يخوض المستثمرون الكبار في الأسواق العالمية رهاناتهم على الدول، متتبعين تيارات أسعار الصرف وأسعار الفائدة.
وغالبًا ما تتطلّب هذه الصفقات نظرة طويلة المدى أكثر من المستثمرين التقليديين، إذ ينبغي عليهم النظر ليس فقط إلى السياسة النقدية والمالية للدولة، بل أيضًا إلى سياستها ومؤسساتها.
قليلون حققوا نجاحًا في هذا المجال مثل راي داليو، مؤسس شركة بريدج ووتر(Bridgewater Associates ) قبل خمسة عقود.
في كتابه الجديد "كيف تُفلس الدول " (How Countries Go Broke)، يسعى داليو إلى الكشف عن العناصر الأساسية للاستراتيجيته الاستثمارية فائقة الربحية.
تحديد المخاطر
يركز الكتاب بالأخص على كيفية تحديد المخاطر المرتبطة بالتحولات الكبرى التي تحدث مرة في كل جيل.. تلك التحولات التي لا يلاحظها معظم المستثمرين وصنّاع السياسات إلا بعد فوات الأوان.
يشدّد داليو على أهمية دراسة البيانات التاريخية الممتدة على مدى طويل جدًا، حتى يمكن التمييز بين الموجات الاقتصادية الكبرى التي قد تمتد لقرن من الزمان، والتي يطلق عليها اسم "دورة الديون الكبرى" وبين الدورات الاقتصادية العادية قصيرة الأجل التي لا تحمل نفس الأثر العميق.
في الفصل الأول من كتابه، يشدد داليو على أن الأزمات الكبرى للديون أمر لا مفر منه.
ويشير بإصبع الاتهام إلى قرارات الإقراض السيئة وغير المنضبطة التي تؤدي إلى تراكم مفرط في الديون.
ويضيف داليو "على مر التاريخ، قلّة قليلة من الدول المنضبطة استطاعت تجنب هذه الأزمات، بينما دمّرت أزمات الديون العديد من الدول الأخرى".
التنبؤ بتوقيت الأزمات
لتفادي مثل هذا المصير، يرى داليو أنه يمكن عبر استخدام مجموعة من المؤشرات - تشمل الدين والدخل وأسعار الفائدة والادخار والنمو وغيرها - التنبؤ بتوقيت الأزمات بدرجة كبيرة من الدقة.
الكتاب مليء بالجداول والرسوم البيانية والمعادلات والنقاط المضيئة التي تشرح كيف يمكن لدولة أن "تفلس". عشّاق البيانات سيجدون متعة كبيرة فيه.
لكن في المقابل، يفتقر الكتاب إلى دراسات حالة واقعية أو اختبارات إحصائية واضحة، ويركّز أكثر على فكرة أن الاستراتيجيات التي يتحدث عنها الكاتب قد جعلته من أغنى المستثمرين في العالم.
استنتاجات متقاربة
من اللافت أيضًا أن داليو لا يشير إلى كتب سابقة تناولت موضوعًا مشابهًا - بما في ذلك كتاب "هذه المرة مختلفة" الذي صدر عام 2009 لمؤلفيه كارمن راينهارت وكنيث روجوف.
واستخدم ذلك الكتاب أبحاثًا أرشيفية موسّعة وتوصّل إلى استنتاجات متقاربة حول أهمية دراسة البيانات التاريخية الممتدة لعدة قرون وعبر دول متعددة لتقييم احتمالات وقوع أزمات ديون أو تضخم نادرة.
كان من المثير للاهتمام معرفة المزيد في هذا السياق، إذ تُظهر الأدبيات الاقتصادية أن التنبؤ بالأزمات المالية وأزمات الديون بدقة عالية أمر شبه مستحيل حتى اللحظات القريبة من وقوعها.
ومع ذلك هناك مؤشرات معروفة يمكن مراقبتها، مثل:
- سعر صرف مبالغ في قيمته.
- عجز حكومي مستمر وكبير في الميزانية والحساب الجاري.
- وارتفاع الديون المستحقة على الدولة تجاه الدائنين الأجانب.
لكن حتى هذه المؤشرات - التي تنطبق جميعها على الولايات المتحدة اليوم - لا توفّر دقة كافية من حيث توقيت الأزمة الذي يحتاجه المستثمر لتحقيق ربح ضخم.
وكما يعرف قرّاء كتاب "The Big Short" لمايكل لويس، فإن التوقيت هو كل شيء، والحظ يلعب دورًا كبيرًا.
المستثمر الذي يراهن مبكرًا ضد ديون دولة ما قد يتكبّد خسائر كبيرة لفترة طويلة قبل أن تتحقق رهاناته الكبرى.
وكما قال الاقتصادي البريطاني الشهير جون ماينارد كينز: "يمكن للسوق أن تبقى غير عقلانية لمدة أطول مما يمكنك أنت أن تبقى قادرًا على تحمّل الخسائر".
توقيت دورات الديون
ومع ذلك، حتى إن لم يمتلك معظم المستثمرين موهبة داليو الفريدة في توقيت دورات الديون، فإن صُنّاع السياسات سيكون من الحكمة أن يأخذوا تحذيراته على محمل الجد.
يقول داليو في تحذيراته "وفقًا لمقاييسي، فإن الولايات المتحدة ومعظم الدول الكبرى الأخرى (بما في ذلك بقية دول مجموعة السبع والصين) تعيش المراحل المتأخرة من دورات ديونها الكبرى".
ويضيف "إذا لم تتم السيطرة على الأوضاع بطريقة ما، فإن احتمال حدوث عملية إعادة هيكلة أو طباعة نقد ضخمة لتغطية الديون خلال السنوات الخمس المقبلة مرتفع جدًا - حوالي 65%".
السياسات الاقتصادية الكلية
بعض أفضل فصول الكتاب هي تلك التي يعرض فيها داليو رؤيته للسياسات الاقتصادية الكلية.
في أحد الفصول المتميزة، يوجّه نقدًا لاذعًا لصنّاع السياسة في اليابان، بعد أزمة التسعينيات، إذ يتهمهم بالفشل في فرض شطب للديون بعد الأزمة المالية، ما ترك النظام المالي مثقلًا بالديون وأضعف نمو البلاد لعقود لاحقة.
ويختتم الكتاب بفصل حاسم حول المسار المالي غير المستدام للولايات المتحدة. وبرغم النغمة المتشائمة التي تطغى على الفصول السابقة، فإن الحل الذي يقترحه داليو يبدو معتدلًا وقابلًا للتطبيق.
يرى داليو أن مفتاح الاستقرار هو ببساطة خفض العجز المالي الأمريكي إلى نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي (مقابل 6.4% في عام 2024).
لكن هل هذا كافٍ فعلاً؟
مع بقاء أسعار الفائدة الحقيقية طويلة الأجل عند مستويات مرتفعة، يبدو أن الدين الأمريكي سيستمر في القفز من مستوى إلى آخر بعد كل أزمة جديدة.
فهل ينبغي إذًا تحقيق توازن في الميزانية خلال فترات النمو المرتفع استعدادًا للأسوأ؟
يبقى هذا السؤال مفتوحًا، لكن ما يبدو مؤكدًا هو أن داليو يريد من القرّاء، سواء كانوا مستثمرين أو صنّاع قرار، أن يدركوا أن التوقيت، كما العبرة بالتاريخ الطويل، هو كل شيء.
المصدر: فاينانشال تايمز
كن أول من يعلق على الخبر
تحليل التعليقات: