بداية يجب ان نعترف بالقصور والغموض الذي يكتنف قانون انشاء هيئة الاوراق المالية والسلع على الرغم من شحذ هيئة الاوراق المالية والسلع الهمم في ملاحقة مرتكبي المخالفات القانونية والإشراف على عمليات الإفصاح للشركات من قبل إدارة الإفصاح التي لاقت استحسان واحترام الجميع منذ العام الماضي فقط والاعتراف بضعفها في الأعوام السابقة الذي منح بعض مجالس إدارات الشركات استغلال ذلك الضعف بالتلاعب في عمليات الإفصاح من خلال الإيهام احيانا والإبهام أحيانا أخرى.
فإن كان القانون يجدي للخروج من أزمة سوقنا المالي في العام 1998 إلا أن ذلك بحاجة إلى تطوير مستمر لاتغنيه قرارات الهيئة، فسعي الهيئة لإصدار القرارات في مجال التنظيم لايشبع رغبة السوق الذي هو في أمس الحاجة للحماية الشاملة فأين قانون صناديق الاستثمار، الشركات القابضة، محافظ الأوراق المالية والقواعد القانونية الحاكمة للشراء الهامشي، والقواعد الحاكمة جرائم البورصة التي عصفت بأموال المستثمرين فكان من الأجدر ان تسن كافة القرارات المنظمة للسوق في لائحة تنظيمية واحدة بعيدا عن تعددها وتراميها خاصة إذا علمنا ان القرارات المتعلقة بالوسطاء بلغت ثمانية قرارات في غضون فقط السنتين الأخيرتين والذي كان آخرها القرار رقم (17/ر) لسنة 2007 في شأن تصفية واندماج الوسطاء على الرغم من ان بعض تلك القرارات جاءت مسايرة لتجارب دول أخرى منذ عقود مضت فكان من الأجدر تبنيها منذ البداية وغير ذلك من الملاحظات التي لامقام لها في هذا المقال.
لعل أهم ما دعاني إلى كتابة مقالي حول التلاعب في أسعار الأسهم في سوق الأوراق المالية أو ما يطلق عليه manipulation stock-price هو كشف الغموض واللبس الذي قد يقع فيه المحققون في هذا النوع من المخالفات وملاحقة مرتكبيها والتي يجب التنبيه إليها وتحديد الإطار القانوني العام لها نتيجة للغموض التشريعي.
شهدنا احداث إحدى قضايا التلاعب في أسعار الأسهم المدرجة في سوق دبي المالي التي قيل إنها أثرت على السوق وأدت الى زعزعة الثقة المترسخة في نفوس المستثمرين، وهذا في الحقيقة ذكرني بحوادث التلاعب التي عصفت ومازالت تعصف بالسوق الأمريكي وبورصات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ففي العقد السابق اعترفت المحكمة العليا الأمريكية في احد أحكامها ان عمليات التلاعب والاحتيال التي تعصف بسعر ورقة مالية مدرجة من الصعوبة إثباته بالأدلة غير قاطعة وذلك لوجود خط فاصل رفيع جدا بين المشروع وغير المشروع (وتقصد به المحكمة المضاربة المشروعة وغير المشروعة) لذلك فكثيرا ماتم تبرئة المتهمين.
ولعل مايؤكد تلك الصعوبة ان ساحة القضاء في فرنسا التي سنت نصوصها القانونية المتعلقة بالتلاعب في الأسعار منذ العام 1937 لم تشهد إلا اربعة أحكام قضائية أدين فيها المتهمون بعقوبات مختلفة وذلك بعد اقتناع القضاء بتوافر أركان الفعل الإجرامي، وفي المقابل تجنب الحكم بالإدانة عند ضعف الأدلة المكونة لقناعته.
فعلى الرغم من ان تشريعات سوق الأوراق المالية في العالم تبدو افضل حالا مما كانت عليه في السابق في شأن مكافحة عمليات التلاعب في البورصة إلا ان تلك العمليات غير القانونية مازالت تأخذ حيزا من جهد ووقت جهات التحقيق ورجال القضاء فالتلاعب بأسعار الأسهم أمر شائع وواسع الانتشار في أسواق الأوراق المالية العالمية فهي من الجرائم التي يرتكبها عادة اصحاب النفوذ وبمبالغ ضخمة.
فالصين (التي يبلغ عدد المساهمين في بورصاتها وفقا للإحصائيات الصادرة عن هيئة سوق المال الصينية CSRC - 68 مليون مساهم بما يقارب تعداد كل سكان مصر) على سبيل المثال شهدت مؤخرا القضية الأسوأ في تاريخها والتي هزت أركان السوق وجيشت لها جيوش من المحققين لمقاضاة سبعة من المستثمرين من بينهم رئيسان سابقان لشركة يطلق عليها Shenzhen China Venture Capital Company بعد ان قاموا بإيجاد حركة نشطة غير مشروعة على سهم تلك الشركة من خلال ضخ مبالغ قدرت ب 700 مليون دولار أمريكي من خلال 1500 حساب مع وسطاء ماليين في 20 مقاطعة ومدينه عمت أرجاء البلاد.
وفي اليابان أسدلت المحكمة الجنائية الستار على قضية شركة لايفدور اليابانية للانترنت ورئيسها التنفيذي تكفومي التي هزت هي الاخرى بورصة طوكيو ثاني اكبر بورصة في العالم بعدما أوقف التداول وزعزعة الثقة ليس ذلك فحسب بل أحرجت تلك القضية رئيس الوزراء كويزومي الذي رشح المتهم في القضية تكفومي هوري ليكون احد مفاتيح الإصلاح الاقتصادي التي ينشدها في تشكيل وزارته الجديدة، ولكن للأسف خاب ظنه وتبخرت أحلامه بعدما تم إدانة هوري في جريمة التلاعب من خلال تحريف التقارير المالية المتعلقة بشركته (لايفدور التي أسسها في العام 1996 وكان عمره وقتها 22 عاما وبلغت قيمتها السوقية في عشرة أعوام ستة مليارات دولار 1996) بغرض رفع سعرها في السوق بعدما أثبتت الأدلة القاطعة تلاعبه غير القانوني وانتهاكه قانون البورصة من خلال التآمر مع غيره فحكمت المحكمة عليه بدفع مبلغ 280 مليون ين (2،8 مليون دولار) الشهر الماضي وليقضي عقوبة الحبس لمدة السنتين والنصف.
وإذا انتقلنا إلى أوروبا نجد ان الأسواق المالية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يعانون من تلك التلاعبات المؤثرة، لأجل ذلك ومن اجل توحيد القواعد التشريعية فقد اصدر الاتحاد الأوروبي التوجيهات المتعلقة بالتعامل الداخلي والتلاعب بالسوق في العام 2003 والتي اشير فيها إلى أنواع التعاملات المحظورة وغيرها من عمليات التلاعب في سوق الأوراق المالية التي تعد مرتعا خصبا للعمليات الاحتيالية في ظل ضعف عمليات الرقابة بل وصعوبتها في احيان اخرى.
والمطلع لتلك التوجيهات التي تبنتها جميع الدول الأوربية الأعضاء في الاتحاد وضمنتها ضمن تشريعاتها الوطنية يكتشف سلاسة ووضوح تلك النصوص التي بينت لجهات التحقيق وللسلطة القضائية معالم وأركان جريمة التلاعب في الأسعار.
فنص على تجريم هذا التعامل المشرع الانجليزي في قانون الخدمات المالية والتلاعب في السوق الصادر عام 2000 بعد ان شهدت بريطانيا أول قضية تلاعب في العام 1817 وهي قضية ريكس مقابل درينجر، وكذلك المشرع الألماني في المادة 20 من قانون سوق الأوراق المالية والمعدلة في العام 2004 مجاراة للتوجيه الأوروبي.
أما السوق الفرنسي فقد عرف هذا النوع من التعامل منذ القدم حيث تعد هذه الجريمة أول انواع جرائم البورصة التي نص على تجريمها في قانون العقوبات القديم رقم 3 لسنة 1936 وتم تطعيم كافة القوانين اللاحقة بمضمونها بما في ذلك قانون الأنشطة المالية الصادر في العام 1996 وقانون الأمن المالي رقم 706 لعام 2003 وعلى الرغم من قدم هذه الجريمة في فرنسا فإنها نادرة الحدوث على عكس الولايات المتحدة الأمريكية التي سجلت 142 قضية حتى العام 2001.
فالتلاعب في سوق الأوراق المالية ليس بالظاهرة الحديثة كما ذكرنا بل عانت ولا تزال تعاني منه الدول الغربية قبل العربية ذات الخبرة في التعامل مع عمليات الاحتيال التي يعد ذيوعها واستفحالها وضعف الرقابة عليها نذير أزمة قد تعصف بتلك الأسواق.
فانهيار الشركات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية التي رسمت لحملة أسهمها أحلاما وردية انهارت مخلفة وراءها حيرة على وجوه المستثمرين وكشفت القناع عن بقية الشركات التي حاولت ان توصد الأبواب كي تخفي زيف تعاملاتها كشركة انرون وورلد كوم وشركة المحاسبة آرثر أندرسون وعليه فان كنا قد سلمنا بأن سوق الأسهم يعد البوابة التي يتزاحم عليها المستثمرون من اجل تعظيم المنفعة وزيادة ارباحهم، فإنه يجب عدم إنكار المخاطر غير التجارية التي تعترضهم وبصفة خاصة مخاطر الاحتيال التي قد يتعرضون لها وهي في الحقيقة آفة ومرض ينتشر في جسد السوق لينخر في الثقة التي يوليها المستثمرون.
فالمشرع ان أوصد الأبواب أمام هذا الصنف من المحتالين من خلال سن التشريعات، وغربلة إدارة السوق من خلال مراقبة الصفقات وشحذت هيئة الأوراق المالية والسلع في دولة الإمارات العربية المتحدة والدول الاخرى الهمم من اجل ملاحقة مرتكبيها إلا اننا نجد ان التلاعب بالأسعار وغيرها من العمليات الاحتيالية مازال يطرق ابواب أسواق الأوراق المالية بين الفينة والاخرى ليقض مضجع المراقبين والمستثمرين.
تحليل التعليقات: