قبل عامه الستين بقليل، بدأ "جون بيترز" وهو موظف سابق في إحدى شركات التأمين بلندن، يشعر أن جسده لم يعد كما كان.
حينها بدأ "بيترز" يتابع إعلانات شاشة التلفاز وتلك المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كانت تعده بالحيوية والشباب الدائم عبر عبوات صغيرة ملوّنة من الفيتامينات والمكمّلات الغذائية.

في البداية كان الأمر يبدو بسيطًا: علبة فيتامين دال لتعويض نقص الشمس، ثم أخرى لفيتامين بي12، بجانب مكمّل للمفاصل، وآخر للمناعة.
وبعد نحو عامين، اكتشف أن ما ينفقه شهريًا على هذه المنتجات يفوق نفقاته الطبية الأخرى، حتى أصبح يقتطع جزءًا ملحوظًا من معاشه التقاعدي، عندها تساءل: هل تستحق هذه الحبوب البراقة كل هذا العناء؟ أم أنه أصبح ضحية لـ"فقاعة فيتامينية" غذّاها التسويق أكثر من الطب؟
وخلال العقد الأخير تحوّل تناول الفيتامينات والمكملات الغذائية من عادة يومية إلى صناعة عالمية ضخمة ومحرك استراتيجي لإيرادات شركات الأدوية.
وتزايد لجوء المستهلكين للفيتامينات كجزء من استراتيجيات الوقاية الذاتية لدعم المناعة، وتحسين جودة الحياة اليومية.
في المقابل، ضاعفت الشركات الكبرى استثماراتها في سلاسل الإنتاج والتوزيع وبناء العلامات التجارية، لتتحول هذه السوق إلى مصدر متنامٍ للأرباح حيث يعكس التقاء الدوافع الصحية بالمصالح الاقتصادية.
أرقام تعكس تحوّل سوق الفيتامينات
يشهد سوق الفيتامينات والمكمّلات الغذائية نموًا متسارعًا، حيث بلغ حجمه العالمي نحو 138.2 مليار دولار أمريكي في عام 2024 وفقًا لتقديرات تحليلية حديثة، مع توقّعات بمواصلة الارتفاع خلال السنوات المقبلة، بحسب بيانات نشرها موقع جلوبال داتا.
وبحسب تلك البيانات، يعكس هذا الرقم فقط فئة الفيتامينات ضمن سوق أوسع يشمل أنواع المكمّلات الغذائية كافة، والذي تتراوح تقديرات حجمه بين 180 و190 مليار دولار أمريكي خلال العام نفسه، تبعًا لاختلاف تعريفات المنتجات الداخلة ضمن التصنيف.
كما تُظهر الاستطلاعات أن استخدام المكمّلات بات ظاهرة عالمية واسعة، ففي الولايات المتحدة وحدها، تشير البيانات إلى أن نحو 74% من البالغين يستخدمون مكمّلات غذائية بانتظام، كما يعتبر عدد كبير منهم هذه المنتجات جزءًا أساسيًا من روتينهم اليومي.

ورغم تفاوت نسب الاستخدام بين الدول، لكن هناك اتجاه عام واضح يتمثل في الاعتماد على المكملات كوسيلة وقائية يتنامى باستمرار، مدفوعًا بتزايد الوعي الصحي، واتساع نطاق التسويق الرقمي، ونمو قنوات البيع بالتجزئة.
وعلى الجانب الاستثماري، أصبحت هذه الصناعة تجذب اهتمامًا كبيرًا من الشركات والمستثمرين على حد سواء.
فقد شهدت شركات متخصّصة في هذا المجال مثل ألاند هيلث الصينية عمليات استحواذ وتقييمات بمليارات الدولارات خلال عام 2025، ما يعكس تحول هذا القطاع من تجارة محدودة إلى صناعة ضخمة ذات جاذبية مالية واستراتيجية في الأسواق العالمية.
الفيتامينات كأداة وقائية
لطالما تم الترويج للفيتامينات باعتبارها وسيلة فعّالة للوقاية من الأمراض، خصوصًا تلك المرتبطة بالمناعة والجهاز التنفسي خلال مواسم الإنفلونزا وفترات تفشّي الأمراض مثل كوفيد-19.
ورغم أن الأدلة العلمية حول هذا الادعاء لا تزال متفاوتة، فإنها ليست منعدمة تمامًا، إذ يُعد فيتامين د من أبرز الأمثلة في هذا السياق.
وأظهرت تحليلات منهجية شاملة لعدد من التجارب السريرية العشوائية أن مكملات فيتامين د يمكن أن تُسهم في تقليل خطر الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي الحادة لدى فئات معينة من الأفراد.
وأكدت أبحاث لاحقة وجود تأثير وقائي محدود إلى متوسط في بعض المجموعات السكانية، خاصة لدى من يعانون نقصا حادا في هذا الفيتامين.
ومع ذلك، يرى عدد من الدراسات الأخرى أن الأدلة المتاحة لا تكفي لتوصية عامة بتناوله بشكل وقائي للجميع، ما يجعل الإجماع العلمي الحالي يميل إلى نهج أكثر حذرًا يقوم على معالجة النقص المؤكد فقط من خلال الفحص الطبي والتقييم الفردي للحالة.
وفي السياق ذاته، تُظهر دراسات أوروبية وأميركية واسعة النطاق أن ملايين الأشخاص حول العالم لا يحصلون على الكميات الكافية من بعض العناصر الغذائية الأساسية.
وتشير بحوث أجرتها جهات أكاديمية مثل جامعة هارفارد بالتعاون مع التحالف العالمي لتحسين التغذية (GAIN) إلى أن أكثر من نصف سكان العالم يعانون درجات متفاوتة من نقص المغذيات الدقيقة.

هذا الواقع يجعل المكملات الغذائية وسيلة عملية لتصحيح تلك الفجوات الغذائية، خصوصًا في الحالات التي يصعب فيها الحصول على الكميات المطلوبة من النظام الغذائي اليومي وحده.
ومع ذلك، فإن الحاجة إلى المكمّلات لا تعني بالضرورة استخدامها الدائم، بل تُحدد بناءً على الحاجة الطبية الفعلية.
وباختصار، فإن بعض الفيتامينات والمعادن -مثل فيتامين د والحديد وفيتامين ب12- أثبتت فعاليتها في معالجة حالات النقص وتحسين بعض المؤشرات الصحية المحددة.
أما الادعاء بأن الفيتامينات قادرة على الوقاية من جميع الأمراض أو تعزيز المناعة بشكل شامل، فلا يزال غير مدعوم بالأدلة العلمية القاطعة.
وتبقى السياسات الصحية الأكثر فعالية هي تلك التي تستند إلى الكشف المبكر عن النقص ومعالجته عبر تدخلات موجهة ومدروسة.
كنز ثمين لشركات الأدوية
تحوّل سوق الفيتامينات والمكمّلات الغذائية إلى أحد أكثر القطاعات جذبًا لشركات الأدوية العالمية، بعدما أثبت قدرته على تحقيق ربحية مرتفعة واستثمار طويل الأمد مقارنة بالأدوية التقليدية التي تتطلّب سنوات من الأبحاث والتجارب السريرية المكلفة.
فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة هاليون البريطانية المتخصصة في الصحة الاستهلاكية عن تحقيق إيرادات بلغت 11.2 مليار جنيه إسترليني (14.6 مليار دولار أمريكي) في عام 2024، حيث شكلت الفيتامينات والمكملات الغذائية نحو 15% من إيراداتها.
|
جدول تطوّر سوق الفيتامينات عالميًا: |
||
|
السنة |
حجم السوق (مليار دولار أمريكي) |
معدل النمو السنوي (%) |
|
2020 |
112.5 |
4.8 |
|
2022 |
125.9 |
5.2 |
|
2024 |
138.2 |
5.4 |
|
2025 (تقديري) |
146.0 |
5.7 |
إلى جانب نمو الإيرادات، تشهد صفقات الاستحواذ في القطاع تحركًا واضحًا، ففي مارس 2025، باعت شركة فايزر حصتها البالغة حوالي 7.3% في هاليون مقابل نحو 3.24 مليار دولار.

في خطوة تُظهر استمرار الشركات الدوائية الكبرى في إعادة هيكلة محافظها الاستثمارية للتركيز على أنشطة الأدوية المبتكرة والعلاجات المتخصصة، مع ترك مساحة أكبر لشركات الصحة الاستهلاكية المستقلة لتعزيز وجودها في سوق المكملات الغذائية والمنتجات الوقائية.
كذلك في مارس 2025 أعلنت شركة ألمانية للأدوية تعزيز حصتها في شركة مكملات غذائية من خلال استحواذ مدعوم من مستشار قانوني عالمي، ما يؤذن بأن شركات الأدوية تنظر للمكملات كمكوّن أساسي في محفظة الصحة الشاملة.
هذه الأمثلة تؤكد أن سوق الفيتامينات لم يعد مجرد "تدبير ثانوي" لصناعة الدواء، بل أصبح ركيزة نمو لشركات الأدوية التي تبحث عن تدفقات دخل أقل تقلبًا من البحث الدوائي التقليدي، وتتيح لها ابتكار علاجات يومية موجهة للمستهلكين دون وصفة طبية.
وتؤكد هذه الاتجاهات أن سوق المكملات لم يعد هامشيًا أو مكملًا ثانويًا لصناعة الدواء، بل تحوّل إلى ركيزة تجارية واستراتيجية تضمن استمرارية الإيرادات وتدعم النمو في بيئة اقتصادية تتغير بسرعة.
وما بين الأمل في تحسين الصحة والخطر الكامن في الإفراط، يقف سوق الفيتامينات والمكمّلات الغذائية عند مفترق طرقٍ حاسم.
فقد تحوّل من صناعة هامشية إلى قطاع اقتصادي ضخم يستقطب استثمارات شركات الأدوية الكبرى، ويؤثر في قرارات المستهلكين اليومية.
لكن خلف هذا النمو الهائل، تظل الحقيقة العلمية أكثر تعقيدًا؛ إذ لا تزال الأدلة متفاوتة حول الفوائد الوقائية العامة للفيتامينات، في حين أن دورها المؤكد يظل محصورًا في تصحيح حالات النقص المحددة.
لذا فإن مستقبل هذا السوق لن يُبنى على الوعود التسويقية بقدر ما سيعتمد على الشفافية العلمية، والتنظيم الذكي، وتثقيف المستهلكين لتمييز الحاجة الحقيقية من العادة المكلفة.
فالفيتامينات لن تختفي، لكنها قد تشهد تطورًا للتحول من رمز للموضة الصحية إلى أداة مدروسة في منظومة الطب الوقائي الحديثة.
المصادر: أرقام- جلوبال داتا- جراند فيو ريسيرش- مجلس المسؤولية عن التغذية الأمريكي- مجلة "بي إم جيه- هارفارد تي. إتش. تشان للصحة العامة- رويترز
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: