الهجرة بعد التقاعد .. لماذا ازدادت ظاهرة المتقاعدين المغتربين؟

في مساء بارد من أمسيات لندن، كان "جون كارتر" وزوجته "هيلين" يجلسان أمام المدفأة الصغيرة في شقتهما القديمة بضاحية كرويدون، يتصفحان حساباتهما الشهرية بعد إكمال أول عام لهما من التقاعد.

ورغم قضاء الزوجين قرابة 40 عامًا في العمل — هو في هيئة البريد، وهي في مدرسة حكومية — اكتشف "كارتر" وزوجته أن دخلهما التقاعدي لا يكفي لتغطية الإيجار والضرائب والرعاية الصحية المتزايدة.

ومع مرور الوقت، بدآ يبحثان عن بدائل أكثر راحة وكرامة، وقرأ كل منهما قصصًا وتجارب لمتقاعدين وجدوا حياة جديدة في دول مشمسة وأقل تكلفة، وتوقفا طويلًا أمام تجربة زوجين بريطانيين يعيشان في جنوب البرتغال بنصف التكلفة تقريبًا مقارنة بلندن.

ولفت انتباههما تعليق الزوج "لقد وجدت ما لم أجده في أوروبا… الدفء، التكلفة المنخفضة، والشعور بأن الحياة بدأت من جديد"، مشيرًا إلى أن الشمس الدافئة متواجدة أغلب أيام السنة في جنوب البرتغال، فيما تقل تكاليف المعيشة بنحو 30 إلى 40% عما كان يدفعه في السابق.

وبعد أشهر من التفكير، قرّر "جون" و"هيلين" القيام بخطوة لم يتخيلاها يومًا وهي بيع شقتهما والانتقال إلى مدينة "فارو" الساحلية في البرتغال.

وأصبح كلاهما يعيشان الآن في منزل صغير يطل على البحر، ويستيقظان على شمس دافئة بدل الضباب، وينفقان أقل من نصف ما كانا ينفقانه في بريطانيا.

وتقضي "هيلين" صباحها في سوق الأسماك القديم، بينما يذهب "جون" للمشي على الشاطئ قبل أن ينضمّا في المساء إلى صحبة من متقاعدين قادمين من دول أوروبية.

قصة الزوجين ليست استثناءً، فخلال السنوات العشر الأخيرة، ارتفع عدد المتقاعدين الذين يختارون الهجرة بعد التقاعد بحثًا عن تكلفة معيشة أقل، أو رعاية صحية أفضل، أو نمط حياة أكثر دفئًا وهدوءًا.

من البرتغال إلى المكسيك، ومن تايلاند إلى كوستاريكا، أصبحت الظاهرة المسماة "الهجرة الدولية عند التقاعد تجسد التحديات التي يواجهها العديد من المتقاعدين حول العالم.

وتشير البيانات إلى أن الظاهرة لم تعد هامشية، بل باتت جزءًا من حركة التنقل العالمية التي تؤثر على سياسات السكن والصحة والهجرة لدى الوجهات والمصادر على حد سواء.

الدوافع وراء هجرة المتقاعدين

تزايد أعداد المتقاعدين الذين يختارون مغادرة أوطانهم طواعية بعد انتهاء مسيرتهم المهنية ليس ظاهرة عابرة، بل نتيجة مزيج معقّد من العوامل الاقتصادية والصحية والاجتماعية.

وتظهر الدراسات أن قرار الهجرة في هذه المرحلة العمرية عادة ما يتشكل عبر منظومة من الاحتياجات العملية والتطلعات الشخصية، ويرتبط أول هذه الدوافع بالاقتصاد ومحدودية الدخل بعد التقاعد، ليصبح البحث عن دول ذات تكلفة معيشة أقل خيارًا استراتيجيًا للكثيرين.

وقد أثبتت تجارب موثقة أن الانتقال إلى دول مثل البرتغال أو إسبانيا أو المكسيك أو كوستاريكا يتيح للمتقاعد مستوى معيشة أعلى مقابل إنفاق أقل مقارنة بدول أوروبا الغربية أو أميركا الشمالية.

ووفق تقرير التقاعد العالمي لعام 2025، تُصنف دول مثل البرتغال كأفضل وجهات التقاعد في العالم، بحصولها على 92.6/100 في التقييم العام، وهي الدولة الوحيدة التي تجاوزت عتبة 90 نقطة من بين 44 دولة ضمن التقرير.

وتشير عدة تقارير أن وجهات مثل البرتغال وبنما واليونان تزداد جاذبيتها عامًا بعد عام بفضل توازنها بين التكلفة المقبولة وجودة الحياة.

أما الدافع الثاني فيتعلق بالصحة وجودة الخدمات الطبية، فمع التقدم في العمر، تتزايد الحاجة إلى أنظمة رعاية صحية موثوقة وبتكاليف معقولة، وهو ما يدفع بعض المتقاعدين إلى إعادة تقييم مكان إقامتهم.

وتظهر دراسات متخصصة أن اتخاذ قرار الانتقال غالبًا ما يعتمد على عوامل مثل جودة المستشفيات، ومدة الانتظار، ووفرة الأطباء المتخصصين، وسهولة الحصول على التأمين الصحي، بل وحتى المسافة بين المنزل وأقرب مركز طبي.

وفي عدد من الوجهات الآسيوية وأميركا اللاتينية، أصبحت الرعاية الصحية المتوسطة التكلفة ولكن عالية الجودة عنصر جذب رئيسي للمتقاعدين الأجانب.

في حين يتمثل الدافع الثالث في المناخ ونمط الحياة، فالبحث عن أجواء أكثر دفئًا أو مواسم أكثر اعتدالًا يدفع آلاف المتقاعدين سنويًا إلى منطقة البحر المتوسط، أو المناطق الساحلية في أميركا اللاتينية، أو جزر جنوب شرق آسيا.

كما تلعب العوامل الاجتماعية والثقافية دورًا مؤثرًا، حيث توفر العديد من هذه الدول مجتمعات مغتربين واسعة تسهّل الاندماج وتخلق شبكات دعم اجتماعي جديدة، فضلًا عن البيئة الهادئة والأنشطة الخارجية التي تتناسب مع نمط الحياة بعد التقاعد.

الأرقام والدلائل

من الصعب إعطاء رقم عالمي دقيق لعدد المتقاعدين الذين هاجروا لأن الإحصاءات الرسمية لا تجمع دائمًا سبب الهجرة بحسب العمر أو حالة التقاعد، مع ذلك تشير عدة دلائل إلى زيادات ملموسة في الأعداد.

فعلى سبيل المثال ارتفع عدد المتقاعدين الأميركيين الذين يتلقون معاش الضمان الاجتماعي وهم يعيشون خارج الولايات المتحدة من أقل من 250 ألفًا في عام 2003 إلى أكثر من 450 ألفًا في 2023.

في حين أظهرت استبيانات أمريكية ارتفاعًا في نسبة من يفكرون في التقاعد بالخارج، إذ أفاد 17% من الأميركيين الذين تجاوزت أعمارهم 55 والمشاركين في إحدى الاستبيانات رغبتهم بالانتقال خارج البلاد، ما يعكس وجود اهتمام متزايد بشأن الهجرة عند التقاعد.

كما تظهر دراسات ميدانية أن هناك أعدادًا متزايدة من المتقاعدين المهاجرين في أوروبا، في حين تعتبر أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا من مناطق الجذب لهؤلاء المتقاعدين.

وفي أوروبا تعد البرتغال مثالًا حيًّا، إذ سجّلت ارتفاعًا كبيرًا في عدد المقيمين الأجانب خلال عامي 2023 و2024 كانت نسبة كبيرة منهم من المتقاعدين.

الفرص والمخاطر

إلى جانب البرتغال، التي أصبحت واحدة من أبرز الوجهات الأوروبية التي يختارها المتقاعدون، برزت دول مثل المكسيك وكوستاريكا وبنما كمقاصد مفضّلة للمتقاعدين الأمريكيين، نظرًا لتكاليف المعيشة المنخفضة، وقربها الجغرافي الذي يسهل الانتقال.

في الوقت نفسه، تمكنت دول آسيوية مثل ماليزيا وتايلاند من جذب عدد كبير من المتقاعدين بفضل برامج الإقامة طويلة الأجل وجودة الرعاية الصحية بأسعار أقل، مما جعلها وجهة مفضلة للمتقاعدين من أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.

من منظور الفرص الاقتصادية، يمثل وجود المتقاعدين الأجانب إضافة ملموسة للاقتصاد المحلي لدول الاستقبال.

إذ يساهم تدفقهم المالي الثابت في تنشيط سوق العقارات من خلال الشراء أو الإيجار، ويحفز الطلب على الخدمات الطبية الخاصة والمطاعم والأنشطة الترفيهية.

وقد تجلى ذلك في تجارب واضحة مثل توسع المجتمعات الأجنبية على السواحل الإسبانية، أو ازدياد الإقبال على العقارات في البرتغال، حيث أسهم ذلك في خلق وظائف جديدة في القطاع العقاري والسياحي.

كما يساهم بعض المتقاعدين الذين يمتلكون خبرات مهنية أو رؤوس أموال في إطلاق مشاريع صغيرة أو أعمال استشارية تضيف قيمة اقتصادية للمجتمعات المحلية.

إلا أن هناك مخاطر اجتماعية وصحية يجب أخذها في الاعتبار حيث تشير الدراسات إلى أن الانتقال في سن متقدمة قد يضعف شبكات الدعم الاجتماعي التقليدية، مثل الأسرة والجيران، مما يزيد من احتمالات العزلة الاجتماعية ويؤثر على الصحة النفسية والجسدية للمتقاعد.

إضافة إلى ذلك، قد يواجه المتقاعدون المغتربون صعوبات في الوصول إلى مستوى الرعاية الصحية الطارئة الذي اعتادوه في بلدانهم الأصلية، خاصة في حال تفاوت جودة الخدمات بين المدن الكبرى والمناطق النائية، أو بسبب محدودية التغطية التأمينية.

كما يواجه صانعو السياسات تحديات في موازنة الترحيب بالمتقاعدين كمصدر دخل ثابت للاقتصاد، وضمان قدرة نظم الرعاية الصحية والإسكان والخدمات العامة على استيعابهم دون فرض ضغط على السكان المحليين.

وتشير بعض الدراسات الأوروبية إلى أن سوء التخطيط قد يؤدي إلى فجوة في الخدمات الصحية أو خلق فروق اجتماعية بين السكان المحليين والجاليات الأجنبية.

في الختام، تعتبر الهجرة بعد التقاعد ظاهرة معقدة وليست مجرد موضة عابرة؛ فهي نتاج تفاعل سياسات الضمان الاجتماعي والاقتصاد، وانخفاض تكاليف المعيشة في بعض الوجهات، وتحسن جودة الرعاية الصحية في دول كانت تُعتبر سابقًا وجهات سياحية فقط.

كل ذلك يجعل قرار التقاعد مرحلة لإعادة اختيار نمط حياة جديد، ويعزز احتمالات استمرار هذه الظاهرة وتوسعها خلال السنوات القادمة.

المصادر: أرقام- مجلة ديموجرافيك ريسيرش- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- فوربس- مكتب الإحصاء البرتغالي- سي إن بي سي- بوابة بيانات الهجرة العالمية- المعهد الهولندي لتحليل الديموغرافيا- معهد إم بي آي