بين جدران فندق "بلازا" العتيق وتحت ظلال "سنترال بارك" الوارفة، كانت نيويورك تزدحم بأحلامٍ عريضة وأطماعٍ مستترة، وتتكرر المشاهد في زوايا المطاعم الفاخرة، حيث يتبادل رجال الأعمال النظرات والتلميحات، بينما يتقلب المستثمرون خلف شاشات السوق يتابعون حركات السوق بعصبية، والآن، تعيد الأسواق تكرار مشهد عام 1929؛ حين كانت نيويورك مسرحًا لأكبر فقاعة مالية عرفها التاريخ.
يستعيد المؤلف الاقتصادي "أندرو روس سوركين" بكتابه "1929" لحظة انهيار وول ستريت الكبرى، متناولًا تفاصيل الجشع والفساد وغياب المساءلة التي سبقت الكارثة التي ربطت فترة العشرينيات بالكساد الكبير، ليطرح سؤالًا مؤرقًا حول تكرار الأنماط والتهديدات في أسواق اليوم تحت وطأة ثورة الذكاء الاصطناعي.
تاريخ سردي
- استند "سوركين" إلى وثائق غير منشورة ومصادر جديدة لإعادة سرد القصة، حيث اعتمد مؤلف كتاب "أكبر من أن تفشل" على مذكرات من أقطاب "وول ستريت" ترجع إلى القرن الماضي ولم تُنشر بعد، ومحاضر اجتماعات لم يكشف عنها سابقاً مجلس الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، بالإضافة إلى مئات الكتب والمقالات الصحفية.
الطمع المالي
- يرسم الصحفي في "نيويورك تايمز"، صورة واضحة لممارسات الطمع المالي في العشرينيات، حيث استُخدمت أساليب "رفع السعر وبيع الأسهم" بين كبار البنوك والمستثمرين، وسُجلت عمليات احتيال ضخمة شملت كبار الشخصيات مثل رئيس بورصة نيويورك "ريتشارد ويتي" ورئيس بنك "تشيس" الوطني "ألبرت ويجن"، وهو ما أسهم في خلق فقاعة مالية عملاقة انتهت بانهيار السوق في أكتوبر 1929.
طغيان الجشع
- يرى "سوركين" أن "الطمع جزء من الطبيعة البشرية"، ويدفع المستثمرين للهوس بالمضاربة مهما بدا المناخ الاقتصادي مضطربًا أو تحمل الأسواق مؤشرات خطر واضحة.
انفلات الرقابة
- انخفاض مستوى الشفافية مع تقليص عدد التقارير الدورية، وتخفيف الضوابط التنظيمية، وتفكيك هيئات حماية المستهلك، كل ذلك يزيد احتمالات فقدان السيطرة على الأسواق.
دمقرطة الاستثمار
- شأن العشرينيات، يُفتح اليوم باب الاستثمار في الأصول الخاصة والعملات الرقمية والائتمان للجمهور الواسع، لتصبح المخاطر متاحة للجميع وليس للأثرياء فقط، وكما انتشرت فروع الوسطاء في المقاهي والفنادق القديمة، توسعت اليوم منصات التداول الرقمي، ليصبح الاستثمار نشاطًا شعبياً يشارك فيه المبتدؤون والمحترفون بلا تمييز.
فقاعة استثمارية
- عندما كان الراديو "تكنولوجيا المستقبل" وصعد سهم "راديو كوربوريشن أوف أمريكا- RCA"، إلى حوالي 530 دولارًا في ذروة الفقاعة من نحو 85 دولارًا مطلع العقد، مع عمليات شراء جنونية، قبل أن يهوي إلى حوالي 3 دولارات فقط، يتشابه المشهد حاليًا مع حُمّى الذكاء الاصطناعي، في ظل تساؤلات حول استدامة النتائج وأثر الاستثمار المفرط.
جنرال موتورز
- في عام 1919، أحدثت "جنرال موتورز" تغييرًا جوهريًا في نمط الاستهلاك الأمريكي؛ بدلاً من أن يشترى الناس السيارات نقدًا، أتاحت الشركة لهم فرصة امتلاك السيارة عبر نظام التقسيط، وفتحت هذه الآلية الباب أمام ملايين الأسر لامتلاك سلع كانت في السابق بعيدة المنال، فانتشرت ثقافة الاقتراض والشراء بالدين، وتحول القرض من فكرة مرفوضة اجتماعيًا إلى وسيلة عادية لتحقيق الطموح الاستهلاكي.
المال المجاني
- انتقلت فكرة التقسيط بسرعة من السيارات إلى سوق الأسهم، وبدأ المصرفيون بتقديم نظام "الشراء على الهامش"، حيث يضع المستثمر 10% فقط من سعر السهم ويقترض الباقي من البنك، فأتاح ذلك لمئات الآلاف دخول البورصة بأموال قليلة، لكن عند أول انهيار، وجد المستثمر نفسه مطالبًا برد الديون في وقت تنهار فيه قيم الأسهم، لتكون النتيجة كارثية على غالبية صغار المستثمرين.
هشاشة تنظيمية
- في الأيام الأخيرة من أكتوبر 1929، بدا وكأن "وول ستريت" فقدت القدرة على التنفس أمام عواصف البيع العشوائي وغياب القرار الحاسم من رأس الدولة، حيث وقف الرئيس "هيربرت هوفر" متردداً بين حماية إرثه السياسي وبين إنقاذ النظام المالي المنهار، ليفسح المجال أمام خليفته "فرانكلين روزفلت" الذي اندفع بحسم لإعلان أول عطلة مصرفية شاملة في تاريخ الولايات المتحدة.
عبرة التاريخ
- قبل ثلاثة أيام فقط من "الثلاثاء الأسود" حين انهار السوق بأكثر من 11%، قال: "ألبرت أينشتاين": "لا يعيش الإنسان العادي طويلًا بما يكفي ليستفيد من تجربته الخاصة. ويبدو أنه لا يمكن لأحد الاستفادة من تجارب الآخرين. بصفتي أبًا ومعلمًا في آنٍ واحد، أعلم أننا لا نستطيع تعليم أطفالنا شيئًا... كل جيل يجب أن يتعلم الدرس من جديد".
المصادر: أرقام – نيويورك تايمز – ذا جارديان - سي بي إس نيوز - بيزنس إنسايدر - أمازون
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: