتصادية بزمام الأمور وتحدد العوائد طويلة الأجل، لكن عند الأزمات أو حين تغيب المعلومات الواضحة، يتحول الخوف إلى محرك رئيسي.
في نهاية المطاف الأسواق ليست مجرد أرقام ومعادلات؛ إنها مسرح تختلط فيه الحسابات الباردة مع الانفعالات البشرية، وتجاهل أحد الجانبين كمن يقود بعين واحدة.
فالاقتصار على المؤشرات الاقتصادية يعرضك لصدمات مفاجئة، والركون إلى الخوف وحده يقودك إلى قرارات قصيرة الأجل لها عواقب وخيمة.
وما يصنع الفارق هو القدرة على الموازنة بين تحليل الأساسيات بدقة، وبناء استراتيجيات تحوط ذكية، والإدراك الدائم أن الخوف يمكن أن ينفجر في أي لحظة ليعيد رسم المشهد بالكامل.
المصادر: أرقام- بنك التسويات الدولية- مجلس الاحتياطي الفيدرالي- رويترز- فايننشال تايمز- بلومبرج- وول ستريت جورنال
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: